للتاريخ ..بكي عبد الوهاب بسبب عبد الحليم مرتين الأولي عندما سمعه يغني له لكن ليس على طريقته فقال: اليوم أدركت وجود صوت مستقل عن عبد الوهاب وكان ذلك بحضور الموجي,في المرة الثانية عندماسمع صوت حليم في التليفون للمرة الأخيرة قبل موته ,علاقة الموسيقار والعندليب غريبة وعجيبة بين تنافس وإحتواء وشراكة ,واستقواء بالفن وبالسلطة كلاهماصعد علي قمة الغناء لكن عبد الوهاب يسبق عبد الحليم في الفن بسنوات طويلة, عبد الحليم لم يقل ولو مرة واحدة أن عبد الوهاب أفضل ملحن ,لكنه قال :عبد الوهاب لازم يفضل كبير في مكان كبير,و يقول عبد الوهاب عن نفسه في عدد مجلة الكواكب أغسطس 1950,فنان عبقري لو أن الله خلقه في أي عصرأو أي مكان لكان مخلوقاً فذاً يؤمن تماماً أن مكانه الطبيعي بين صفوف الزعماء, وكما نشرت الدكتورة رتيبة الحفني في كتابها الذي يحمل اسمه، إن عبد الوهاب درس الرأي العام دراسة عملية صحيحة فعرف رغباته وميوله, وساعدته هذه الدراسة على أن يقدم رسالته في التجديد الموسيقي في برشامة هضمها الشعب بسهولة واستطاع أن يكتب اسمه بحروف كبيرة في التاريخ الفني,
الزعيم محمد عبد الوهاب يسمي عبد الحليم
عبد الوهاب الموسيقار..هكذا يري نفسه زعيماً ,ربما لو دخل عبد الوهاب عالم السياسة لكان له شأن آخر, وهو نفسه كان يحب الزعيم مصطفي النحاس ,الذي كان يزورعبد الوهاب في بيته كثيرا هرباً من ملاحقات البشوات عند تشكيل الوزارة كما روي لسعد الدين وهبه ,و يضيف عبدالوهاب –عن نفسه- “استطاع أن يخلق لنفسه مكانة ممتازة في المجتمع، وهو في خطوات حياته الأولى، وأن يرتفع بهذه المكانة بفضل فنه، لا بفضل شهادة علمية أو ثروة مالية أو حسب أو نسب.. يحب العزلة.. ويرجع هذا إلى تجارب الدنيا التي علمته أن العزلة خير طريق لتجنب الشرور. فيه كثير من الفضائل المحمودة، ولكن أعداءه –وهم أعداء التجديد الفني- يفسرون هذه الفضائل على أنها رذائل مذمومة”.
علي الجانب الآخرهل كان عبدالوهاب (حلم أم كابوس) في حياة عبد الحليم حافظ , من انتصر من فاز من المستحيل تحديد فائز واحد او مهزوم واحد الأثنان دخلا لعبة الكبار كل منهما يعرف قيمة الآخر وندلل علي ذلك بأغنية (من غير ليه )وهي الوحيدة التي لحنها عبد الوهاب لمرسي جميل عزيز، وثارت حكايات كثيرة حول كواليسها، فعبد الحليم حافظ كان يرغب في تقديم الأغنية لكن الآلام الصحية هاجمته، وهو ما تسبب في تأجيل الأغنية التي شعر عبد الحليم أنه لن يتمكن من تقديمها.
رحل العندليب وظلت الأغنية لدى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي رفض أن يمنحها لأي مطرب في تلك الفترة، حتى أقنعه الجميع بالعودة للغناء من خلالها، وهو ما حدث وحققت الأغنية نجاحا كبيرا وقتها.
في كافة أحاديث عبد الوهاب لم يخف إعجابه بعبد الحليم منذ اللقاء الاول كما روي لسعد الدين وهبه في حوارات النهر الخالد , حيث لفت نظره إيقاع الشباب والحيوية الذي تفيض به تصرفاته وغناؤه , قال عبدالوهاب عن عبدالحليم,«سمعت صوته حوالى سنة 1950 كان يُغنى فى ركن الهواة بأغنية للنيل عن لحن محمد الموجى «يا حلو يا أسمر» فأعجبت بصوته واتصلت بالإذاعة وطلبت من حافظ عبدالوهاب ـ وكان عضوا معى فى لجنة الاستماع ـ أن أرى صاحب الصوت ـ فأتوا به، قدم لى نفسه عبدالحليم شبانة، وقال لى حافظ يومها إذا أعجبك فسنغير اسمه.. رديت على الفور: ده يستاهل ونص! حقيقى يستاهل يا حافظ، فاستأذننى فى أن نُسميه عبدالحليم حافظ.. ومن يومها وبدأ عبدالحليم يتردد علىّ فى مكتبى بشارع توفيق يوميًا.. نتغدى ونتمشى سوا وكان ساكن فى المنيل، وكان من يومها وصحته على قدها.. معرفشى إذا كان المرض من يومها ولا لأ.. ولكنه كان يتعب كثيرا.. أروح أزوره فى المنيل وكان دائما فى بيتى ومعايا فى المكتب، وكنت لمدة طويلة من معرفتى به مستمعًا جيدًا له، ولم أفكّر فى التلحين له إلا بعد أن استولى على مسامعى تمامًا وهو بيغنى لى «على إيه بتلومنى» التى كنت أحب سماعَها منه كثيرًا وأطلبها منه فى أوقات الإلهام.. أول لحن أهديته له كان «توبة» ونجحت الأغنية، وبسبب هذا النجاح اتعمل لها فيلم خصيصًا، وكان دائمًا يُردد لى، وأحيانا أمام مجدى العمروسى: «أنا واخدك مثال لى.. مثل أعلى.. فى السلوك.. فى الكـلام. فى المعاملة.. فى الفن طبعًا، وهنا كنت أضحك معه واسأله: طيب مبتقلدنيش ليه فى المحافظة على صحتك.. وبدأت أهتم به وبأعماله الفنية، وقبل أن يصبح شريكًا معى فى (صوت الفن) التى أساهم فيها، كنت شريكًا فى (بيضافون) للأسطوانات، وقد كانت أسطواناته الأولى من خلالها، التى بدأت بـ40 جنيها لأسطوانة (صافينى مرة) وبعد سنة تدرج المبلغ إلى 300 جنيه، وبعدها تعاقد على نسبة 27٪ من ثمن بيع كل أسطوانة.
ذكاء الإحتواء من الموسيقار لحليم
هنا يعترف عبد الوهاب بذكاء عبقري في طريق الاحتواء فيقول لسعد الدين وهبه في ذكرياته: ,عبدالحليم شخصية فنية مستقلة فى التأدية، عبدالحليم فى تطوره بالأغنية له أسلوب ذاتى، وقد أخلص لفنه ولخدمة فنه، ومن أحسن ما قدمه اهتمامه البالغ بالأوركسترا التى كبَّرها واعتنى بآلاتها، وبذل مجهودًا مضنيًا فى اختيار الكلمة واللحن, إخلاص فوق المعقول يعجز الوصف عنه, ذواّقة يقدر بسهولة أن يضع يده على الأحسن والأفضل, كان متشددًا فى الوصول إلى الكمال إلى أحسن مظهر فنى, عبدالحليم ملتزم مبيلعبشى كثير فى اللحن ,ومعي لا إضافات تهز كيان اللحن الأصلى بحيث كانت الجملة تصل طازجة إلى الجمهور, عبدالحليم معبّر.. بإيماءاته وحركاته ورأسه وشعره وملامحه وذراعيه ويديه وأصابعه وجسمه حتى بعينيه.. كثير السؤال والحصاد والتزوُد والاطلاع على التطور الفنى فى أوروبا فى كل مجال، ومن هنا طعّمَ شخصيته بالمزيد والجديد والفريد، حيث أضاف التعبير الجسدى إلى وسائل الاتصال الأخرى مع المتلقى. عبدالحليم يعطى كل صوته.. لا يخفى منه شيئا.. كل ما عنده يمنحه بانطلاق وأريحية وكرم حاتمى باذلاً مجامع قوته.. يعطيه كاملا للناس.. يمتاز بموهبة ساطعة وباهرة ونادرة خاصة فى طبقات صوته المتوسطة والمنخفضة.
