بقلم: صلاح الانصاري، نقلًا عن صفحته على الفيسبوك
في الحلقة الأولى بينا أحوال عمال المحلة في بدايات تأسيس شركة مصر للغزل والنسيج , واشرنا إلى إضراب عمال المحلة في 1938 , وكيف أن السلطات تعاملت معه بقوة وعنف .
وبعد عشر سنوات من هذا الإضراب , تحركت قيادات جديدة وكان بداية تحركها فى يونيو 1946 حيث وقع أكثر من مائة عامل يمثلون جميع عمال الشركة على عريضة ” مذكرة ” والتي اسماها البعض بالسجن الصناعي الكبير , وبأكبر مجمع لمرض السل . وفى هذه المذكرة لخصوا مطالبهم على النحو التالي :
1. أن تكف الشركة عن السياسة التي تتبعها للاستغناء عن العمال القدامى في العمل وتعيين عمال جدد بدلا منهم .
2. أن تكف الشركة عن غلق بعض الأقسام وتعطيلها , لان تصرف الشركة هذا سيزيد من عدد العاطلين ويضر مجموع الأمة التي لا تكاد تجد ما يفي بحاجتها من المنسوجات .
3. زيادة أجور العمال زيادة معقولة . فان الأجور الحالية لا تكفى لتوفير الضروريات للعمال وعائلاتهم .
4. وضع لائحة للجزاءات موقع عليها من مكتب العمل حيث لا وجود للائحة جزاءات , والكف عن توقيع الجزاءات على العمال دون حساب ولأتفه الأسباب , مع ضرورة صرف الغرامات وغيرها على مصلحة العمال وفقا للقانون .
5. تنفيذ قانون عقد العمل الفردي وغيره من القوانين العمالية .
6. توفير وسائل الإسعافات الطبية الجديدة وعدم حرمان العمال من أجازاتهم الأسبوعية .
7. منع تشغيل النساء والأحداث الى ساعات متأخرة من الليل , وإعطاء النساء حقوقهم التى نص عليها القانون في حالتي الحمل و الوضع .
8. تعيين لجنة للتحقيق مع العمال عند وقوع مخالفات منهم حتى لا تجرى الأمور كما هى عليه الآن من حيث فصل العمال بدون تحقيق .
9. ضرورة تخصيص المكافآت والخدمات الاجتماعية للعمال لا لكبار الموظفين فقط .
وطالبت المذكرة بإيفاد لجنة من وزارة الشئون الاجتماعية للتحقيق فى أحوال عمال المحلة الكبرى تحقيقا منصفا سليما مع اتخاذ الخطوات السريعة التى تكفل رفع الظلم عن كواهل العمال .
ومر عام على المذكرة الأولى , ولم يتحرك اى من الأجهزة المسئولة , ولكن الشركة تحركت لاستفزاز العمال وذلك بإصدار لائحة جزاءات تضر بالعمال وتحرمهم من مكافآت نهاية الخدمة وتنذر كل عامل بالفصل إذا ضبطت معه صحيفة أو مجلة أو طعام أو إذا ضبط وهو يصلى !! أو عاري الرأس إثناء العمل .
وقام العمال بمظاهرة سلمية فى 2 سبتمبر 1947 ضد الظلم .. فأطلق ضابط الشركة المدعو / الحسيني افتدى تسع أعيرة نارية , فثار العمال .. وتدخلت الحكومة وأطلق البوليس النار وجاءت قوات وحاصرت المحلة والمصانع داخل المحلة , وكانت نتيجة الأحداث الدامية بين 2 , 3 سبتمبر 1947 استشهاد أربعة من العمال وجرح 270 , وألقى القبض على 60 شخصا منهم 37 عاملا وعدد من الاهالى .. هذه هى الأرقام التى أعلن عنها . ولكن الأرقام الحقيقية كانت أكثر من ذلك بكثير .
