رؤى

الطريق إلى الاحتلال الإنجليزي.. لغز حريق الإسكندرية!

قبل ساعات من قصف البوراج الإنجليزية لمدينة الإسكندرية، قررت الحكومة الفرنسية سحب سفن أسطولها المرابطة في مياه البحر المتوسط قُبالة المدينة، وبالفعل غادرت قواتها في 10 يوليو سنة 1882، لتتيح لبريطانيا أن تدك حصون الإسكندرية وتهدم مبانيها وتحصد أرواح أهلها وتحتلها.

ويقول المؤرخ محمود الخفيف في كتابه «أحمد عرابي.. الزعيم المفترى عليه»، إن فرنسا قابلت هذا الاعتداء الوحشي بالجمود، «لو أردات منعه لكان لها من مركزها الممتاز، في المسألة المصرية ما يحول دون وقوعه، وكذلك فعلت دول أوروبا كلها، ظلت جامدة لا تحرك ساكنا أمام هذه المأساة».

وفي الوقت الذي كانت فيه مدافع الأسطول الإنجليزي تقصف حصون الإسكندرية، كان ممثلوا الدول الكبرى يتناقشون بالآستانة فيما أُطلق عليه «المسألة المصرية»، ولم يلق نبأ ضرب الإسكندرية أي صدى في المؤتمر، بل بالعكس قوبل بالفتور والبرود، فلم تُبد أي دولة اعتراضها على نقض إنجلترا لعهودها بعدم التدخل في مصر بشكل منفرد، «كل ما فعله مندوب روسيا أن نفض يده من المؤتمر، وامتنع مؤقتًا عن حضور جلساته، وهو عمل سلبي لا يمنع الاعتداء ولا يحُول دون استمراره».

«الآستانة» وحماية القناة

وفي ١٥ يوليو سنة ١٨٨٢ اجتمع المؤتمر لأول مرة عقب ضرب الإسكندرية، ووجه الدعوة إلى تركيا لإرسال جيش عثماني إلى مصر تنفيذًا لقراره الذي أصدره في جلسته السابقة — ٦ يوليو — ورضي السلطان بالاشتراك في المؤتمر للمباحثة في إقرار الوسائل الكفيلة بإعادة الأمور إلى نِصابها.

«بدأت إذن تركيا تشترك في المؤتمر بعد أن أصبح لا عمل له، وأرسلت وزارة الخارجية العثمانية في ١٩ يوليو، تبلغه أنها تقبل الاشتراك فيه، وعينت مندوبيها به، وهما سعيد باشا وزير الخارجية وعاصم باشا وزير الأوقاف، فحضرا جلسة ٢٤ يوليو — الجلسة العاشرة — وتولى سعيد باشا رئاسة المؤتمر بصفته وزير خارجية الدولة التي انعقد المؤتمر في عاصمتها، وصرَّح بأن الحكومة العثمانية قبلت مبدأ إرسال جنود إلى مصر، وبجلسة ٧ أغسطس أعلن أن حكومته قبلت شروط التدخل التي قررها المؤتمر في ١٥ يوليو » يضيف الخفيف.

لم تُفعل تركيا قرار المؤتمر، بل أنها أبطأت في إنفاذ خطوة تحريك الجيش إلى مصر، حتى انتهى الأمر بهزيمة العرابيين ودخول الإنجليز إلى القاهرة.

بعد نزول قوات الإنجليز إلى الإسكندرية، لم يكن هم الدول المشاركة في مؤتمر الآستانة سوى حماية قناة السويس، وذلك بناء على ما أذاعته إنجلترا بأن أحمد عرابي باشا ينوي سد القناة ردا على ضرب الإسكندرية، «وكان هذا الخوف مع الأسف لا محل له؛ لأن عرابي لم يفكر جديًّا في سد القناة إلَّا بعد احتلال الإنجليز الإسماعيلية؛ أي في ٢٠ أغسطس. ولكن إنجلترا بادرت بمبادلة الدول تخوُّفها من هذه الناحية لكي تنتحل لنفسها حق حماية القناة، إذا لم تتفق الدول على حمايتها دوليًّا».

ويشير الخفيف إلى أن كل ما جرى خلال جلسات المؤتمر يثبت أن الدول الأوربية لم تكن معنية برد الاعتداء على مصر، «كل ما همهم وشغلهم هو أمر قناة السويس، وقد انتهى المؤتمر من مباحثاته العقيمة إلى ترك الإنجليز يتصرَّفون كما تهوى أطماعهم الاستعمارية».

وبالعودة إلى اليوم التالي لضرب الإسكندرية، فعندما تأكد العرابيون في 12 يوليو أن الإنجليز اقتربوا من احتلال المدينة بعد أن دكوا حصونها، فاستقر أمر عرابي ورفاقه على الانسحاب منها ليستعدوا للمقاومة في الداخل.

أحمد عرابي
أحمد عرابي

الرافعي يتهم عرابي بـ«حرق الإسكندرية»

ويلوم المؤرخ عبد الرحمن الرافعي على العرابيين انسحابهم من المدينة، ويقول في كتابه «الزعيم الثائر أحمد عرابي»: كان أولى بهم أن يقاوموا نزول الإنجليز إلى البر، ويوزعوا جزء من قواتهم للمرابطة على الشواطئ، لمنع رسو القوارب المقلة للجنود الإنجليز، ذلك ان الأسطول الإنجليزي لم يكن قد تلقى المدد من جنود البر، وكانت قواته مقصورة إلى ذلك الحين على جنود البحارة التي لم يكن عددها يزيد على 5700 مقاتل، وهو عدد كانت حامية الإسكندرية قادرة على التعامل معه، بحسب الرافعي.

ويضيف الرافعي الذي كما أسلفنا في حلقات سابقة أنه كان شديد التحامل على عرابي ورفاقه أن العربيين لم يفلعوا شيئا «لم تكن لديهم قيادة صالحة تدبر الخطط المحكمة للقتال، فآثروا الانسحاب من الإسكندرية، ورأوا أن يتذرعوا بكل بوسيلة لتعطيل احتلال الإنجليز للمدينة واستقرارهم فيها، فأمر سليمان دواد قائد الآلاي السادس جنوده بإضرام النار في المدينة لكي يحول الحريق دون نزول القوات البريطانية».

وهنا يوجه الرافعي اتهام مباشر لعرابي ورجاله بحرق الإسكندرية، «شبت الحرائق الهائلة في المدينة يوم الأربعاء 11 يوليو سنة 1882، وبدأ إضرام النار مساء ذلك اليوم، واستمرت النار تضطرم فيها حتى اليوم التالي».

ويواصل الرافعي اتهامه لعرابي ورجاله فيقول: «كان هذا الحريق من الوجهة العسكرية عملًا عقيمًا؛ لأنه لم يعطل نزول الجنود الإنجليزية إلى البر فقد نزلوا في صبيحة اليوم التالي، واشترك في الحريق بعض الأوروبيين، وبخاصة من الأروام والمالطيين الذين بقوا في المدينة بعد هجرة معظمهم، وكانوا يقصدون من ذلك المطالبة بالتعويضات بعد انتهاء الحرب، كما اشتركوا أيضًا في النهب».

الرافعي

الخفيف يُفند اتهامات الرافعي

رواية الرافعي التي حملت عرابي ورجاله مسئولية حرق الإسكندرية رد عليها المؤرخ محمود الخفيف في كتابه سابق الإشارة إليه، مشيرا إلى أن الإنجليز روجوا تلك الرواية كما روجوا من قبل أن عرابي كان سببا في مذبحة الإسكندرية، «على أن التحقيق فيما بعد قد برأه من حريق الإسكندرية كما برأه من مذبحة الإسكندرية».

ونقل الخفيف شهادة جون نينيه عميد الجالية السويسرية في الإسكندرية الذي عايش ما جرى في المدينة قبل وأثناء وبعد الضرب ووثق شهادته في كتابه «عرابي باشا».

ذهب جون نينيه إلى أن النيران كانت من فعل قذائف الأسطول الإنجليزي، وقال عن اليوم الأول: «رأيت في ذلك الصباح عددًا كبيرًا من القذائف يمر فوق داري، وسقطت بعض القذائف من ذات الحجم الأكبر في الدار المجاورة لداري، وقد قتلت القذيفة الثالثة من القذائف التي مرت فوق داري أحد عشر رجلًا وجوادين عند باب محرم بك، وهدمت وحرقت بيوت كثيرة ومبان في كل ناحية بفعل قذائف السفن».

وقال عن اليوم الثاني: «كان عدد من قبيلة أولاد علي ينهبون دكاكين المدينة وقد دخلوا إليها من ناحية القباري أو باب عمود بمبي، وقد رأيت كثيرين منهم قد قُبض عليهم وصودر ما يحملون بأمر من سليمان بك سامي أثناء محاولتهم الهرب من المدينة بمنهوباتهم، وكان عرابي باشا قد أمر قبل مغادرته المدينة بإغلاق هذا الباب لحراسة الشوارع الرئيسية وحفظ النظام فيها، كما أنه ترك فرقتين من الاحتياطي».

ويضيف نينيه: «كان طلبة باشا في الرمل بعد الظهر يفاوض الخديوي، وكنت طوال ذلك الوقت في حجرة ميس الضباط قرب باب رشيد! وكان هناك كثير من الباشوات، منهم: محمود سامي البارودي، ومحمود فهمي باشا، وقد غادرتُ المدينة معهم وعددٍ من الأطباء والضباط عند الساعة السادسة لألحق بالجيش، وبعد أن غادرتُ المدينة حملتْ الريحُ الدخان إلى حيث كنا وكانت المدينة تحترق في عدة جهات، ولم يكن في المدينة نار حين غادرناها، ولم يشعل الجند نارًا بالمدينة، بل لقد بذلوا كل ما في وسعهم لمنع امتداد النيران التي سببها الضرب … ومن الممكن أن يكون بعض جنود الفرقتين اللتين تركتا بالمدينة قد شاركوا البدو في النهب، وكان هذا مخالفًا بالضرورة لأوامر عرابي باشا والضباط ».

أحمد-عرابي-الزعيم-المفترى-عليه-640x360-1

ويشدد نينيه على أنه لم يخطر ببال عرابي باشا أو أحد من ضباطه بأي حال أن مدينة الإسكندرية ستحرق بأيدي البدو أو غيرهم، «إني أعلم أن عرابي ومن كان معه من الضباط أظهروا أسفهم ودهشتهم عند رؤية المدينة تحترق عقب مغادرتهم إياها، وعبَّروا عن أملهم في أن يبذل ذو الفقار باشا — محافظ المدينة ومن أكبر أصدقاء الخديوي — ما في وسعه لإخماد النار وإعادة النظام».

ويتابع نينيه في موطن آخر من كتابه: أن عدة عناصر اشتركت في هذا الحريق، منها بعض الأوربيين الذين بقوا في المدينة بقصد النهب، ومنها بعض الأروام والمالطيين من أصحاب الدكاكين؛ كي يطلبوا بعد ذلك تعويضًا كبيرًا ومنها بعض البدو من قبيلة أولاد علي، وبعض عساكر الرديف، وبعض الأشقياء الذين أخرجوا من سجن الترسانة.

ويعرض الخفيف شهادة أخرى للشيخ محمد عبده عن الحادث والتي قال فيها إن «بين من حرقوا الإسكندرية أروام بلباس عرب رؤيت جثثهم بتلك الثياب أثناء الحريق، ومنهم عربان من أولاد علي ممن كانوا على صلة بالخديوي، ومنهم من أهالي الإسكندرية، ومنهم أوربيون بقصد المبالغة في التعويضات وذلك بعد أن أخليت الإسكندرية ممن يخشى عليهم».

الإمام محمد عبده
الإمام محمد عبده

ويفند الخفيف رواية تكليف عرابي لقائد الآلاي السادس سليمان سامي داود بإضرام النار في المدينة فيقول: لقد شهد عليه كثيرون أثناء المحاكمة، وكانت أقواله هو دليلًا عليه؛ ففيها ما يشبه الاعتراف، وخاصة اتهامه لعرابي بأنه هو الآمر بحرق المدينة؛ ليتنصل هو من التبعة، يتبين ذلك في مثل قوله:

(س١) هل كان عرابي أعطاك أمرًا بالكتابة بحرق المدينة؟

(ج١) أمرني شفويًّا.

(س٢) هل يجوز في قانون الجهادية حرق مدينة بناء على أمر شفوي؟

(ج٢) لا يجوز … وأنا لم أفعل سوى إبلاغ ما نبه به «ثم قال: إنه ليس متحققًا إن كان القانون يجيز ذلك أم لا».

ويعقب عرابي في مذكراته على أقوال سليمان سامي في التحقيق بقوله: «الحقيقة أن سليمان بك سامي لما شاهد هول تأثير مقذوفات سفن الإنجليز حدث له هلع وطيش أثَّر على مخيلته فصار يتحفز ويميل لعمل غير العقلاء، فبدرت منه كلمات تدل على جنونه كقوله: أحرق واضرب يا ولد، في حالة هياجه، وقوله: إني أمرته لكل ما يتخيله في مخيلته، ولكن أجمعتْ الشهود على أنه لم يفعل من ذلك شيئًا، وأنه خرج بقواته من المدينة قبل الغروب، وأنه ترك المنشية وخرج إلى باب شرقي الساعة ١١ ولم يعد إليها، وأن الحريق لم يبتدئ إلا بعد الغروب وبعد خروج العساكر من المدينة كشهادة سعد بك أبو جبل وعلي بك داود وغيرهم، وأن الحريق لم يكن إلا من أوباش الخدم والبدو وغيرهم من الأوربيين والفقراء الذين تخلفوا في مدينة الإسكندرية؛ ليحصلوا على شيء من الصيد والغنيمة، ولذلك لم يقل أحد بأنه رأى سليمان سامي يفعل الحريق بنفسه ولا بغيره، وعلى ذلك يكون سليمان سامي ذهب شهيد طيشه وغضبه والحساب على الله».

تشرشل يفضح الخديوي في مجلس العموم

ويشير الخفيف إلى أن اللورد الإنجليزي تشرشل صرح في مجلس العموم سنة 1882 وبعد إعدام سليمان سامي بأن أمر حرق الإسكندرية كان بأمر مباشر من الخديوي توفيق وهو ما كشفته مناقشات داخل مجلس العموم البريطاني حينها.

ونقل لويس صابونجي القس اللبناني الذي كان يعمل سكرتيرا للمستشرق الإيرلندي ألفرد بلنت كلام تشرشل في مجلس العموم حينما قال: «إن الخديوي الذي كان يرغب في الذهاب إلى الإسكندرية يوم الأحد ما استساغ الدخول إليها قبل موت سليمان سامي لكي لا يرى بعينيه شنق الرجل الذي أحرق الإسكندرية بأمره وطاعته».

اللورد راندولف تشرشل
اللورد راندولف تشرشل

فلما قال اللورد تشرشل هذا الكلام قامت في مجلس العموم ضجة قطعها تشرشل بقوله: «إن الأمر الصادر بحرق الإسكندرية كان مختومًا عليه من الخديوي نفسه، وأنا أطلب للميدان – مجلس العموم- كل وزراء الحكومة الجلادستونية إذا كان فيهم من يتجرأ على أن يُنكر هذه الحقيقة، وإني أقول علنًا أن مستر جلادستون رئيس الوزراء ووزراءه وأحزابه قد ارتكبوا جناية من أقبح الجنايات في قتل سليمان داود، وأن دم هذا الرجل على رأس مستر جلادستون وشركائه إلى الأبد وهم المطالبون به».

ومما ذكره تشرشل أن الحكومة الإنجليزية عجَّلت بشنق سليمان سامي قبل أن يبوح بأسرار خطيرة تُدين الخديوي؛ وذلك لأن محاميه طلب بدء التحقيق من جديد، ومواجهته بمن شهدوا عليه.

ومهما يكن من الأمر، فمن الخطأ أن يُرد الحريق إلى سبب واحد من الأسباب التي ذُكرت، والمعقول أن تسببه هذه العناصر جميعًا، وخاصة قذائف الأسطول وطيش سليمان سامي وتواطئ الخديوي توفيق.

_______________________________________________________

المراجع:

كتاب «أحمد عرابي الزعيم الثائر» – عبد الرحمن الرافعي

كتاب «أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه» – محمود الخفيف

مذكرات أحمد عرابي

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker