ربما لم يدر اطلاقاً بخلد السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب٫ الشهير بلقب صلاح الدين الأيوبي٫ حين وافته المنية عام ٥٨٩ للهجرة (١١٩٣ ميلاديه) إن مدينة القدس التي قاتل من أجلها طويلاً حتى استردها عام ١١٨٧ ميلاديه٫ سيدخلها الفرنجه ثانيه لكن دون قتال يذكر بل وبدعوة من احد افراد اسرة صلاح الدين.
ففي عام ٦٢٤ للهجرة ساءت الأحوال في السلطنة التي خلفها صلاح الدين لأهله من آل أيوب في كل من مصر والشام٫ وخاصة بين كل من الاخوين : المعظم عيسى صاحب دمشق والملك الكامل محمد حاكم مصر وكلاهما من أولاد الملك العادل شقيق صلاح الدين.
حيث بلغ الخلاف بين الأخوين حد استعانه كل منهما بقوة خارجية لمساندته ضد أخيه٫ فاستعان المعظم عيسى بالدولة الخوارزمية ضد أي هجوم محتمل من أخيه على الشام.
أما الكامل٫ فمن مفارقات التاريخ أنه وهو ذاته الذي تصدى للحملة الصليبية الخامسة التي استهدفت مصر٫ قرر أن يستعين بخصوم أسلافه بني أيوب من الفرنجة ضد أخيه وراسل فردريك الثاني إمبراطور الدولة الرومانية الذي كانت تجمعه به علاقة ود وصداقة.
وبلغ الكامل في هذه الاستعانة حد أن يعرض على فردريك أن يسلمه القدس في حال حضوره الى الشام وبطبيعة الحال لبى فردريك هذا النداء وقبل هذا العرض الذي وجد فيه وسيلة لنيل رضا البابا ورفع الحرمان الذي كان قد أصدره ضده سابقاً.
وصل فردريك الثاني الى مدينة عكا الساحليه التي كانت لا تزال في قبضة الفرنجة عام ١٢٢٨ ميلادية وكان المعظم عيسى قد توفي بالفعل قبل وصول هذا الإمبراطور الروماني٫ وبعد سلسلة من المفاوضات٫ اتفق الكامل مع فردريك على أن يتسلم الأخير مدينة القدس بشرط أن تظل أسوارها وتحصيناتها على ما هي عليه من الخراب وان تبقى منطقة الحرم القدسي خارج نطاق سيطرة الفرنجة.
ودخل فردريك القدس دون قتال ونزل وقع الخبر على المسلمين كالصاعقة وعظم البكاء والعويل واتهم الخطباء على المنابر السلطان الكامل بالتهاون وهاجمه العلماء والفقهاء.
ظلت القدس بعد هذه “الصفقة” في يد الفرنج نحو خمسة عشر عاماً٫ الا أنهم لم يهنأوا بها طويلاً٫ اذ سرعان ما برز فارس جديد من بيت كان يشابه الناصر صلاح الدين في صفاته وشخصه هو الصالح نجم الدين أيوب٫ وهو الابن الأكبر للملك الكامل.
وعند وفاة الكامل عام ١٢٣٨ ميلادية٫ خلفه على عرش مصر ابنه العادل ابو بكر وكان لايزال طفلاً صغيراً٫ فسعى الصالح الى عزل السلطان الصغير٫ الا انه لم ينجح في ذلك وقبض عليه عمه الناصر داود وحبسه في الكرك لمدة سبعة أشهر.
إلا أن الناصر داود أطلقه بعد ذلك٫ فتوجه الصالح الى مصر وعزل أخاه الصغير وتسلطن بدلاً منها عام ١٢٤٠ ميلادية٫ وأدرك الصالح ان سبب الصراع بين أبيه وعمه قد انتفى لأن الدولة الخوارزمية التي استعان بها عمه الراحل قد سقطت نتيجة هجوم المغول عليها وتشتت جنودها في أقطار عدة٫ فتقدم بعضهم يعرض خدماته على ملوك الدول المجاورة٫ واستغل الصالح هؤلاء الخوارزمية وأفاد من خدماتهم لجيشه في كل من مصر والشام.
خدمت الظروف رغبة الصالح في استعادة القدس٫ حيث خالف الفرنجه عهدهم السابق مع أبيه الكامل حيث تسلموا كل من طبرية وعسقلان من حكام الشام المناهضين للكامل وانتهكوا حرمة قبة الصخرة في القدس واحتسوا فيها الخمر.
استغل الصالح مشاعر الغضب العارمة لدى المسلمين تجاه هذه الانتهاكات وكتب الى جنود الخوارزميين ليعينوه ضد كل من الفرنجة وحكام الشام المتحالفين معهم.
وبالفعل عبر الخوارزميون نهر الفرات في نحو عشرة آلاف مقاتل حتى وصلوا إلى غزة٫ ثم دارت رحى معركة عنيفة على أرض غزة بين كل من الجيشين المصري والخوارزمي من ناحية والجيشين الشامي والفرنجي من ناحية اخرى وكان النصر فيها حليف الخوارزمية والمصريين الذي تمكنوا من قتل نحو خمسه الاف من الفرنج وأسر حلفائهم من الشاميين.
كانت مدينة القدس أول مدينة استهدفها الخوارزمية، ففر الناصر داود ومعه قواته، وكان مرابطاً على مقربة من المدينة، ودخل الكرك، أما قوات الفرنجة التي كانت ترابط فيها، فأسرعت في الانسحاب منها٫ ودخلتها القوات الخوارزمية٫ لكنهم لم يعفوا عن الفرنجة كما فعل صلاح الدين الأيوبي بل “أعملوا فيهم السيف” هذه المرة وقتلوا منهم اعداداً كبيرة واخذوا النساء والأطفال أسرى.
كان لسيطرة الصالح أيوب على القدس صدى قوي للغاية في أوروبا لا يقل عن صدى سقوطها في يد صلاح الدين من قبل٫ وكانت سبباً في انطلاق دعوات لحملة صليبية جديدة.
المصادر:
هاني حمزه – مصر المملوكيه – دار العين للنشر- القاهرة – ٢٠١١.
جمال الدين الشيال – تاريخ مصر الإسلامية – دار المعارف- القاهرة – ٢٠٠٧.
المرجع في تاريخ مصر في العصور الوسطى- المجلس الأعلى للثقافة في مصر- ٢٠١٣