يكتب رفعت السعيد فى كتابه – الصحافة اليسارية فى مصر من 1925 – 1948 على لسان ” الجماهير ” وهى لسان الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني عن هذا الإضراب فيقول :
( كذلك لم تكن “الجماهير” بعيدة عن تنظيم هذا الاضراب الكبير فكل الدلائل تشير الى كوادر ” حدتو ” بالمحلة هى التى نظمت ” لجان الاضراب السرية ” وكان رئيس اللجان هو محمد حمزة عضو حدتو , وانفجرت المعركة الاضرابية التى قلبت المدينة كلها الى ميدان قتال تصادم فيه 26.000 عامل مع ألاف من جنود البوليس ثم الاف أخرى من جنود الجيش المسلحين بالدبابات والسيارات المصفحة , ومن الملفت للنظر أن مطالب العمال المضربين كانت تتفق الى حد التطابق مع المطالب التى كانت ” الجماهير ” تحددها بالنسبة للأوضاع فى شركة المحلة . ” حل النقابات الصفراء .. انتخابات نقابة جديدة .. إلغاء لائحة الجزاءات .. رفع الأجور بنسبة 25% .. عدم توفير العمال ” تسريح ” وكان الصدام داميا واستشهد من العمال أربعة ..
وترسل ” الجماهير ” برقية الى رئيس الوزراء بالنيابة تستنكر بشدة الاعتداءات الدامية التى وقعت على عمال المحلة .. كما تستنكر تعسف الشركة معهم .. وتطالب فورا بتدخل الحكومة لإنصاف العمال .. وتدعو الجماهير كل عمال النسيج التضامن مع زملائهم .. ويواصل رفعت السعيد حديثه ونقلا لفترات عديدة من ” الجماهير ” فيقول :
ويضرب 20.000 من عمال النسيج فى شبرا الخيمة تضامنا مع عمال المحلة واستجابة لنداء ” الجماهير ” …
ويواصل حديثه :
ثم تفتح ” الجماهير ” اكتتابا عاما لشهداء المحلة قائلة ” بعد سقوط أربعة من عمال المحلة يكافحون من اجل قوتهم وقوت أولادهم وعائلاتهم . لقد تركوا صغارا دون عائل , فاكتتبوا لهم , ان اكتتابكم يرمز للتعاون والإخاء بين المظلومين الكادحين جميعا فى مصر.. وتستمر الجماهير فى نشر قوائم التبرعات لشهداء عمال المحلة لفترة طويلة .
وتذخر صفحات الأعداء التالية ببيانات التأييد لعمال المحلة من هيئات ونقابات وتجمعات عمالية جديدة .
… عمال وعاملات مصانع الغزل والنسيج بالمطرية والزيتون , نقابة عمال الامنيبوس المصرية , اتحاد عمال البحر ببورسعيد , اللجنة الوطنية بحي القلعة , عمال مصنع سباهى .. الخ .
كذلك نشرت الجماهير اقتراحا من جبهة عمال مدينة المنصورة باعتبار يوم 2 سبتمبر يوم شهداء عمال المحلة .. عيدا لكفاح العمال المصريين .
من الملاحظات الهامة فى إضراب 1938 , 1947 ان قوات الجيش والبوليس تدخلت تدخلا عنيفا فى فض الاضرابات العمالية فى حين انه فى 26 يناير 1952 احترقت القاهرة فى ساعات قليلة . والغريب أن النحاس باشا طلب من حيدر باشا وزير الحربية آنذاك يطلب منه الاستعانة بالجيش إلا انه رفض وعلل رفضه بأنه يأخذ أوامره من جلالة الملك , واتصل فؤاد سراج الدين وزير الداخلية آنذاك يطلب منه الاستعانة بالجيش للسيطرة على الحريق لان الأمر أصبح فوق طاقة الحكومة وفوق طاقة البوليس .
والأغرب أن حيدر باشا وزير الحربية تلكأ فى التدخل وترك الموقف يتفاقم .. إما أن يضرب العمال فتحرك قوات البوليس والجيش لفض الاضراب بقوة النيران , فمن أعطى الأوامر للجيش بالتدخل فى الاضرابات العمالية بالدبابات والمصفحات ؟!
الملك .. أم وزير الحربية .. أم لأنهم عمال ؟؟