بقلم: د.محمد صابر عرب، نقلًا عن صفحته على الفيسبوك
إذا كان القرن التاسع عشر يعد بداية لتاريخ العرب الحديث ، حينما انفتح العالم العربي على أوروبا ، وتبين للعرب أن ثلاثة قرون قد مضت دون أن يحدث لهم أي تغيير على كل المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ، بينما انتقلت القارة الأوروبية نقلة كبيرة في كل مناحي الحياة.
يعتقد معظم المؤرخين أن القرن التاسع عشر هو البداية الحقيقية للنهضة العربية الحديثة، وخصوصا في مجال الفكر والثقافة ، وهو رأي يحمل الكثير من الحقيقة ، فقد دخلت المطبعة ، وبدأ التعليم المدني في بعض الدول العربية ، وظهر جيل من الآباء المؤسسين للفكر ، كل هذا صحيح لكن لم يحمل القرن التاسع عشر مشروعًا ثقافيًا واجتماعيًا متكاملًا ، باستثناء فترة محمد علي في حكم مصر ، بعدها انقطع التواصل مع هذا المشروع ، إلا في عصر الخديوى إسماعيل ، الذي أعاد البعثات إلى أوروبا ، وأسس الكثير ممن المؤسسات التعليمية والفنية والثقافية.
يعد القرن العشرين ، هو البداية الحقيقية للنهضة الثقافية والفكرية في مصر ، على الرغم من وقوعها تحت الاحتلال البريطاني ١٨٨٢ ، لكن جيلًا كاملًا من المتعلمين كانوا قد درسوا في أوروبا وعادوا إلى مصر وأحدثوا بها حراكا سياسيًا وفكريًا ، لذا تأسست مدرسة جديدة أتت أكلها في كل مناحي الحياة ، حينما ظهر جيل من رواد الحركة الوطنية المصرية ، من بينهم مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وقاسم إمين ، واكب ذلك تطور نظم الإدارة في التعليم والاقتصاد ، وظهرت الصحافة الحزبية ، كل ذلك قد أحدث حراكًا ثقافيًا واجتماعيًا ، تمخض عنه ظهور الجامعة المصرية (١٩٠٨) ، وهي جامعة نشأت بمبادرة أهلية قادها رواد الفكر والثقافة ، وواكب كل ذلك ظهور شخصيات فكرية وثقافية عرفها المصريون من خلال كتاباتهم في الدوريات والصحف ، من قبيل طه حسين والعقاد ولطفي السيد ومحمد حسين هيكل وغيرهم كثيرون ، وفي نفس السياق ظهر جيل من الأكاديميين ، الذين درسوا في داخل مصر أو خارجها ، ومعظمهم كانوا من رواد التعليم في وزارة المعارف.
مع انضمام الجامعة المصرية إلى وزارة المعارف ١٩٢٥ ، وتحويلها من جامعة أهلية إلى جامعة حكومية ، تحت رعاية الدولة ، التي راحت تعمل على إعداد جيل من الأكاديميين المصريين ، بدلًا من الأجانب ، وظهرت أسماء مصرية مثل لطفي السيد وسليم حسن ومصطفى عبد الرازق وطه حسين وصبري السربوني وغيرهم في كل مجالات العلوم التجريبية والإنسانية ، ويأتي من بين هولاء المؤرخ الشهير محمد شفيق غربال ( ١٨٩٤-١٩٦١ ) ، الذي تخرج من أحد المدارس المصرية في الإسكندرية ، وقد ابتعثته الدولة لدراسة التاريخ في جامعة ليڤربول في إنجلترا ، حيث حصل على درجة البكالوريوس ١٩١٩، عاد بعدها إلى مصر ليعمل معلما في التعليم الثانوي بالإسكندرية لمدة ثلاث سنوات ، ابتعث بعدها إلى جامعة لندن لاستكمال دراسة الماچستير ، وفي هذه الجامعة العريقة التقى بالمؤرخ البريطاني الشهير ( أرنولد توينبي ) الذي أشرف على رسالته في الماچستير ١٩٢٤ ، وكان موضوعها ” بداية المسألة المصرية وظهور محمد علي ” ، وقد نشرت باللغة الإنجليزية في لندن ١٩٢٨ ، وأعد تقديما لها أستاذه أرنولد توينبي .
لم يكمل شفيق غربال دراسته للدكتوراه ، بعد أن انتهت بعثته ١٩٢٥ ، عاد بعدها إلى مصر ، ليعمل مدرسا للتاريخ بمدرسة المعلمين العليا ، ثم انتقل أستاذًا مساعدًا للتاريخ الحديث بكلية الآداب في الجامعة المصرية ، خلفًا للمؤرخ الإنجليزي ( آرثر جراند ) وفي عام ١٩٣٩ ، انتخب عميدًا لكلية الآداب خلفًا للدكتور طه حسين ، بعدها شغل وظائف عدة في وزارتي المعارف والشئون الاجتماعية ، لكنه ظل محتفظا بوظيفته التي يعتز بها ، أستاذا بالجامعة المصرية ، حتى بلغ السن القانونية ١٩٥٤ .
رغم كل هذه المشاغل لم يتوقف غربال عن إلقاء المحاضرات والكتابة والترجمة ، لكنه كان بعيدا عن السياسة الحزبية ، مستقلا برأيه منشغلا بمهمته الإكبر كواحد من الآباء الكبار ، بعد أن التفت حوله أعداد كبيرة من الباحثين الشباب الذي تأثروا به وكان بمثابة الملهم لهم في العناية بالكتابة التاريخية التي تطورت على يد غربال ، من حيث إعمال المنهج الأكاديمي، وإدخال ثقافته الواسعة في المعارف الفلسفية ونظريات النقد الحديث ، وقد غلبت عليه الكتابة في الدوريات والصحف ، وإلقاء المحاضرات العامة التي كان قوامها إعمال نظريات النقد بدلا من الكتابات السردية والحشو المبالغ فيه الذي لا يفيد البحث العلمي.
كتب شفيق غربال العديد من المؤلفات الرصينة ( بداية المسألة المصرية وقيام محمد علي) و ( محمد علي الكبير) و ( تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية ١٩٣٦) ، ثم كانت دراسته البديعة عن الچنرال يعقوب ، وأعتقد انه كان أول من عمل بعلم التحقيق ، حينما حقق مخطوط ( ترتيب الديار المصرية في عهد الدولة العثمانية كما شرحه حسين أفندي الروزنامجي ) وقد نشر هذا العمل عام ١٩٣٦ ، تحت عنوان ( مصر في مفترق الطرق ١٧٩٨-١٨٠١ ) ورغم أعماله الأكاديمية وانشغاله بالعمل في الجامعة ، إلا انه كتب مقالات متفرقة في الصحف والدوريات ، لم يتعرف عليها الباحثون الجدد إلا بعد أن عكف على دراستها وجمعها من مختلف الدوريات الدكتور حسام عبد الظاهر ، ونشرها في أربعة أجزاء ، وقد تجاوزت المائة وعشرين مقالًا ، وقد أشرف على هذا العمل الكبير المؤرخ الصديق الدكتور أحمد زكريا الشلق ، وقد صدر هذا العمل من مركز تاريخ مصر من دار الكتب والوثائق القومية ، ابتداء من عام ١٩١٢ ، وقد تعجبت من قدرة هذا الباحث الجاد من جمع كل هذا التراث من عشرات الصحف والدوريات العلمية ، والتي نشرت خلال أربعة عقود.
يصعب الحكم على النتاج العلمي لهذا المؤرخ الكبير في غيبة كل هذه البحوث والمقالات ، وفي كل ما كان يكتب كانت لديه رؤية دقيقة في تفسير أحداث التاريخ ، ودعوته إلى عدم المبالغة في وضع قوانين تفسير التاريخ وتدافع أحداثه ، وهو ما كان يتعارض مع رأي أستاذه ( توينبي) الذي ابتكر نظرية التحدي والاستجابة ، بينما رفض غربال إسقاط النظريات والفلسفات على التاريخ ، مفضلًا التعامل مع كل حدث بقدر ما يحيط به من ملابسات. لذا أعتقد أن هذا المؤرخ الكبير يعد أول من كتب التاريخ من بين المؤرخين العرب بهذا المنهج الواضح ، بعيدًا عن الكتابات الإنشائية والمصطلحات الحماسية.
لقد كان شفيق غربال ملهما لأجيال المؤرخين الذين تتلمذوا عليه من قبيل أحمد عزت عبد الكريم واحمد عبد الرحيم مصطفى وعبد العزيز الشناوي وأحمد الحتة وحسن عثمان وإبراهيم عبده وأحمد طربين وعبد الحميد البطريق ، ومحمد رفعت رمضان وكثيرا ما كان يشير إلى تلاميذه في بعض اللقاءات قائلا : هؤلاء هم مؤلفاتي ، وجميعهم قد انتشروا في الجامعات المصرية والعربية بعد أن تأثروا بأستاذهم ، الذي أحال التاريخ من دائرة الأدب إلى دائرة الفلسفة ، ورغم تخصصه الدقيق في التاريخ الحديث إلا انه كان موسوعي الثقافة ، فقد كتب وحاضر في الأدب واللغة والثقافة والتاريخ القديم والوسيط ، وكان قوام دراساته هو الاعتماد على المصادر الأصيلة الأجنبية والعربية ، كما كانت لديه قدرة عظيمة في توظيف المصادر وانتقاء المعلومات الدقيقة والقراءة الواعية للمصادر.
كان شفيق غربال أول الداعين إلى إنشاء الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ١٩٤٥، وقد ترأسها ١٩٥٦ ، كما كان عضوا بمجمع اللغة العربية ، ومديرا لمعهد الدراسات والبحوث العربية ، لذا تتلمذ على يديه جيل من المؤرخين العرب الذي درسوا في هذا المعهد العريق ، وقد قدرته الدولة المصرية حينما منحته جائزتها التقديرية ١٩٦٠.
رحل شفيق غربال عن دنيانا ١٩٦١، وقد نعاه أستاذه (توينبي ) بمقال في صحيفة التايمز برثاء يليق بتلميذه النابه ، وقد أقام له مجمع اللغة العربية حفل تأبين تحدث فيه العقاد وطه حسين ، وجمع من المجمعيين ، وقد أكدوا على دور هذا الأستاذ العظيم في تأسيس أول مدرسة تاريخية بالمعنى العلمي ، فضلا عن دوره في تكوين جيل من المؤرخين الذين أحدثوا نقلة كبيرة في حقل الدرسة التاريخية.. رحم الله محمد شفيق غربال بقدر ما قدم لوطنه وأمته.