أغلب الظن أن شاعر الانجليزية الأشهر ويليام شكسبير لو قُدر له أن يطلع على التاريخ الإسلامي وخاصة تاريخ دولة المماليك التي حكمت المشرق العربي لما يزيد عن قرنين ونصف القرن لاختار شخصية السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون لتكون موضوعاً لإحدى مسرحياته التراجيدية.
حيث تجتمع في سيرة حياة الناصر كافة تناقضات وتقلبات الشخصية التراجيدية التي طالما برع شكسبير في صياغتها في مسرحيات مثل هاملت وعطيل وغيرها٫ فالناصر هو السلطان الوحيد في تاريخ دولة المماليك الذي تولى السلطنة ثلاث مرات وعُزل عنها مرتين وتولاها طفلاً ومراهقاً ثم شاباً وبلغ في سلطنته الثالثة ما لم يبلغه أي سلطان قبله.
السلطان الصغير
وُلد الناصر لأبيه السلطان المنصور قلاوون الذي يعد أحد الآباء المؤسسين لدولة المماليك البحرية عقب زواجه من أميرة مغولية هي “أشلون خاتون” وبلغ خبر مولده أباه وهو يقاتل الفرنجة في موقع “خربة اللصوص” فتفاءل بمولده واعتبره بشارة النصر على العدو.
وبعد بضعة أعوام من مولد الناصر٫ خرج والده لملاقاة الفرنجة في معقلهم الأخير في الشام في مدينة عكا٫ إلا أن المنية وافته في الطريق وآلت السلطنة الى ولده الأكبر خليل الملقب بالأشرف.
أكمل الأشرف خليل ما بدأه أبوه وتمكن من تحرير عكا وساحل الشام بأكمله من الوجود الصليبي٫ إلا أن هذا الإنجاز لم يشفع له عند مماليك أبيه الذي تآمروا لاغتياله وهو في رحلة صيد.
وهكذا آلت السلطنة إلى الناصر محمد وهو لا يزال ابن تسع سنوات وبطبيعة الحال لم يحكم بشكل فعلي في تلك السن وإنما تحكم فيه من وراء ستار نائب السلطنة الأمير كتبغا الذي مارس كافة السلطات الفعلية.
إلا أن كتبغا لم يكتف بالحكم من خلال الناصر٫ بل أراد أن يحتكر السلطة لنفسه ، واستمال الخليفة العباسي الذي صارت القاهرة مقراً له منذ عهد السلطان الظاهر بيبرس، كما استمال أمراء المماليك والقضاة وأقنعهم بضرورة إزاحة الناصر لصغر سنه وبالفعل كان له ما أراد٫ فسيطر على القلعة مقر الحكم ونفى الناصر ووالدته منها.
إلا أن حظ كتبغا العاثر أدى إلى قصر مدة ولايته٫ حيث تناقص منسوب النيل وعم الغلاء وانتشرت الأمراض بين العامة الذين ضاقوا ذرعاً بكتبغا الذي اعتبروه مغتصباً للسلطة.
ومثَّلت هذه الظروف ذريعة قوية لأمير مملوكي آخر هو حسام الدين لاجين ليزيح كتبغا من الصورة ويتولى هو السلطة إلا أنه لم يسم نفسه سلطانا بل نائبا للسلطان الأصلي الناصر محمد واستطاع في فترة قصيرة التقرب إلى العامة على عكس كتبغا من خلال إبطال الضرائب والمكوس المفروضة عليهم.
إلا أن سياسته في تقريب بعض المماليك من خاصته على حساب مماليك السلطان قلاوون ومحاولة استبدال مماليك مصر بمماليك الشام جلبت عليه سخط أمراء المماليك لينتهي به الحال قتيلاً على أيديهم كما حدث مع الأشرف خليل.
الهروب إلى الكرك
هنا وأمام فراغ السلطة لم يجد أمراء المماليك أمامهم سوى استدعاء الناصر من منفاه في الكرك ليتولى السلطنة مرة أخرى ليضفي على حكمهم قدراً من الشرعية وكان الناصر حينها بات مراهقاً في الرابعة عشرة من عمره.
ولكن هذا السلطان المراهق أثبت هذه المرة أنه بات اهلاً لمنصبه حيث حقق نصراً مؤزراً على سلطان المغول غازان وجيشه في الشام في موقعة “مرج الصفر” وهو النصر الذي أكسبه مكانة كبيرة عند أهل البلاد.
لكن هذا النصر أيضا نبه أمراء المماليك الى خطورة السلطان الشاب عليهم وفي مقدمة هؤلاء المماليك كل من الأميريْن بيبرس الجاشنكير وسلار اللذين باتا يتآمران على الناصر٫ وهو ما أدركه السلطان الشاب فسارع الى حيلة خشية أن يتم اغتياله كأخيه٫ فتظاهر بالخروج إلى الحج إلا أنه في حقيقة الأمر توجه إلى الكرك وتحصن بها وتظاهر بالتنازل عن السلطنة وهو في حقيقة الأمر يعد للعودة إليها مرة أخرى وقد امتلك أدوات القوة التي تحميه من مؤامرات المماليك ضده.
أخذ الناصر من الكرك يراقب صراع المماليك على سلطنة أبيه٫ ففي مصر استقر الأمر للجاشنكير وسمى ذاته بالسلطان إلا أن نائب السلطنة في دمشق الأمير الأفرم رفض الاعتراف بهذا السلطان وانضم اليه أمير حلب وأمير حماه وسرعان ما سرت هذه الدعوة بين بعض أمراء المماليك في مصر ايضاً.
وتدخلت الطبيعة – مرة اخرى-لصالح الناصر في هذا الصراع٫ إذ انخفض منسوب النيل في مصر وتضاعف سعر القمح وخرج البسطاء ساخطين على الجاشنكير ومطالبين بعودة الناصر.
هنا٫ أدرك الناصر أن الوقت قد حان ليضرب ضربته٫ فجمع أمراء الشام ومصر الموالين له٫ وحين شعر أنصار الجاشنكير في مصر بقرب وصول الناصر قاموا بخلع الجاشنكير ودخل الناصر القاهرة منتصراً وسلطاناً للمرة الثالثة وكان عمره حينها خمسة وعشرين عاماً.
إلا أن السلطنة هذه المرة كانت مختلفة عن سابقاتها٫ إذ أبى الناصر إلا ان ينتقم من كل من تلاعبوا به وتمردوا عليه وفي مقدمتهم سلار الذي انتزع منه كافة الأموال التي جمعها ثم أمر بحبسه دون طعام حتى مات.
ثم قضى الناصر على كل من حاولوا التآمر ضده لخلعه من السلطنة ووصل انتقامه الى بعض افراد اسرته حتى استقر له الأمر تماما .
ضعف من بعد قوة
وبلغت دولة المماليك في عهد الناصر درجة من القوة غير مسبوقة حيث ارتفعت مكانة مصر في العالم الخارجي وسعت البلاد الإسلامية والمسيحية على السواء لخطب ودها، وأصبحت القاهرة قبلة للزوار من شتى الأرجاء.
وخُطِب باسم الناصر في منابر بغداد شرقاً ومنابر طرابلس غرباً ووصل سلطانه الى تونس كما خطب ملوك بني رسول في اليمن للناصر وسعى ملوك الهند والصين وغرب أفريقيا لاقامة علاقات صداقة وود معه.
وامتدح الرحالة الشهير ابن بطوطه الناصر عند زيارته مصر مؤكدا أن للناصر “السيرة الكريمة والفضائل العظيمة. وكفاه شرفاً انتماؤه لخدمة الحرمين الشريفين، وما يفعله في كل سنة من أفعال البر التي تعين الحجاج، من الجِمال التي تحمل الزاد، والماء للمنقطعين والضعفاء، وتحمل من تأخر أو ضعف عن المشي في الدربين المصري والشامي”.
غير أن الدولة التي بلغت أوج قوتها في عهد الناصر٫ بدأ الضعف يدب في مفاصلها ايضاً في عهده٫ حيث كان الناصر -على عكس أسلافه- لا يشتري المماليك صغاراً ويدربهم على فنون القتال في سن مبكرة بل كان يكثر من استجلاب المماليك الكبار السن وكان المملوك بمجرد وصوله إلى مصر يُنعم عليه بالملابس الفاخرة والذهب والخيول والعطايا٫ الأمر الذي أثَّر على الطبيعة العسكرية والقتالية لدولة المماليك والتي سرعان ما باتت علامات الترهل تظهر عليها.
ولعل هذا ما يفسر أن سلالة الناصر من أولاده وأحفاده لم يحكموا إلا على فترات متفرقة ولم يحكم اغلبهم بشكل فعلي بل تحكم فيهم أمراء المماليك٫ فلم يحكم ولده المنصور أبو بكر سوى بضعة أشهر وكان آخر سلطان من السلالة القلاوونية هو الصالح حاجي من أحفاد الناصر والذي لم يحكم سوى سنة لتسقط معه دولة المماليك البحرية ويبدأ عهد المماليك البرجية أو الجراكسة على يد السلطان برقوق.