في كنف أم رؤوم ينشأ الصبي في ظروف بالغة الصعوبة.. بعد رحيل الأب الذي كان قسا في الكنيسة الإنجليكانية.. تلك الخشونة التي عاينها منذ سنواته الأولى؛ صنعت منه رجلا جلدا من أصحاب العزائم، يعمل في أقسى الظروف ولا يعرف التبرم، ولا يعبأ بالعوائق التي تهزم أعتى الرجال.. وكان من بره بأمه العطوف أن أخفى إسلامه لأكثر من عقدين من الزمان عنها؛ حتى لا يصيبها الحزن وهي المتدينة التي تؤم الكنيسة للصلاة صباح كل أحد.
في مسقط رأسه مدينة ” كيمبريدج تِرَس” قرب لندن عرف الفتى دفء العلاقات الإنسانية، باهتمام أغدقه عليه الجميع لدماثة خلقه، ولسيرة والده الطيبة؛ فطاب له العيش هناك.. لكنه يضطر للانتقال إلى “لندن” لتمثل له المدينة العملاقة النقيض لكل ما عاينه في مدينته الصغيرة.. جزعت روح اليتيم الغريب من تلك الوجوه الصخرية، والأعين الزجاجية، والمشاعر المتبلدة في مدينة الضباب الباردة.. تلك الصدمة المروعة التي أصابت “بيكثال” جعلته ينظر مبكرا في حقيقة الحضارة الغربية وروحها الخشنة؛ ليلتمس بعد ذلك كل سبيل للتحول نحو الشرق، بعد أن شغفت به روحه منذ القراءة الأولى.
لا يختلف أحد على انتساب “مارمادوك” إلى القائد الجرماني العظيم وليم الفاتح النورماني الذي يعتبر أحد أبطال معركة الطرف الأغر.. فلم يكن من قبيل العجب أن يتحلى الحفيد ببعض صفات الجد، ومنها المثابرة والعناد وعدم الاستسلام للفشل، والقدرة على مواجهة أصعب الظروف.. في مدرسة “هارو” زامل “ونستون تشرشل” وكان له صديقا مقربا، ولم تمنعه إصابته بالالتهاب الشعبي المزمن من ممارسة رياضة تسلق الجبال في “ويلز” لكنه يكتشف أنه يعاني من مرض “فوبيا” الاحتجاز، فما يلبث أن يعود إلى “لندن” للتقدم لشغل وظيفة بوزارة الخارجية.. لكنه لم يحظ بالوظيفة فيقرر وهو في الثامنة عشرة من عمره إن يرحل في اتجاه الشرق في مغامرة غير محسوبة.
استقل مارمادوك السفينة المتجهة إلى ميناء بورسعيد؛ لكنه آثر النزول في يافا لتكتحل عيناه للمرة الاولى برؤية تلك البقاع المقدسة التي عاينت وجوه الأنبياء والمرسلين على مر الزمن.. دافع آخر بدا قويا في نفس الشاب، ألا وهو البحث عن ظلال تلك الحكايات الساحرة التي قرأها في كتاب ألف ليلة ولية وخلبت لبه، وأراد أن يقتفي آثارها في القدس ودمشق وحلب والقاهرة.. الشرق مهبط الوحي وأرض الحضارات بدا له في أواخر القرن التاسع عشر يعاني الاضمحلال والفقر؛ غير أن أهله يعيشون في بهجة ويجيدون صناعة الأفراح، على عكس الناس في بلاده لا يشغلهم سوى جمع المال، وخشية الموت.. هكذا حدثته نفسه، في كل مكان ذهب إليه.. في فلسطين لاحظ ذلك، وربما عزا هذا الأمر إلى غياب السلطة الواضح- لم يشاهد شرطيا واحدا طوال فترة بقائه في فلسطين- أما السلطان القابع في قصره في اسطنبول فله كل التبجيل والاحترام بشرط أن يعلم ألا سبيل لديه للتدخل في حياة هؤلاء الناس.
رصد “بيكثال” تناحر الطوائف المسيحية في فلسطين لدرجة وصلت للعراك والتشابك بالأيدي داخل الكنائس، وكان للإرساليات التبشيرية الدور الأكبر في هذا التناحر، ويروي أن ما أحدثه رجال الإرساليات من شحناء بين مسيحيي الأرض المقدسة جعل بعض المدن الفلسطينية مدن رعب للأجانب والمبشرين؛ لذلك كان لزاما عليه بعد أن تعلم العربية أن يرتدي الملابس المحلية ليصبح قادرا على التوغل في العمق الفلسطيني بأمان.
وكان مما أثار إعجابه أن المسلمين في فلسطين يعيشون في سلام دون خلافات مذهبية، ولا تناقضات عقدية.. محققين وجها ناصعا للتوحيد دون كبير تكلف.
بعد جولة شملت شرق الأردن وبيروت، قرر “بيكثال” التوجه إلى دمشق، وفي المسجد الأموي صارح أحد كبار علماء دمشق برغبته في اعتناق الإسلام، وأخبره أيضا أن هذا الأمر ربما يقضي على والدته حزنا.. فصرفه الشيخ عن همته في الإعلان حتى يكبر ويعود إلى بلاده، هذا الإعلان الذي تأخر لثلاث وعشرين سنة لم يثنه عن أن يكون مدافعا عن الإسلام حتى كان يوم التاسع والعشرين من نوفمبر عام1917، وفي المحاضرة الختامية لسلسلة محاضرات بعنوان” الإسلام والتقدم” ألقاها أمام الجمعية الأدبية الإسلامية في “نوتينغ هيل” غرب لندن يعلن “بيكثال” إسلامه في القاعة التي اكتظت بالحضور، بعد أن ساق الحجج في بيان أن الإسلام هو الدين الوحيد القابل للتجدد والمواكبة، وملاحقة متغيرات العصر، وكان يستشهد بآي الذكر الحكيم يتلوها بالعربية بصوت جميل.. يقول أحد الحضور”.. شدّ “بيكثال” مستمعيه من البداية حتى النهاية كما لو كان معه سحر.. إن الطريقة التي ختم بها هذا الكلام الرائع ما تزال تتحرّك في داخلي. كانت يداه مقبوضتين إلى صدره، وتعلو وجهه السكينة والرضا وهو يتلو خواتيم سورة البقرة. حينما جلس، شعر كل واحد من المستمعين أنهم عاشوا خلال تلك الساعة القصيرة أروع وقت في حياتهم “.
لست على استعداد لحمل السلاح ضد الأتراك.. هكذا صرح “مارمادوك” عندما حانت اللحظة التي تعيَّن فيها على كل بريطاني أن يعلن ولاءه لبلاده في حربها العالمية، مذكرا بموقفه الشجاع في الرد على أرنولد توينبي- اليافع آنذاك- حين أراد استنهاض المشاعر البريطانية دفاعا عن الأرمن: فتحدث عن نساء الأرمن بطريقة توحي أنهن أرفع شأنا من غيرهن في المشرق، الأمر الذي اعتبره “بيكثال” دعوة للتعصب الطائفي، والاستعلاء البغيض.
ومن المحير في مواقف الرجل أيضا أنه عندما زار مصر للمرة الأولى التقى اللورد كرومر، وأبدى إعجابه الشديد به، كما أظهر تفهما للطابع الاستبدادي في شخصية الرجل، ووصفه بأنه رحيم قويم.. ولم تكن حادثة دنشواي عن هذا الزمن ببعيدة! وربما يزول العجب عندما نعلم أن كثيرا من الشخصيات المصرية كانت تكن احتراما كبيرا وتبجيلا للرجل.. وعلى رأس هذه الشخصيات يأتي زعيم الأمة سعد باشا زغلول!.
اندفع مارمادوك في الدفاع أيضا عن الدولة العثمانية التي كان يرى أنها الحصن الأخير لبلاد المسلمين، وخاصة البلاد العربية، كما ندد بالمذابح التي حدثت في تراقيا الغربية، وأودت بحياة الآلاف من المسلمين.
يضطر محمد إلى السفر إلى الهند لتولي منصب رئيس تحرير صحيفة “بومباي كرونيكل” ويتعرف هناك على الزعيم “غاندي” ويقف مؤازرا له، كما وقف ضد تقسيم الهند، وقيام دولة باكستان، وفي خضم الأحداث المتسارعة تتهمه الجريدة بالتحريض على العنف، ويضطر محمد للاستقالة لينتقل إلى حيدر آباد التي كانت تنعم بالاستقلال تحت حكم أسرة “نظام” بعيدا عن سلطة الهند البريطانية، وعمل هناك ناظرا لمدرسة للبنين، ثم رئيسا لتحرير مجلة الثقافة الإسلامية لمدة عشر سنوات، أتم خلالها أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، ونصحه البعض بالذهاب إلى مصر للحصول على موافقة الأزهر الذي يعتبر أعلى مرجعية إسلامية سنية في العالم.. وفي القاهرة قُوبل الرجل بهجوم شرس من بعض رجال الأزهر، ونشر الشيخ محمد شاكر مقالا في الأهرام قال فيه: “…إن الجحيم سيكون مأوى لكل الذين ساهموا في هذا العمل -إلى الأبد”. واقترح على بيثكال أن يترجم تفسير الطبري، كما نصحه طه حسين بأخذ فتوى من الملك فؤاد الذي يبدو واضحا أنه كان غير مرحب بالأمر؛ بل كان يراه خطيئة! لكن الغلبة في النهاية كانت لـ “مارمادوك” الذي ألقى خطبة أمام جمع من علماء الأزهر بلسان عربي مبين، موضحا أهمية هذه الترجمة للمسلمين غير الناطقين بالعربية في شتى بقاع الأرض، كما بيّن أهميتها في نشر الإسلام والدعوة إليه، كانت الترجمة قد خضعت للعديد من عمليات الفحص من عدة لجان حتى أجيزت، وكان على رأس من دعموا موقفه الشيخ محمد رشيد رضا.
ظهرت هذه الترجمة للمرة الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية عام1930، وأشيد بها في ملحق التايمز الأدبي، ووصفت بأنها إنجاز أدبي بلا نظير، كما تمت ترجمتها إلى البرتغالية والتركية وغيرها من اللغات.
مما يثير العجب أيضا في شخصية الرجل الذي عمل بالصحافة والسياسة والوعظ الديني واعتلى المنابر في الهند وفي انجلترا وأَمَّ الناس في الصلوات- أنه كان أديبا بارعا، وروائيا بارزا قال عنه إي. إم. فورستر إنه “الروائي المعاصر الوحيد الذي يفهم الشرق الأدنى”.
ترك بيكثال عددا من الروايات منها رواية أبناء النيل، ورواية الحريم وبيت الإسلام ومجموعتين قصصيتين.. وفي التاسع عشر من مايو عام1936، وعلى إثر إصابته بانسداد في الشريان التاجي- رحل محمد مارمادوك بيكثال، وكان آخر ما خطه حسب شهادة زوجته قوله تعالى” بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ” (112) البقرة.