رؤى

كيف تحولت حكايات الأسرة من القداسة الى “التريند”

سر بين ضفاف الكتب وخبرات الحياة, وأنفض الغبار عن قصص التاريخ , فلن  تجد أقوي من قدسية الأسرة ورباطها, وتأمل واقع العلاقات الاجتماعية فلن تجد أقوي من علاقة الزوجين.. الأمومة.. الأبوة .. الأخوة. نالت الأسرة قدسيتها منذ الحضارات القديمة إلي يومنا, فنجد بتاح حتب وزير الأسرة الخامسة يذهب منذ حوالي   2414قبل الميلاد يقول ” إذا أردت الحكمة فأحب شريكة حياتك، اعتن بها ترع بيتك، قرّبها من قلبك فقد جعلها الإله توأماً لحياتك… حب زوجتك بحرارة, وعن الأبوة يقول””كم هو رائع الابن الذي يطيع والده!”….وأنت أيها المرء، علم ابنك الكلام المتوارث، فربما كان مثالا يحذو حذوه أبناء العظماء”. للأسرة مكانتها المقدسة في الأديان السماوية , ففي سفر التكوين “لذلك يترك الرجل أبيه وأمه ويمتص زوجته ، ويصبحان جسداً واحداً” (2-24), وفي القرآن الكريم نجد قوله تعالي “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (الروم 21).

ويبقي مجموعة من التساؤلات المحيرة في الأفق , ما الذي حدث للأسرة في عصرنا, ولماذا نسمع عن جرائم العنف المتزايدة هذه الأيام؟ نحاول أن نبحث عن تفسير ذلك, عبر مجموعة من الحكايات.

بردية نصائح بتاح حتب للمتزوجين
بردية نصائح بتاح حتب للمتزوجين

الحكاية الأولي : رياح الرقمنة تفتح نوافذ الأسرة

أفرزت الحداثة وما بعدها تداعياتها علي الأسرة, وفتحت نوافذ جديدة , تمخض عنها العديد من الفرص والعديد من المحن. فلقد قادج واقع الإنترنت الرحب إلي فرص للأسرة من أجل التعارف والزواج, وتزخم العديد من مواقع التواصل الاجتماعي بفتح تعارف من أجل الزواج, ولقد برز ما يعرف باسم الخاطبة الرقمية وتنتشر في هذا السبيل العديد من الصفحات والمواقع والمجموعات. والغرض من هذا الحديث التأكيد علي أن الإنترنت وجماعاته لعب دوره في تكوين الأسرة, لم يقف الأمر عند هذا الحد, فإذا كان الإنترنت لعب دوره في تكوين الأسرة, فإنه لعب دوره أيضا في تفكك الأسرة, من خلال الطلاق.

 وتشير نتائج بحث الطلاق المبكر في مصر الصادر عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية – والذي أجري علي دراسة مائة حالة- إلي أن الإنترنت لعب دوراً أساسياً فى العلاقة بين الزوجين, وقد تسبب فى العديد من المشكلات الزوجية, كما فتح باباً للخيانة الزوجية, فقد تبين من خلال نتائج الحالات الميدانية أن الإنترنت لعب دوره فى التأثير على الحوار الأسري, حيث أشار إلى ذلك ما يزيد عن ربع الحالات الميدانية. واتضح من خلال نتائج البحث الميداني, أن هناك خمس عشر حالة أشارت إلى حدوث خيانة زوجية من خلال الإنترنت, أثني عشر منهم متعلقين بالأزواج وثلاثة منهم متعلقة بالزوجات. تبين من خلال النتائج أن ما يزيد عن ربع الحالات من الحالات الميدانية أشارت إلى أن الإنترنت لعب دوره فى الانفصال العاطفى بين الزوجين.

الغرض من الحكاية الأولي التأكيد علي أن الأسرة خرجت إلي مجال الإنترنت في تكوينها من خلال الزواج , وفي تفكهها من خلال الطلاق.

