نقلًا عن صفحة الكاتب والمحامي اليساري الأستاذ حمدي عبد العزيز
ولدت بعد ثورة يوليو بست سنوات… وبادئ كل ذي بدء .. فأنا شخص لم يصنف يوماً ما كناصري… كما أنني بدأت بالانخراط في العمل الثقافي والسياسي العام بعد حل الإتحاد الإشتراكي ومنظمة الشباب.. أي أنني لم انخرط أنا أو أي من عائلتي أو أحد أقاربي المتعينين لي في مؤسسات العمل السياسي التي أنشأتها السلطة الناصرية، بالعكس فقد شاءت ظروف تكويني الإجتماعي والثقافي والسياسي أن أنتمي إلي تيار فكري وسياسي مختلف نوعاً ما هو التيار الماركسي .. ومع ذلك فإنني ، ووفق تجربتي الذاتية ومسيرتي الإنسانية أري نفسي مديناً لثورة يوليو وللحقبة الناصرية بغض النظر عن ملاحظاتنا حولها وبعض مآخذنا عليها، فلولا ثورة يوليو لكنت أحد أبناء مطاريد الجبل ، أو بدرجة أفضل أحد أفراد أسرة معدمة تملك قراريط قليلة من الأرض الزراعية (بضع نخلات) في قرية نزة المحزمين التابعة لمركز طهطا بمحافظة سوهاج ، حيث كان والدي أحد ثمانية أولاد لمزارع من مزارعي الصعيد لايمتلك إلا بضع نخلات ، وحيث كانت النخلة هي معيار الملكية في أرض ضيقة شحيحة تضن علي أهلها .. كانت الحال كما وصفها لي جدي في أيامه الأخيرة مردداً لكلمات ابن عروس .
(( أيام نبات ع الحصير وأيام نبات في الطل ..))
قامت الثورة وذهب والدي إلي الجيش في سن التجنيد وحكي لي كيف أنه أرتدي الحذاء لأول مرة في حياته في الجيش حيث كانوا هو وأعمامي وجدي لايعرفون سوي الحفاء أو في أفضل الأحوال “الحدوة” وهي عبارة عن نعل قاس كالح الشكل يذبح القدمين حتي تتعودا عليه ، ويصنع محلياً من قطع بقايا إطارات كاوتش عجلات العربات المستهلكة باستخدام مسامير حديدية مدببة صغيرة تتمرد مع الوقت لتمارس وخذها الدامي للقدم مع كل خطوة وعندما أتم أبي خدمته بالجيش كانت الثورة قد استحدثت نظام يقتضي أن لمن أتم مدة خدمته بالجيش الحق في أن يعين في وظيفة من وظائف الدولة التي كانت تفتح مجالات التشغيل علي أوسع مايكون ببناء المصانع والمدارس والمستشفيات وهيئات الخدمة العامة .. واصبح الترقي التعليمي والإجتماعي متاحاً للجميع بدأً من الحاصلين علي شهادة محو الأمية إلي المؤهلات التعليمية الأعلي فالأعلي أبي الحاصل علي شهادة محو الأمية أثناء فترة تجنيده بالجيش تم تعيينه بمقتضي ذلك كمسارياً في هيئة النقل العام ، وتم تسليمه وحدة سكنية تابعة للدولة بإيجار شهري قدره مائة وخمسون قرشاً فقط لاغير علي أن تصبح ملكاً خالصاً لايدفع عنه أي إيجار بعد خمسة وعشرين عاماً وهي الشقة رقم 12 بلوك 3 الدور الثالث بالمساكن الشعبية خلف قسم شرطة إمبابة والتي قضيت فيها طفولتي وجزء من صباي .. في الوقت نفسه كانت شركة مساهمة البحيرة تستصلح الأراضي الزراعية في الدائرة التي تقع شرق وغرب وجنوب ووسط الدلتا وتسلم بأمر من الدولة الأراضي المستصلحة للفلاحين المعدمين بأسعار زهيدة وبتقسيط ممل علي بضع سنوات أعطت الثورة جدي وأبنائه الثمانية قبلة الحياة بعد أن هيئت له وللآلاف من أمثاله هذه الفرصة باع نخلاته المحدودة ونزح مع من نزحوا من تلك الحياة الضنك بجنوب مصر إلي حيث الوجه البحري ، واستلم قطعة من الأرض المستصلحة بواسطة شركة مساهمة البحيرة ، وذلك ماسيكون سبب لتحول عائلتنا إلي محافظة البحيرة .. وبذلك أصبح أبي الكمساري الموظف الميري والذي يمتلك فرصة الحصول علي شقة بمجرد تقديم مستند عقد القران للدولة المصرية الجديدة مؤهلاً لأن يتقدم لخطبة أمي أبنة جدي الوريث لحوالي ستة أفدنة بالكمال والتمام بإحدي قري محافظة البحيرة ويذهب بها إلي القاهرة ليكمل تعليمه الليلي في مدارس الدولة الجديدة ويحصل علي الإبتدائية ثم الإعدادية ثم الثانوية العامة ثم بكالوريوس معهد ناصر للدراسات التعاونية ليترقي وظيفياً ويصبح أحد موظفي بنك التسليف الزراعي ..
وأصبحنا ننعم أنا وأخوتي بالتعليم المجاني الذي بفضله ما كان أبي وما كنا ، وماكنت ووجدت نفسي أحد تلاميذ مدرسة “الميثاق الوطني” الإبتدائية بإمبابة أنا وأختي ثم انتقلت إلي مدرسة الوحدة العربية التي تتوسط منطقة سيدي اسماعيل الإمبابي ومساكن إمبابة الشعبية التي كنا نقيم فيها ، وانتقلت أختي التي تصغرني إلي مدرسة أحمد عرابي الإبتدائية ، وأختي الأصغر في مدرسة عمر مكرم ، ثم دخلت فيما مدرسة إمبابه الحديثة الإعدادية ، ثم مدرسة الأورمان الثانوية بالدقي والتي لم أستمر فيها إلا عاماً واحداً إنتقلنا بعده بكاملنا إلي البحيرة .. كنا أطفال صغار لكننا كنا نشعر علي مدي أيامنا بأننا نقترب رويداً رويداً من الترقي والتنعم بدفء الطبقات الوسطي والتحلي بقيمها الصاعدة وثقافتها الجديدة في الحياة المصرية التي انعشتها شمس الستينيات وزخمها الوطني والآمال والأحلام المفعمة بواقع العزة والكرامة التي تدفقت إلي وجدان المصريين هذه الفترة .. كنا كسائر الأسر المصرية الشعبية نذهب إلي حديقة الحيوان ودور السينما في الأعياد والإجازات ، ونشتري ملابس الأعياد من الأقمشة المصرية الرائعة المصنعة في غزل المحلة وغزل حلوان وستيا وغيرها من المصانع المصرية ، وذلك من شركة الأزياء الحديثة وفروعها (بنزيون – عدس ريفولي – جاتينيو – هانو – الصالون الأخضر) أو من عمر افندي بالكارت الذي كان يصرفه العمل لوالدي مقابل خصومات زهيدة كل شهر كقسط لهذه المشتروات .. كذلك كنا -بنفس الحال – نشتري أجود الأحذية من فروع شركة (باتا) الشهيرة .. هكذا كان حال ومصائر أسرة محمد عبد العزيز درويش القادم من قرية نزة المحزمين إحدي قري طهطا التابعة لسوهاج إلي القاهرة وزوجته نسيمة احمد قطب دويدار القادمة من قرية كفر نكلا إحدي قري المحمودية التابعة للبحيرة في إلتقاء بين أحلام فلاحي الدلتا وفلاحي الصعيد في الحياة والترقي الذي أصبح متاحاً للطبقات الشعبية لأول مرة في تاريخ مصر فيما بعد رحيل الحملة الفرنسية ..
لم نكن في أعيادنا وخروجاتنا المبهجة نشعر بأي دونية تجاه أحد كبر شأنه الإجتماعي أو صغر .. فلم تكن هناك فوارق كبري في أزياء المصريين حتي منتصف سبعينيات القرن الماضي .. كان الجميع يرتدي ثياب العيد أو ثياب الخروج في ذوق وشياكة وبساطة .. لم يكن هناك فارق كبير في الأزياء مابين أبنة أو إبن المدير أو الطبيب أو المهندس أو العامل أو البقال ، أو عامل الوردية ، أو المهندس أو كافة التنوعات الفئوية الأخري .. هذه هي ثورة يوليو الذي كنت لولاها لكنت مرشحاً لأن أكون أبنا لقاطع طريق ، أو عامل ترحيلة في أفضل الأحوال .. وأن أكون أنا الذي تعلمت وتوظفت واصبحت شخصا محترماً في محيطه الإجتماعي والوظيفي .. أن أكون بدلاً من ذلك أحد مطاريد جبال الصعيد ، أو ربما أحد أفراد عصابات تهريب وتجارة السلاح التي كانت منتشرة في الصعيد إلي حد كبير .. أو أن أكون ذلك الذي لم يأت من الأصل ولم يستطع أن يخرج من صلب أبيه الذي كان يمكن أن يكون أحد أشقياء الصعيد لو لم تقم ثورة يوليو ، بحكم أن أشقياء الصعيد كانوا دائماً مايلقون مصرعهم في حقول القصب الكثيفة أو كهوف الجبال .. كان ذلك كان يعني إحتمالاً قوياً هو ألا أكون من حضور هذا العالم بشكل أم بآخر..، وألا يكون باستطاعتي ولوج عالم اليوم ، مسجلاً علي صفحتي علي الفيس بوك ، أو غيره من وسائل التكنولوجيا الرقمية …. مثل هذا الكلام .