عبد الحليم يعلن موقفه من عبد الوهاب
فى عدد نادر من مجلة الكواكب صدر فى مايو عام 1958 أجرى الصحفى جميل الباجورى حواراً مع العندليب نشر تحت عنوان “عبد الحليم حافظ المطرب الّذى لم تهزمه آلام البلهارسيا يتكلّم فى: الحبّ والسّياسة والخضار المسلوق”,وخلال الحوار سأل الصحفى الكبير المطرب الذى صعد وقتها إلى قمة النجاح عن علاقته بموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب قائلا: “لماذا لم نعد نسمع لك ألحاناً من عبدالوهاب وهل هناك سوء تفاهم بينك وبينه؟
وأجاب العندليب عن هذا السؤال بقوله “أبداً علاقتى بعبدالوهاب كما هى لكنى لا أغنى حاليا إلا ما يضعه من ألحان فى أفلامه التى ينتجها لحسابه الخاص، ولا أغنى له أغان أخرى.
وأوضح العندليب قائلا: “ليست عندى أى رغبة فى ربط نفسى بعجلة الموسيقار الكبير حتى لا تدوسنى كما داست غيرى من قبل وألقت بهم بعيدا فى طريق الإهمال والنسيان”.وأردف عبد الحليم قائلا: “لا تسألنى من أقصد بالذين داستهم عجلة عبد الوهاب لكن الجميع يعرفون من هم، فعبد الوهاب رجل كبير ولازم يفضل كبير، ولا يحب أن يكبر عليه أحد فى دنيا الغناء أو التلحين، وفى سبيل ذلك هو على استعداد لتحطيم كل شىء يعترض طريقه”.وعند سؤال الباجورى للعندليب :هل سيعود للتمثيل فى أفلام من إنتاج عبدالوهاب، أجاب حليم بأنه سيقوم بدور فى فيلم “فى بيتنا رجل” قصة الأديب الكبير إحسان عبد القدوس، لكنه سيقوم بالتمثيل فقط ولن يغنى فى الفيلم، وما حدث بعد ذلك هو أن العندليب لم يشارك فى الفيلم الذى قام ببطولته عمر الشريف ورشدى أباظة وحسن يوسف ,وهناك مناكفات من حليم حتى مع أستاذه وشريكه فى شركة صوت الفن موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب الذي لم يسلم من خناقات عبدالحليم، وتحول الموسيقار عبد الوهاب فى فترة من الفترات لكابوس يطارد عبدالحليم فى حفلاته، خاصة بعد ما تكرر موقف من الجمهور نحو عدة مرات فى خمس حفلات متفرقة، الجمهور يطلب فيها من عبدالحليم حافظ بأن يغنى أغانى عبدالوهاب، وفى إحدى الحفلات بالإسكندرية كرر الجمهور نفس الطلب، فرد بعصبية: «أغانى عبدالوهاب يغنيها عبدالوهاب.. أنا اسمى عبدالحليم حافظ».وكشف عبد الحليم فى مذكراته عن رحلته مع اليُتم والعذاب والمرض فى يناير 1973 وذلك قبل وفاته بأربع سنوات فى مستشفى اكسفورد حيث كان يعالج من نزيف مفاجئ فى المعدة.. ، وقد كان عبدالحليم حافظ يسعد بشهادة نجيب محفوظ صاحب نوبل الذي كتب عنه ذات يوم قائلا: «إذا أردنا أن نؤرخ للغناء المصرى ووصلنا إلى فترة عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم، فأين نضع عبدالحليم وأين مكانه بالضبط.. ببساطة أقول: نضع عبدالحليم بجانب عبدالوهاب وأم كلثوم، لأنه رغم الفترة الزمنية القصيرة التى عاشها فإنه استطاع أن يقدّم الكثير من الأعمال الجادة والجيدة سواء فى مجال الأغنية أو فى دنيا السينما»فقد نجح العندليب بالموهبة والتي كانت تنموفي وجود عبد الوهاب نفسه سواء دخل المقياس “الوهابي” ..