إنها الساحرة المستديرة. التي تخطف العقول وتسكن القلوب كلما سكنت الشباك لتخرج الآهات العفوية بالفرح والبهجة إذا كان في مرمي المنافس بينما يسكن الحزن وتزرف العيون دموعا ساخنة تصل درجة غليان المشجعين.
لم تعد كرة القدم مجرد “لعبة ” للتسلية بل صارت مصدراً رئيسا للمتعة وملاذ للانتماء ومكون من مكونات الوجدان … لقد صارت عالما يجد فيه الجميع ضالته لتفريغ طاقة بلا حدود.
على الرغم من أن عدد من المثقفين يرون أن اللعبة الشعبية الأولى تحولت إلى “أفيون للشعوب “واعتبرها البعض تساهم في انحراف الشعوب عن النضال الوطني والثوري إلا أن الشاعر الكبير محمود درويش كان أحد الذين اختلفوا مع ذلك وأعلن مرارا عشقه لتلك اللعبة وحرصه على متابعتها وتعطيل أي أمر في حياته إذا تعارض مع مباراة يحرص على مشاهدتها.
قال عنها درويش إنها ” اشرف الحروب ” كما أكد في كتابة “ذاكرة للنسيان ” :” وقال عنها “ساحة التعبير التي يوفرها تواطؤ الحاكم و المحكوم في زنزانة الديمقراطية العربية المهددة بخنق سجانها و سجانيها معًا.. هي فسحة تنفس تتيح للوطن المتفتت أن يلتئم حول مشترك ما”
وأصبح المستطيل الأخضر ساحة للمعارك الشريفة وتحول لاعبيها إلى فرسان يتبارزون بالمهارة وقوة البنيان وسحر الموهبة في التحكم في تلك الكرة الصغيرة التي تطير فتهفو القلوب نحوها بحثا عن متعة وانتصار.
محمود درويش ومارادونا
فى الوقت الذى ينشغل الملايين من البسطاء حول العالم بتلك اللعبة لم يكن المثقفين والأدباء بعيدا عن ذلك الشغف بالسحرة المستديرة وكانت مصدر لاهتمام وربما بلغ درجة التعصب لعدد كبير من المثقفين الذين جهروا بالإعلان عن ولعهم باللعبة ودعمهم لفريق ما ولاعب بعينه .
في عام 1986 وعقب فوز الأرجنتين بكأس العالم كتب محمود درويش مقال عن ساحر كرة القدم “ماردونا ” هذا المقال الاستثنائي تحول إلى أيقونة لكل ما كتب عن الرياضة ورجالها وكل ما خطته أقلام المثقفين حول كرة القدم ونجومها وجاء فى المقال – القصيدة – :
” مارادونا، ماذا فعلت بالساعة؟ ماذا صنعت بالمواعيد؟ ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟
مع منْ سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟ وإلى منْ نأنس ونتحمّس بعدما أدمناه شهراً تحوّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشّاق؟
ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجج فينا عطش الحاجة إلى: بطل. بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلّق له تميمة، ونخاف عليه ـ وعلى أملنا فيه ـ من الانكسار؟
ويواصل درويش عن أسطورة كرة القدم قائلا “يفلت كالصوت له وجه طفل، وجه ملاك، له جسد الكرة، له قلب أسد، له قدما غزال عملاق، وله هتافنا: مارادونا. مارادونا، فنتصبب اسمه عرقا. ويقتلع الكرة كالقطة البلدية الماهرة، من أرجل البغل. يراوغ كالثعلب المزوّد بقوة ثور، ويقفز كالفهد على حارس المرمى الضخم المتحوّل إلى أرنب: جوول .
يا مارادونا، يا مارادونا، ماذا فعلت بالساعة؟ ماذا صنعت بالمواعيد؟”
المثقفون والكرة
وفى كتابه ” كرة القدم والمثقفين “يتساءل مؤلفه “أشرف عبد الشافي “: (لا أعرف من روّج لأكذوبة كراهية المثقفين لكرة القدم وتعاليهم عليها، عموماً. في هذا الكتاب قصص وحكايات عن كرة القدم في حياة أدباء ومثقفي مصر والعالم. )
مشيرا أن للعبة عشاقها بين كبار أدباء ومثقفي مصر والعالم ومنهم نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وأنيس منصور
كان الشاعر العراقي ” معروف الرصافي ” (1877-1945) هو صاحب أول قصيدة عربية عن كرة القدم حيث قال فيها
قصدوا الرياضة لاعبين وبينهم * كرة تراض بلعبها الأجسامُ
وقفوا لها متشمرين فألقيت * فتداولتها منهم الاقدامُ
يتراكضون وراءها فى ساحة * للسوق معترك بها وصدامٌ
رفسا بأرجلهم تساق وضربها * بالكف عند اللاعبين حرامٌ.
ويشير الكتاب إلى أن ” كل ذلك في عشق الساحرة المستديرة التي جعلت روائيا كبيراً مثل عمّنا “خيرى شلبي ” يصفها ب” سيمفونية الفقراء”، ويعلن وقوعه فى غرام فريق الإسماعيلي رغم انه زملكاوي الهوى، ويخصص خيرى شلبي فصلا كاملا فى كتابه “صحبة العشاق ..رواد الكلمة والنغم ” عن الكابتن محمد لطيف، أو “فاكهة الكرة المصرية ” كما وصفه كاتبنا الكبير. ومثل كل الأطفال فى حواري إمبابه لعب المبدع “إبراهيم اصلان” الكرة الشراب، وصنع لنفسه نجومية فى كل حواري المنطقة، فهو يجيد اللعب فى منتصف الملعب إضافة إلى إجادته. حراسة المرمى “
” وأصلان صاحب ” عصافير النيل ” زملكاوي أصيل: ” معظم أهالي امبابة والكيت كاث يشجعون الزمالك، فالنادي قريب جدا ويمكن للشباب والمراهقين أن يتجمعوا سويا لمشاهدة تدريبات الفريق، وكانت تلك متعة خاصة على أيامنا “
ويذكر أن الكاتب أنيس منصور قد كتب فى عموده اليومي الشهير بصحيفة الأهرام مقال بعنوان ” العب العب ليطول عمرك قال فيه: “مسكين كل إنسان لا يحب كرة القدم. ” هكذا قال مؤلف كتاب “كرة القدم والمثقفين ” .
الفاجومى.. وجنون كرة القدم
يعرف الجميع أن الشاعر ” أحمد فؤاد نجم ” هو أحد أهم شعراء المقاومة وقصيدة الالتزام والتحريض لكن الكثير لا يعلم أن “نجم ” كان أحد المهوسين بكرة القدم وشديد الحرص على متابعتها فهو “الأهلاوى ” العتيد الذى اعتبر نفسه واحد من جمهور الدرجة الثالثة الناس الطيبين ولم يكن أبدا يهوى – المقصورة – ومن فيها فهو صاحب الانحياز للبسطاء حتى بين مشجعي الكرة
في عام 1959 عرف “نجم ” قضبان السجن لأول مرة ولم تكن بسبب اشعاره المُحرِضة على الحُكام ولا لكونه واحد من اليسارين المعارضين
بل غيبته القضبان لمده 3 سنوات لأسباب “جنائية ” وفى السجن ولدت تجربته الشعرية الأولى وكان ديوان عن “الأهلي والزمالك ” فقد كان معظم السجناء من هواة كرة القدم والمتعصبين لها في مرحلة شهدت اهتماما متزايدا ًبكرة القدم
وكان الاستقطاب بين قطبي الكرة في ذروته
ولأن “نجم “اهلاوى حتى النخاع ولأن معظم زملاء الزنزانة كانوا كذلك فقد إستغل موهبته فى الشعر لكسب شعبية ونفوذ داخل السجن.
في السنة الأخيرة له في السجن، اشترك في مسابقة «الكتاب الأول» التي ينظمها المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون، فاز بالجائزة الأولى وصدر ديوانه الأول «صور من الحياة والسجن» بمقدمة للدكتورة سهير القلماوي
في عام 1965 جمع قصائده عن كرة القدم في ديوان “حكاية الأهلي والزمالك” ثم صدر له ديوان “فرحوا العناتيل ” – والعناتيل لقب اطلقة الناقد نجيب المستكاوى على لا عبى النادي الأهلي – وقد سقطت عمداً تلك المجموعات الشعرية من أعمال نجم بعد أن تحول إلى أهم شاعر سياسي في مصر .
في قصيدة «حكاية الكورة ” يقول نجم:
حكاية الكورة في بلادنا
ولا الروايات
صحايف تحكى أمجادنا
مع الكبوات
وفيها نصر أجدادنا
علي الخواجات
وفيها درس لولادنا
بنين وبنات
ويكتب نجم على طريقة هتافات جمهور الدرجة الثالثة :
يا أبو الفانلة الحمرا
يا أهلاوي يا أصيل
خلي الإيدين السمرا
ترفع لك المناديل
ويأخذنا النصر في غمرة
ننشد لك المواويل
وفي هتاف لجمهور الزمالك يقول:
“يا محني ديل العصفورة
زمالك هي المنصورة
وح نفضل دايمًا في الصورة
والتالتة ويا المقطورة
ح يفنوا على نغم الكورة
يا محنِّي ديل العصفورة “
فى العقد الأخير من القرن العشرين عاد الولع بكرة القدم يسيطر على الجميع خاصة بعد أن تمكن المدير الفني “محمود الجوهري ” من تحقيق حلم الصعود إلى المونديال ويستمر الاهتمام مع تحقيق المعلم “حسن شحاته ” نجاحات قارية غير مسبوقة وحظى بدعم رسمي كبير وواضح .
ورغم حالة التراجع التي شهدتها كرة القدم المصرية خلال العقد الثاني من الألفية بسبب الأحداث السياسية التي مرت بالبلاد إلا أن هذه الفورة من الاهتمام باللعبة بدا يتزايد مؤخرا واستعادت شعبيتها الجارفة عافيتها لكن بمزيد من التعصب والتوتر المجتمعي الذى صاحب الساحرة المستديرة وظهر عدد من المثقفين الذين يعلنون عشقهم للكرة ودعمهم لأحد القطبين الكبيرين من بين هؤلاء “مدحت العدل وبلال فضل وعمر طاهر وغيرهم الكثير كما يتنافس نجوم الفن فى إعلان دعمهم الواضح والصريح لأنديتهم مثل “هاني شاكر وعمر دياب ونبيل الحلفاوي وصابرين وغيرهم الكثر والكثير .