الحكاية الثانية: الأسرة واليوتيوب من المجال الخاص إلي العام

تعد هذه الحكاية من الحكايات المثيرة, والتي تستوقف العقل وتستدعي التأمل فيما آلت إليه أحوال الأسرة في عصر اليوتيوب. إن الوصف الدقيق للأسرة ينطلق من النظر إليها علي أنها مجال خاص يحتوي زوجين وأبناء تحت سقف واحد, وتشهد حكايتنا الثانية علي التحولات التي طرأت علي الأسرة بسبب اليوتيوب والتيك توك.

سعت العديد من الأسر إلي تكوين قنوات عبر اليوتيوب, ونقصد بالقنوات هنا القنوات ذات الطابع الأسري, حيث تعرض الحياة الأسرية برمتها, ولكن لماذا هذا التوجه وما محتواه؟ للإجابة علي السؤال الأول , نجد أن العديد من الأسر أتخذت من اليويوتوب مجالاً للكسب وتحقيق الربح, فقد أسهمت الأرباح التي يعرضها اليوتيوب علي أصحاب القنوات, في زيوع وانتشار مهنة “اليوتيوبر”, فقد حقق الكثير منهم الكسب السهل, حتي مشاهير الفن والرياضة توجهوا إلي اليوتيوب لعرض أعمالهم من أجل الوصول إلي الجماهير, وتحقيق الأرباح السهلة. وفي ظل هذا التزاحم علي القنوات وسهولة فتحها وتعدد مضامينها وضع “اليوتيوب” شروطاً لتحقيق الأرباح, ومنها الوصول إلي ألف مشترك, مع الحصول علي 200 ألف مشاهدة, وأربعة آلاف ساعة مشاهدة. كما يقدم “اليوتيوب” دروع للقنوات التي تحقق نسبة عالية من المشاهدة, فالدرع الفضي تحصل عليه القناة التي يصل عدد المشتركين بها إلي 100 ألف مشترك , والدرع الذهبي للقناة التي تصل إلي مليون مشترك, والألماسي للقناة التي يصل عدد المشتركين بها إلي 100 مليون مشترك, والألماس الأحمر للقناة التي تصل إلي 100 مليون مشترك.

نجحت العديد من الأسر في الحصول علي دروع متعددة لليوتيوب, وحققت نقلة كبيرة في حياتهم, وأصبحت هذه الأسر نموذج للنجاح أستدعي معه التقليد, فانطلقت العديد من الأسر المصرية نحو اليوتيوب. ولكن ما المحتوي التي تقدمه هذه القنوات وهو السؤال الثاني ؟ إن الإجابة علي هذا السؤال ليس بالأمر العثير, ولا يحتاج الكثير من العناء في البحث, حيث أن هذه الأسرة تطرح حياتها اليومية بشكل كامل, ويمكن أن نقدم مجموعة من النماذج بشكل مجرد, فهناك أسر تسجل يومياتها منذ لحظة الاستيقاظ الأولي في الصباح الباكر وكل تفاصيل الحياة اليومية من العمل والبيت والأولاد, والطبخ , وحتي اختيار الملابس, وأدق التفاصيل اليومية, بالإضافة إلي ذلك نجد أن الخلافات الزوجية أيضاً يتم تصويرها, ونشرها عبر هذه القنوات, وربما يكون بعضها حقيقي وربما يكون بعضها مصطنع. واتجهت العديد من الأسر إلي الأمور الغريبة من أجل تحقيق أعلي معدلات للمشاهدة, وقد بلغ الأمر إلي تصوير ما يحدث بينهم من علاقات شخصية , وتم إغلاق بعض الحسابات علي اليوتيوب لهذا السبب, ونجد مشهد انتظار الزوج في عيادة الطبيب ليتعرف علي هوية مولوده, والزوج الذي يصور عملية الولادة لزوجته وينشرها, والزوجة التي تقوم بالطهي في غرفة النوم, والزوج الذي يأتي بمسبح في حجرة النوم ويرتدي وزوجته ملابس السباحة في غرفة المعيشة… وغيرها الكثير من الأمور الغريبة.

اليوتيوبر أحمد حسن وزوجته زينب، الذين يشتهرون بنقل تفاصيل حياتهم الخاصة على اليوتيوب

ويمكن أن نفسر ذلك بالبحث عن الشهرة وجني مزيد من الأرباح, ولكن يبقي القول بأن هذا الأمر ليس بالأمر الهين, فإن خروج الأسرة من مجالها الخاص إلي المجال العام, أنهي فكرة الخصوصية, وبالتالي أصبحت قضايا الأسرة مشاع , ويعد ذلك من أبرز الأسباب التي غيرت في قيم الأسرة المصرية, والأخطر أن هذه النماذج التي خرجت بالأسرة إلي الفضاء العام أصبحت قدوة وشخصيات عامة يسعي العديد إلي تقليدهم. ومما لاشك فيه أن الدوافع بالأساس تتمثل في جني الأرباح, والبحث عن الشهرة.

الحكاية الثالثة: العنف الأسري وموجة التريند

تمثل هذه الحكاية موجة التريند في مصر في هذه الآونة, فقد ذاع صيت الجرائم الأسرية عبر السوشيال ميديا, وباتت محور للحديث في العديد من وسائل الإعلام , حيث صدرت صور جديدة للعنف محورها الزوجة -علي الرغم من أن العنف متبادل- إلا أن الأمر بحاجة إلي توضيح مجموعة من الاعتبارات حول انتشار الجرائم الأسرية عبر المجتمع الرقمي. الأول يجب أن نأخذ في الاعتبار أن هذه الجرائم المصحوبة بالعنف ليست جديدة , ولكنها موجودة من أن خلق الأرض , فأول جريمة في التاريخ كانت أسرية من خلال أخ يقوم بقتل أخية. والاعتبار الثاني يتمثل في أن هذه الأحداث العنيفة مصدر شيوعها هو السوشيال ميديا, فهي بالأساس حوادث فردية لم تأخذ الطابع العام, وأن انتشارها وزيوعها سوف يؤثر بالسلب علي انتشار ثقافة العنف, ويتمثل الاعتبار الثالث في ضرورة النظر إلي هذه الجرائم بأنها تجارب خاصة فكل تجربة عنف لها ظروفها الخاصة التي تختلف من شخص لأخر.

نتفق أن وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة هي التي أبرزت هذه الجرائم الأسرية, ولكن التناول عبر السوشيال ميديا لهذه الجرائم أمر غاية في الخطورة, إذ أنها تراوحت بين الجد والهزل, فتصور العديد من الصفحات والمجموعات الصور التي تبين مدي عنف الزوجة, بلغ الأمر إلي أن العديد من قنوات اليوتيوب الأسرية صور الزوج بشكل كوميدي أنه مغلوب علي أمره وهو يقوم بتنظيف البيت وغسل المواعين, ومنهم من صور الزوج وهو يرتدي واقي من الرصاص, ومنهم من صور الزوج وهو يستجيب لكل طلبات زوجته خوفا من العنف, وكل ذلك بطبيعة الحال علي سبيل السخرية, واعتمدت هذه السخرية علي الصورة, وثقافة الصورة لها أعظم الأثر علي النفوس في عصر السوشيال ميديا.

إذا كانت الأسرة تأثرت منظوماتها القيمية بخروجها إلي المجال العام في السوشيال ميديا, فإن السخرية المتزايدة ستؤثر سلباً علي الصورة الذهنية للعلاقة بين الزوجين في الأسرة , وهذا الأمر بحاجة إلي تعامل أكثر رشداً.

أحدث جرائم العنف الأسري التي انتشرت على الإنترنت مؤخرًا 

الحكاية الرابعة:الأسرة وصيحات الفوتوسيشن

عن الحب يقول المتنبي :