- نسبة إلى عبد الوهاب – أو لم يدخله وبكل حال فقد كتب لها الخلود المستمر وهذا تشابه واضح بين(الاثنين )فعندما تظهر الموهبة يصاحبها ذكاء فى التعامل معها وإدارتها، وهذا ما جعل بعض الأسماء والمواهب تبقى وتخلد، وبعضها الآخر يختفى ولا يحقق إلا القليل من النجاح، هكذا كان الفرق بين عمالقة الفن ومن مروا عليه مرور الكرام، وهكذا فطن العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ إلى أن ما يكتب لموهبته البقاء ليس جمال صوته وعذوبته فقط لكن قدرته على إدارة هذه الموهبة وقدرته على أن يبقى دائماً على القمة رغم وجود أصوات ومواهب أخرى قد لا تقل عنه فى جمال الصوت أو ربما أقوي من صوت عبد الحليم حافظ . وإذا رجعنا إلى حياة العندليب ومسيرته وحواراته يمكننا أن نكتشف هذا الذكاء الذى كتب لموهبته وصوته الخلود.
محنة المرض وتجربة الوصل مع الأستاذ
وقال سعد الدين وهبه في كتاب الأمير أباظه عن الموسيقار النهر الخالد , تبدت أواصر العلاقة القوية ما بين عبدالوهاب وحليم فى أسمى مظاهرها خلال مرض عبدالحليم، وعرف المحيطون بهما مدى حب الموسيقار للعندليب، وفى خلال العمليات الجراحية التى كانت تُجرى لعبدالحليم كان عبدالوهاب حاضرًا معه طوال اليوم وطول النهار، وعندما يأتى المساء لم يكن يغيب عن التليفون والسؤال، وفى مرضه الأخير كان عبدالوهاب وكأنه المريض، وعندما يحس من عبدالحليم إهمالا فى صحته أو يُخيل إليه، كان العتاب يطول.. وفى رحلة مرض عبدالحليم الأخيرة إلى لندن لم يستطع الموسيقار السفر معه كعادته بسبب ظروفه الصحية، فطلب من زوجته السيدة نهلة القدسى البقاء إلى جوار عبدالحليم، حيث لم تفارقه لحظة، وفى يوم قبل النهاية طلب منها عبدالحليم أن تُسجل له صورة قبل إجراء العملية قائلا: «ربما تكون الصورة الأخيرة للذكرى، فرفضت دامعة وغادرت الغرفة.. وظل عبدالوهاب طوال الوقت على تليفون القاهرة حتى توقيت العودة الحزينة, وعندما عَلِّمَ عبدالوهاب بقدوم جثمان حليم من لندن تحامل على نفسه، ونزل متساندًا من بيته رغم المرض والألم، وتوجه إلى بيت عبدالحليم فى الزمالك، وطلب من أهله أغرب طلب.. قال لهم: افتحوا لى حجرة عبدالحليم، وفتحوها ودخل عبدالوهاب إلى الغرفة وأغلقها عليه ساعة كاملة ولم يجرؤ أحد على الاقتراب، حتى خرج فى حالة يرثى لها من الحزن والبكاء، فقد كان فى تلك الساعة يشم كل شىء فى الحجرة: ملابس عبدالحليم، وفراش عبدالحليم، وأدوية عبدالحليم التى وجدوا زجاجاتها مبعثرة.. كان يتزوَّد من عبدالحليم وأشيائه الصغيرة فى حجرته الخاصة التى لن يدخلها صاحبها بعدها، ومعلوم أن حاسة الشم عند عبدالوهاب كانت تقوم مقام بقية الحواس: اللمس والنظر والتذوق بل وتفوقها بالكثير.
هكذا رحل العندليب ثم كانت صورة حليم داخل إطار فضى ثمين فوق الكومودينو إلى جوار رأس عبد الوهاب متجهًا بناظريه ناحيته وكأنه كان يُلقى عليه مع كل طلعة شمس تحية الصباح، ويودّعه بتحية المساء قبل إغلاق ضوء الأباجورة.
عبد الحليم يودع عبد الوهاب
يقول سعد الدين وهبه في كتاب النهر الخالد الذي كتبه الأمير أباظه إن عبد الوهاب أعطى حليم ستة آلاف جنيه أجره عن فيلم بنات اليوم , ويذكر أن أول فيلم هو أبي فوق الشجرة الذي كتب سعد الدين وهبة السيناريو و الحوار له ، عن قصة إحسان عبد القدوس و الذي لحن فيه محمد عبدالوهاب “أغنية يا خلي القلب” لعبد الحليم وتحدث سعد الدين وهبة عن كيف جلوسه مع عبد الوهاب ليختار موضع ظهور الاغنية بما يخدم سيناريو الفيلم ، و كيف أن عبد الوهاب كان رجل إدارة بالاضافة الى كونه فنانًا و كان دقيق المواعيد و يتابع ادق التفاصيل في ادارته لشركة صوت الفن التي كان يشارك فيها عبد الحليم حافظ، و منذ ذلك الوقت كان يسعى إلى برنامج يوثق لحياته لكن برنامج النهر الخالد لم ير النور إلا في العام1985.
يضيف عبد الوهاب في وصف العندليب بقوله وكمان عبد الحليم ممثل كويس وبحب اشوفه في السينما ومعظم افلامه كانت من إنتاجي هو عنده استعداد تعبيري ويلمح عبد الوهاب لذكاء عبد الحليم في تعامله مع الجمهورلدرجة أنه كان يقدر يقنع الجمهور يسمعه ولو في حجرة النوم كما إن بليغ حمدي تولد لديه كل يوم جملة لحنية جديدة مع عبد الحليم حافظ ، بينما تولد لي جملة لحنية كل خمسين عاماً, ويسترجع سعد الدين وهبه ذكريات الموسيقار عن آخر مكالمة تمت بينه وبين العندليب وفي ذات اليلة التي بكي فيها عبد الوهاب لما عبد الحليم طلبه في التليفون وقال تقدر تفوت عليا كنت حاسس أنه بيودعني .
مرثية وادع من يوسف إدريس
ونشر د يوسف إدريس، مرثية في رحيل ووداع عبد الحليم حافظ «حيث يتعانق المجد والموت»، فى «الأهرام 2 أبريل 1977» وبكي عبد الوهاب ,اتصل بيوسف إدريس وقال له مَوِّتْ عبد الحليم تاني يايوسف ، ومما جاء فيها: «جفت الأقلام وطويت الصحف، وانتهت القصة، واحدة من غريبات قصص الحياة.. طفل فلاح مصرى يتيم، كان مفروضا أن يموت بالبلهارسيا فى سن العشرين، ولكن بإرادة الفلاح المصرى، والذى وكأنما اعتزم منذ أن وجد على سطح الأرض أن يحيا إلى نهايتها.. كافح اليتيم الفقير، ودأب، وجَدّ، وجاع، وتشرد، وتعلم الموسيقى، لماذا الموسيقى؟، لأنهم كانوا فى ملجأ الأيتام الذى تربى فيه يكونون فرقة موسيقى سماعية اشتهرت بها دائما تلك الملاجئ، وجاء إلى القاهرة وإلى الإسكندرية، وجاب الشوارع والأزقة والمدارس والقعدات، وبضربة حظ من هنا، وإرادة وصول من هناك، غنى لأول مرة للآلاف، ومنذ أن سمعه الناس أول مرة، ارتفع فجأة من حيث كان إلى أعلى مراتب الغناء فى مصر، جاء صوته ليعبر عن عصر ثورة قامت، وجيل شاب طامح متحمس، والتهاب أمة، فيه الحلاوة من عبدالوهاب القديم، والرنة من دفة الإحساس وطفولة المعاناة، ومعاناة الطفولة، فيه رنة الفقر الأبى الشامخ، وتواضع المصرى المنحفر من إدراك أنه الأحسن، وفيه وهذا هو الأهم وقع جديد، وقع العصر والمعاصرة، وقع الحياة حين تدور وتطرح إلى الوجود عالما لم يكن موجودا، فى حاجة إلى نغمة تنظم إيقاعه، فى حاجة إلى زفرته الخاصة، ولهفته الشخصية، فى حاجة إلى حبه بطريقته الجديدة، لا حبا للمرأة فقط، إنه الحب للحياة كلها فى شمولها ورحابتها، وامتدادها، حب جيل طامح عنيد، يغنى للحب كما يغنى للثورة، يغنى لتماثيل الرخام على الزراعية، مثلما يغنى للمصير المجهول فى قاع فنجان بن محروق، يغنى للحظ والدنيا والنجاح، يغنينا، نصرا يغنينا إذا انتصرنا، نكسة يغنينا إذا انتكسنا، قرارا اتخذنا، يغنينا مأساة عشنا، يغنينا مرحا مرحنا، فرحا فرحنا يغنينا.
ومنذ الطفولة كان الموت قد بدأ يدب فيه على هيئة تليف الكبد الناتج عن البلهارسيا، أمرضتنا لسبعة آلاف عام، وأخشى أن تظل تمرضنا للسبعة آلاف عام المقبلة، وفى صدر الشباب كان وسيما، ولكن أحدا لم يكن يرى الشىء الأخطبوطى القبيح داخله، المرض، وبدأت الأعراض.. وشيئا فشيئا بدأت أيدى الأخطبوط وأظفاره تزحف من الداخل إلى الوجه الصبوح المليح فى الخارج، وبدأت قصة الأطباء واللهفة على صحة عبدالحليم.
ولكن وراء هذا كله كانت قصتا بطولة نادرتان ، بطولته كفنان، إنه كان موهبة من المستحيل أن تحدث أكثر من مرة فى جيل واحد أوعدة أجيال، وكان يعرف هو، بذكائه الغريزى الهائل هذا، ويدركه ويستأمره، ويطوره ويريد أن يصل بصوته وأذنيه إلى الموسيقى العذبة الكامنة فى إطلاقها وتجريدها، حتى لتتكرر مرة ومرة، ولها فى كل مرة مذاق مفاجئ جديد وقشعريرة استجابة طازجة.
أما بطولة عبدالحليم الإنسان فهو إنه رغم كل ما به، رغم إدراكه المبكر أنه كسيزيف حامل صخرة الفن والحياة، وفى داخله يحمل الصخرة، صخرة المرض كان قد وطن نفسه على أن يظل يصعد بالصخرتين الهائلتين سطح الجبل بأسرع وقت، وأشق جهد، وبخطوات يحمسها اليأس، ليس فيها سوى شعيرات قليلة من الأمل كى يصل إلى القمة، قمة المجد وقمة الوصول، وكان يعرف ويدرك تماما أن الموت رابض له عند هذه القمة، ومع ذلك ظل بالصخرتين يئن ويصعد إلى المجد والموت معا.