عرف فن التمثيل في مصر منذ ظهور المسرح ثم السينما آلاف الوجوه التي أطلت على الجمهور وبتعدد تلك الوجوه وتنوعها يبقى في ذاكرة المشاهد عدد من المواهب التى تستعصى على النسيان ولم تفلح الأيام فى إخفاء بريق وعظمة حضورها وتأثيرها
وعلى مدار العقود الأخيرة أطلت وجوه كثيرة جدا بعضها انشغل بتفاصيل الهامش مثل قيمة الأجر الذى يتقاضاه ومساحة الدور وترتيب اسم الممثل على “افيش” العمل وغير ذلك من الأمور التي نراها بعيدة تماما عن الفن ذاته بل تتعلق بشكل مباشر بعملية تسويق الممثل أو ما يسمى بصناعة النجم .
وفى المقابل نجد فنانين آخرين ظل المتن يشغلهم وقيمة الدور بالنسبة لهم أهم من مساحته وقيمة العمل الفني عندهم هي الأَولى بالاهتمام من ترتيب أسماء صناع العمل
هذه الفصيلة من المبدعين يوفرون طاقتهم أمام الكاميرا أو على خشبة المسرح فنتوقف كثيرا أمام قدرتهم على تجسيد الشخصيات التي يؤدونها ، ويدرك الجمهور المُهتم بالفن قيمة هؤلاء ومدى احترامهم للمتلقي ورغبتهم فى استعادة وتقديم أعمال تحظي باحترامهم وتبقى مضيئة فى مسيرتهم الفنية
من بين هؤلاء يقف فتحي عبد الوهاب “ألفة جيله ” وعنوان الإجادة والوعى بدور الممثل بين أقرانه الذين يعاصرونه .
“فتحي ” الذي يكمل عامه الخمسين في 21 أغسطس يمتلك موهبة حقيقية دفعت النقاد إلى أن يتوقعوا له مستقبلا كبيرا منذ بداياته الأولى وظل هو الرهان الأهم فى قدرة الفن المصري على تقديم مواهب بحجم “أحمد زكى ” و” نور الشريف ” ومحمود عبد العزيز ” ذلك الجيل الذي غاب عن صدارة المشهد سواء بحكم الوفاة أو السن حيث صارت الساحة متهيأة لانتظار جيل جديد ينعش الوجدان العربي ويواصل مسيرة من سبقوه
جاء “فتحي عبد الوهاب ” يحمل تلك البشارة بأننا على موعد مع جيل قادر على استكمال المسيرة … جاء بملامحه المصرية العادية وجسده النحيف ….
تنطلق شرارة الوهج من عينيه ، وينبئ بفنان موهوب بل شديد الموهبة قادر على التعبير بوجهه ربما أكثر مما تعبر عنه كلمات الحوار
صدفة البداية
في حي المعادي بالقاهرة ولد ” فتحي عبد الوهاب مرسي سليمان ” عام 1971
درس في كلية التجارة التي كان مسرحها شاهدا على اكتشافه لموهبته الدفينة فقد لعبت الصدفة الدور الرئيسي فى علاقة “فتحي ” بالفن حين اصطحبه صديق له إلى مسرح الكلية لأول مرة ليشاهد بروفة عرض مسرحي كان صديقه يشارك فيه يجلس” فتحي” يتابع البروفة ويكتشف مخرج العرض أن أحد الممثلين غاب عن البروفة فينظر للصالة فلم يجد سوى شابا نحيفا يتابع البروفة وبصوته المميز ينادي عليه مخرج العرض وهو الفنان “صلاح عبد الله “: تعالى أنت.
يَهم “فتحي مندهشا ويطلب منه صلاح أن يقول جملة في الحوار بطريقة معينة ويفعل الشاب ما طلبه المخرج من هنا تبدأ علاقة “فتحي عبد الوهاب ” بالفن ، وفي عام 1991 يتقدم فتحي بطلب للانضمام لفرقة “ستوديو 80 ” التي أسسها لينين الرملي ومحمد صبحي ويدفعا ن به للمشاركة فى واحدة من أهم التجارب المسرحية “بالعربي الفصيح ” مع كل من منى زكى وأحمد حلمى وغيرهما من الوجوه الشابة آنذاك .
مراحل هامة
قدم “فتحي” خلال مسيرته الممتدة عددا كبيرا من الأعمال فى السينما والتلفزيون والمسرح وظل محتفظا بوهجه وألقه الفني الذى لم ينطفئ رغم أزمة صناعة السينما التي تدفع عددا كبيرا من الفنانين لقبول بعض ما يعرض عليهم حتى يتواجدوا على الساحة الفنية ، لأن الغياب ربما يعنى الاختفاء والنسيان في تلك المرحلة الصعبة التى تمر بها الصناعة
في مشوار “فتحي ” عدد من المحطات التي تستحق التوقف عندها حيث بدأ مع المخرج “محمد فاضل ” في مسلسل “مازال النيل يجرى” عام 1992 وبعد عامين فقط استعان به المخرج “داوود عبد السيد ” في فيلم “الفرح ” حيث جسد شخصية مغنى الأفراح الشعبية الذى يعانى من أجل توفير حياة تناسب عمله خاصة مع إنفاق معظم دخله على ملابسه ويبقى له القليل كي يقتات به .
كانت شخصية “مطر ” فى “الفرح ” هي الميلاد الحقيقي لنجم كبير وممثل موهوب ولفت نظر النقاد بقدرته على استخدام لغة الجسد بمهارة والنفاذ إلى روح الشخصية وعمقها ببساطة ودون ادعاء أو مبالغة.
وهذا ما جعل “داود ” يقدمه مرة أخرى عام 2000 فى فيلمه المهم “أرض الخوف ” مع الراحل الكبير أحمد زكى وهو نفس العام الذي عرض له خلاله فيلم “فيلم ثقافي” وكان “فتحي ” شريكا في عدد كبير من أعمال حققت نقلة كبيرة في سينما جيله خاصة من حيث الأرباح التي حققتها أعمال مثل “صعيدي فى الجامعة الأمريكية و”سهر الليالي “
” فرحان ” وما بعده
ويمثل فيلم “فرحان ملازم آدم ” محطة مهمة كشفت عن نضج موهبة “فتحى ” من خلال هذا العمل الذى كتبه ” محسن زايد” وأخرجه “عمر عبد العزيز ” وشاركته البطولة “ياسمين عبد العزيز ” وجاء أداؤه لشخصية “فرحان ” مبهرا وخارجا عن التوقعات واستطاع “فتحي ” أن يضع نفسه فى مكانة فنيه تليق بموهبته
ويعتبر فيلم “كباريه ” إنتاج عام 2007 أحد أهم محطات “فتحي ” الفنية وساهم في اقترابه من مكانته المميزة فقد نجح فى تقديم شخصية شاب إرهابي بكل تناقضاتها وانفعالاتها الداخلية .. هذا الشاب “شعلان ” الذي دفعت به جماعته لتنفيذ تفجير إرهابي – هكذا تدور القصة – لكن ما أضافه “فتحي” من خلال معايشته للشخصية المرتبكة وانفعالاتها المتداخلة والمتناقضة تمثل ذروة النضج الفني ودرجة كبيرة من الوعي بتفاصيل الشخصية التي يجسدها فقد كانت لحظات الصمت والكلام أيضا عند “فتحي ” إبداعا يستحق التأمل
عصافير “عبد الرحيم”
فى عام 2010 كان المخرج “مجدي أحمد على ” على موعد مع أحد أعماله المميزة وهو فيلم “عصافير النيل ” وكان “فتحي ” هو بطل العمل من خلال تجسيده لشخصية الشاب الريفي ” عبد الرحيم ” الذى جاء للعمل فى القاهرة
جاء “عبد الرحيم ” بكل معاناة شباب الريف وكل كبتهم وبراءتهم وضعفهم ووهنهم بعد اصابتهم بأمراض “الريف ” التي تسببها البلهارسيا
جاءت “شخصية “عبد الرحيم ” ليحلق بها “فتحي عبد الوهاب ” نحو منطقة عالية من الإبداع وتظل واحدة من أهم الشخصيات التي قدمها حتى الأن .
عدد آخر من الأعمال التي قدمها وأجاد فيها وقدم طاقة مضيئة من بينها “زهايمر ” و”البلياتشو ” و”عزبة آدم ” و”ساعة ونص ” وغيرها العديد من أعمال فنية كثيرة ذات قيمة
كما قدم فتحي عشرات الأعمال فى الدراما التلفزيونية التي حققت نجاحا كبيرا وتركت لدى المشاهد أثرا طيبا ولعل دوره الصغير فى مسلسل “ريا وسكينة ” يؤكد أننا أمام ممثل كبير .
أزمة “الشباك”
المؤكد ان النقد الفني سوف يتوقف بقدر كبير من الاهتمام أمام موهبة “فتحي عبد الوهاب ” تلك الموهبة التي لم تظهر كل إمكانياتها بعد بسبب اختلال معايير ما يسمى ب “نجم الشباك ” هذه المقولة بما لها من دلالة تحكمها اعتبارات ليست الموهبة دائما هي الأساس فيها لذلك سنجد دوما عمالقة في مجال التمثيل ليسوا نجوما – للشباك – وسنجد أقل منهم موهبة وأقل وعيا يتصدرون شباك التذاكر بكل ما يترتب علي هذا الأمر من تبعات وآثار ومكاسب لأصحابها وخسائر لقيمة الفن السابع .
هذا يحدث فى كل العصور وكل المراحل لكن ما نعانيه منذ توقف مؤسسة السينما – الرسمية – عن دورها فى الصناعة جعل معايير السوق هى السيد والمتحكم وهذا ما دفع بالعديد من المشتغلين بالفن – في أحيان كثيرة – لقبول ما لا يمكنهم قبوله فى ظروف عادية ومستقيمة للسينما فالتواجد قد يكون البديل الوحيد المتاح أمامهم فى ظل عدم امتلاكهم رفاهية الاختيار والرفض طوال الوقت.