كتمت حـبك حتى منك تكرمة

ثم استوى فيه إسراري وإعلاني

كأنه زاد حتى فاض عن جسدي

فصار سقمي به في جسم كتماني

نستدل من البيت أن الحب قيمة يستوي فيها السر بالعلن من فيض المشاعر, أما الآن – والحديث بدون تعميم- فإن العديد يستخدم السوشيال ميديا للتعبير عن الحب, بل وعن الكره والانفصال أيضاً. ثمة ثقافة جديدة للعديد من المقبلين علي الزواج, وهو الحصول علي التريند, وذلك عبر ثفافة الفوتوسيشن, حيث يقوموا بتصوير كل مراحل الخطوبة والإعداد للزواج, ناهيك عن الإسراف والمبالغة لدي الطبقات العليا في هذه الثقافة التي تهتم بكل تفاصيل الخطوبة ومراسم الزواج بشكل فيه الكثير من المبالغة – لدي البعض- الأمر الذي يجعل تركيز المقبلين علي الزواج يذهب إلي الاتفاق علي كيفية الحصول علي أكبر قدر من المشاهدات والاعجابات والشير, فتجد البعض يتجه إلي الصور الغريبة مثل الدخول للفرح بلبس مختلف عن تقاليد الزواج, والاتفاق علي ارتداء زي معين وموحد من الاصدقاء, وفوتوسيشن للخطوبة, وللزواج , وللحمل , وبعد الإنجاب, وفي مراسم عيد الزوج كما يسمونه… وغيره الكثير.

تشهد السوشيال ميديا علي الخروج بالمشاعر إلي المجال العام, وباتت ثقافة التقليد تزحف إلي العديد من الطبقات مع الاختلاف في التجهيزات والتكاليف بطبيعة الحال. أفرزت هذه الصور اهتمام بمظهرية الأسرة أكثر من جوهرها, فنجد في بحث الطلاق المبكر بين الشباب أن من أبرز أسباب الطلاق هو الاختلاف في التوقعات الأسرية, حيث أن الواقع يخالف التوقع, يقود ذلك الأمر إلي تفكك الأسرة مبكراً, كما أن اختلاف الثقافة بين الزوجين وعدم الوقوف علي أرض مشتركة يتسبب في انهيار العديد من الأسر, فأحاديث الخطوبة عن مستقبل الأسرة أهم من حديثها حول الصورة والتريند, ولعل هذه النتائج تكشف عن تحولات في قيم الخطوبة وليس الزواج أو الأسرة , بما يشكل تهديد للأسرة واستقرارها.

فوتوسيشن لزواج البلوجر اسراء مصطفى
فوتوسيشن لزواج البلوجر اسراء مصطفى

الحكايات كثيرة والحلول أكثر

التكامل بين الزوجين هو سيد الموقف فيذهب المثل الروسي”الرجل هو الرأس والمرأة هي الرقبة والرأس تدور حيث تدور الرقبة”  .

تشهد الأسرة تغيرات قيمية مصدرها خروجها إلي المجال العام, فحتي الخلافات الزوجية أصبحت علي مرأي ومسمع من المجموعات العامة والخاصة في كثير من الأحيان, يحتاج الأمر إلي إعادة النظر في الأسرة وكيانها كأحد ثوابت المجتمع, وأشير إلي ثلاثية مهمة من أجل الحفاظ علي الأسرة الأول دور المؤسسات الدينية , فقد آن الأوان أن يكون هناك خطاب ديني عصري يواكب تحولات العصر, فليس هناك مانع من خطبة عن التيك توك, أو اليوتيوب , ووسائل التواصل الاجتماعي… وغيرها من قضايا العصر, والثاني دور التعليم سواء الجامعي أو ما قبله ببث القيم الأسرية بشكل غير مباشر من خلال الأنشطة والمناهج , إعداد الأبناء للزواج وفهم قيمة الأسرة وخصوصاً في التعليم الجامعي, والثالث وسائل الإعلام حيث ينبغي أن يكون هناك سياسة إعلامية تسعي إلي انتاج أفلام ومسلسلات, بل وقنوات يوتيوب , وأفلام تسجيلية وقصيرة, وأن يكف الإعلام عن تصعيد الأحداث الفردية بعناوين كبيرة , تثير الرأي العام وتسير به في اتجاه زيوع العنف الأسري, لابد من تكاتف الجهود من أجل الحفاظ علي الأسرة واستقرارها.

الأسرة قوامها الحب والمودة والرحمة , وأختم بقول جبران خليل جبران “الحب لا يعطي إلا ذاته، ولا يأخذ إلا من ذاته، وهو لا يملك ولا يملك، فحسبه أنه الحب”

وليد رشاد زكي

أستاذ مساعد علم الاجتماع - المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock