في الفيلم الامريكي الكلاسيكي “الأب الروحي” الذي يدور في أروقة ودهاليز العالم السفلي لعصابات المافيا في الولايات المتحدة٫ وفي مشهد شديد الدلالة٫ يناقش رؤساء العصابات في اجتماع مغلق ما إذا كان ينبغي أن يستثمروا أموالهم في تجارة المخدرات أم لا؟
يقف أحد هؤلاء الزعماء ويقترح بمنتهى الجدية أن يتم هذا الاستثمار ولكن بشرط الا تُباع هذه المخدرات في أحياء البيض أو لأولادهم وإنما أن يقتصر بيعها على الأحياء ذات الأغلبية السوداء فقط وذلك لان السود وفقاً لمنطقه العنصري البغيض ليسوا بشراً وبالتالي فهم لا يملكون ارواحاً لكي يفقدوها بتعاطيهم المخدرات.
يبدو هذا المنطق على وضاعته مفهوماً إذا صدر من رجل عصابات يرأس منظمه اجراميه لكن المدهش حقاً هو ان تشاطره حكومه الولايات المتحده هذا الرأي.
ففي عام ١٩٩٦ وفي سلسلة مقالات استقصائية نشرها على صفحات جريدة صغيره هي “ميركوري نيوز” في ولاية كاليفورنيا الأمريكية٫ كشف الصحفي الأمريكي غاري ويب أن هناك صلة وثيقة بين ازدياد تجارة وتعاطي الكوكايين في تلك الولاية وبين صفقة أجرتها الحكومة الأمريكية.
وأوضح ويب في تلك السلسلة التي حملت اسم “التحالف الغامض” أن الصفقة بدأت في ثمانينات القرن العشرين مع وصول حكومة الساندينستا اليسارية إلى الحكم في نيكاراغوا وهو الأمر الذي دعا الحكومة الامريكية الى تسليح ودعم ميليشيات “الكونترا” المعارضة لهذه الحكومة بهدف اسقاطها.
كان تمويل الكونترا يحتاج الى مبالغ طائلة ولتفادي موافقة الكونغرس من عدمها على هذه المبالغ لجأت الاستخبارات الأمريكية (سي اي ايه) الى السماح لعناصر الكونترا باحضار مخدر الكوكايين من أمريكا الوسطى حيث كان بيعه رائجا وتوزيعه داخل الولايات المتحدة وتحقيق مكاسب مادية استخدمت لاحقاً لتسليح وتمويل أنشطة الكونترا ضد حكومة نيكاراغوا.
أثارت مقالات ويب حالة واسعة من الجدل ناهيك عن حالة من الغضب العارم في اوساط الامريكيين السود الذين كانت احيائهم الاكثر معاناه من بيع وإدمان الكوكايين.
بدأت الصحف الكبرى حمله شرسه ضد كل من ويب وجريدته متهمة اياه ب”المبالغة” وتزعمت صحيفة “ذا لوس أنجلوس تايمز” ذات التوزيع والتأثير الواسع هذه الحملة التي هدفت إلى تشكيك في مصداقية ويب ومقالاته.
تزايدت الضغوط على “ميركوري نيوز” واضطرت الجريدة في عام ١٩٩٧ إلى التراجع عن بعض ما نشره ويب مؤكدة ان القصه المذكوره في المقالات وإن كانت تحمل بعضاً من الصحة إلا أنها بعض “أوجه القصور” فيها بما في ذلك “تبسيط مخل” لقضية تجارة الكوكايين.
أدى هذا التراجع الى استقالة ويب من “ميركوري نيوز” مع نهاية العام٫ وعلى صعيد حياته الشخصية٫ عانى ويب في الوقت ذاته من انهيار زواجه واضطر لأن يكتفي بوظيفة كمحقق لصالح أحد المُشرعين في ولاية كاليفورنيا.
لم يتراجع ويب عما كتبه وجمع مقالاته في كتاب أسماه “التحالف الغامض” ايضاً في عام ١٩٩٨.
خفت الجدل حول مقالات ويب في السنوات التالية إلا أن قضيته أطلت برأسها مرة أخرى في عام ٢٠٠٤ حيث وجد رجال الأمن قتيلاً في شقته برصاصتين في الرأس.
وانتهى التحقيق إلى أن ويب مات منتحراً٫ إلا أن هذا لم يمنع كثير من قرائه من التشكيك في هذه الرواية.
ظل ويب رغم رحيله مصدر إلهام لكثيرين٫ وحول المخرج مايكل كويستا قصته في عام ٢٠١٤ إلى فيلم سينمائي بعنوان “اقتل الرسول” تناول فيها عمله الصحفي ومقالاته المثيرة للجدل وان لم يتطرق الفيلم الى ظروف مقتله الغامضة.
وفي عام ٢٠١٧ تطرق المسلسل التلفزيوني الأمريكي “سنوفال” او “تساقط الثلوج” إلى ما أثاره ويب من خلال شخصية عميل للاستخبارات الأمريكية يستخدم أموال المخدرات لشراء أسلحة لصالح الكونترا.