ثقافة

جبار ياسين: العزلة فتحت أبواب الأسئلة على مصراعيها

 حاوره: عاطف محمد عبد المجيد

ما إن وطأت قدماه أرض فرنسا منذ ما يزيد عن أربعة عقود، وهو يتنقل بين أماكن عدّة، حتى استقر به المقام، منذ العام 1993، في منزل منعزل له حديقة، تقف الغابةُ على بعد 500 متر منه في ريف مدينة “لاروشيل” في الجنوب الغربي الفرنسي.

في ذاك البيت الذي اختار العزلة، قبل ساكنيه يعيش الكاتب العراقي الأصل فرنسي الجنسية “جبار ياسين” الذي سعى هو أيضا لهذه العزلة.

ياسين، رغم كل هذه السنوات، لا يزال محتفظًا بلغته العربية على لسانه وقلمه، وبوطنه العراق في قلبه. نعم يكتب بالفرنسية، ويتحدثها بطلاقة تفوق طلاقة تَحدّثِ أهلها بها، لكنَّه لا يزال ذلك العربي بكل ما تحمله الكلمة من معان. في حواري هذا معه يتحدث عن العزلة، عن كتابة العزلة، عن عزلة الكتابة، وعن أشياء أخرى، أهمها الإنسان كإنسان، ليس أكثر.

حين سألته بداية عن تفاصيل أحد أيام العزلة قال لي: تمطر منذ ثلاثة أيام دون انقطاع. بين حين وآخر عاصفة صغيرة تزيح أوراق الأشجار عن أغصانها.

العزلة صارت مضاعفة حينما اجتمع غضب الطبيعة مع الخوف من الفيروس. الهاتف لا ينقطع. أصدقاء من روما ولندن  والقاهرة وباريس وهامبورغ.

الجميع يبحث عن منفذ  للخروج من العزلة. الحديث ذاته، أسطوانة واحدة كما نقول، موسيقاها الفيروس الذي أصدر حكمه علينا بالإقامة الإجبارية قبل الحكومات. لا شيء مؤكد، لكن كل الاحتمالات ووجهات النظر قابلة للنقاش. أقبّل كل شيء وأخزنه في دماغي لأصدر حكما عقليا عليه. لست طبيبا ولا عالم بيولوجيا لأدلي بدلوي. أسمع وأنتظر وأقرأ على شاشة الهاتف ما يصلني. مؤامرة أم صدفة؟ أمر عابر أم حتمية تاريخية؟ حكومة واحدة للعالم أم تشظي للحكومات القائمة اليوم؟ وكل يوم نقاشات للهروب من ثقل العزلة. روما مهجورة، باريس فارغة، نيويورك نهبا للريح بلا بشر.. لكن القاهرة صاخبة كأن الوباء “مُولِد” تصدح فيه الموسيقى، ويتسابق الراقصون وهم يحتفلون برجل خرج من المستشفى بعد أن تعافى من الكورونا. الأعجوبة أنَّه الوحيد الذي يضع كمامة بين مئات الراقصين؟.

جبار ياسين وعاطف عبد المجيد
جبار ياسين وعاطف عبد المجيد

قطط البيت تتعجب ولا تفهم ما الذي حدث لنا، أنا وزوجتي. لماذا لا نخرج من البيت. ترافقنا ونحن نقلع النباتات الوحشية من الحديقة. تجلس حولنا عند الغداء. دائمًا مستغربة. الدجاجات والديكة على حالها، تسرح بين الأشجار، تلتقط حبة هنا ودودة أرض هناك. لا علاقة لها بحداثتنا الكارثية، وعبوديتنا في العزلة التي لا نعرف كيف ستنتهي. سيتغير العالم بالـتأكيد، بل قد تغير منذ الأيام الأولى للوباء. أصبحنا جميعا مجذومين نخشى الاقتراب من بعضنا. نخشى من أدوات حواسنا، من الفم للأنف والعين. أصبحنا نشك في كل شيء. الغذاء مشكوك فيه قبل تطهيره. أيادينا مشكوك فيها بعد أن أوقفت الكثير من مهماتها. لا مصافحة ولا تقليب صحيفة. حقبة تطهير للبشر والأشياء. لكن ما هو الدرس الذي سنتعلمه لننقله للأجيال القادمة؟

بمناسبة قرب صدور كتابيه “أوراق العزلة” بالفرنسية عن دار نشر “أتيليه دﭼيه” بفرنسا، و”كتاب الصداقات” عن دار نشر بتانة بالقاهرة كان هذا الحوار.

* بداية أود أن تحدثني عن علاقتك بالعزلة اختيارية كانت أم إجبارية.

** ولدت في مدينة، على شاطئ دجلة في بغداد، في بيت هُدم منذ زمن طويل. هناك عشت عشرين عاما. تكويني، تركيبتي الفكرية والنفسية مدنية. أعشق المدن، خصوصًا تلك التي تشبه مدن القرن التاسع عشر، حيث جمالية المعمار وبساطة التنقل والهدوء المقطوع بجلبة الأصوات البشرية وأحيانا صهيل الخيول.

في فرنسا عشت أكثر من عشر سنوات في مدن مثل باريس وبواتيه ولاروشيل. لكني لم أكن على وفاق مع الأشياء حولي. المدن الحديثة بائسة، صاخبة، سطحية رغم تعقد معمارها وسكانها. شيء من البؤس يلوح في وجوه الناس والطبيعة تكاد  تكون مفقودة. الحدائق الكبيرة مُهندَسة بعقل عسكري، هكذا أراها. تمشي في ممرات وممنوع أن تدوس العشب، مثلاً، بينما الكلاب من حقها أن تسرح هناك  وحتى وقت قريب كانت تقضي حاجتها هناك. ذلك هو البؤس بعينه. ثم إني منذ طفولتي كنت مغرمًا بالطبيعة. لم أعش أبدًا في الريف العراقي، لم تكن لنا صداقات أو أقرباء هناك، ولم أزره يومًا. كنت أراه فقط من نافذة السيارة. قضيت حياتي في العراق أحلم بريف ولم تكن هناك غير حديقة بيتنا التي تذكرني به. لذلك منذ طفولتي كنا –أمي وأنا– نعتني بالحديقة. مازالت شجرة الرمان تأتيني في الأحلام.

هكذا بعد أن أنجزت دراستي في مدينة “بواتيه” قررت الانتقال إلى ريفها. هناك وجدت بيتًا معزولاً عن الدنيا يقود إليه طريق لا يكفي لمرور سيارة  إلا بالعسر. اكتشفت مزايا العزلة: الصفاء الأول للإنسان، المرور الهادئ للزمن، موسيقى الأشياء التي نسميها جمادا والعلاقة مع عالم الحيوانات البرية والسماوية وما تحت الأرضية. عالم كامل لا نعرفه في المدن التي تقطع صلتنا بالأصول، بمن يشاركنا الأرض في قدر مشترك. اخترت العزلة لأجد أصولي –ربما– بعد أن انقطعت الجذور العائلية، وبعد أن أعشى بصري غبار الحروب التي عاشها العراق، منذ ذاك الزمن البعيد للآن، حتى أصبحت بغداد ونهرها أشبه بحلم مرت عليه قرون. اليوم أنا سعيد بعزلتي، مع رفيقة حياتي “سلفيان” والأشجار التي تحيط البيت والحيوانات التي  تنام، كتماثيل فرعونية، على مداخل الدار.

جبار وإدجار موران
جبار وإدجار موران

* منذ مطلع العام 2020  وفيرس كورونا هو سيد الموقف.. أدبيًّا كيف يراه “جبار ياسين”؟

** نعم القلق والخوف هما سيدا الموقف، لكن يبدو لي أن البشرية منذ بدء الحضارات عاشت قلقة وخائفة من الحاضر والمستقبل. في كل الأديان والمعتقدات كان هناك يوم دوي منتظر، هو يوم القيامة. البشرية منذ بدء التفكير الأسطوري، قبل ظهور الأديان تنتظر يوما أخيرا لها. التقاويم القديمة كلها –ربما– حددت نهاية العالم، منذ السومريين والفراعنة وشعوب المايا في المكسيك وغواتيمالا حددت النهاية. هذا الهاجس متواتر، كلما انتقلنا من ألفية تاريخية إلى أخرى ومن قرن لآخر. كثير من التقاويم المسيحية حددت العام ألف كيوم لنهاية العالم. عشنا ذلك  في مقدمات الألفية الثانية قبل عشرين عامًا. الأرض أقدم من الإنسان، وبالتأكيد ستعيش أكثر من عيش البشر عليها. قيامات  كثيرة حدثت في العصور الجيولوجية القديمة انقرضت فيها مجموعات كبيرة من الحيوات النباتية والحيوانية وتغيرت خارطة الأرض. لكن كوكب الأرض بقي كجزء من المجموعة الشمسية، وبقي درب التبانة يضيء السماء.

فاجعة وباء الكورونا، علميّا، من صنع البشر، وليس الطبيعة. الفيروسات ليست  نتاج الطبيعة بل هي تعبير عن إهمالنا لمحيطنا، وهي ضارة دائمًا، عكس البكتريا التي هي أصل الحياة. وباء الكورونا  كأنه دليل على استعجال قيامتنا كبشر.

في رواية “الطاعون” يحذر “ألبير كامي”  البشرية من عودة الوباء، ويرهن ذلك بحرصهم على النقاء في الحياة. نحن اليوم ندفع حساب النهم البشري، الفوضى من أجل المال، الاعتقاد أن الروبوت سيجلب لنا السعادة ويواصل عملنا بينما نتمتع بمشهد البحر أكذوبة كبيرة. لابد أن يكون البحر، كالبشر، نظيفًا، نقيًّا لكي نتمتع به ونقضي ساعات سعادة في تأمله. لكن ما الذي حصل خلال عقود من السنوات؟  لوّثنا البحر والأنهار وكل شيء حولنا. العالم تحول إلى مكب للنفايات البشرية. هناك اليوم  قارة، بمساحة فرنسا، في عرض المحيط الأطلسي هي عبارة عن النفايات البلاستيكية  التي خلّفها البشر منذ أن غزى البلاستيك حضارتنا، حتى الأسماك أصبحت غير قابلة للاستهلاك لأن طعامها هو البلاستيك وفضلات المصانع  والمخلفات البشرية. هل رأيت صورة السلحفاة التي يحيطها حزام بلاستيكي منذ صغرها وظل يحيط خصرها، فصار جسدها نصفين ولكنها مازالت تسبح في عرض المحيط؟ إنها صورة بؤس حضارتنا. الكورونا أيضًا صورة لبؤسنا الإنساني. إنّها إشارة أخيرة تخيرنا بين العودة إلى الجذر العميق لحضارة إنسانية مبنية على إخوة مشتركة بين الإنسان والطبيعة، بمجملها أو الفناء بطريقة قاسية وبائسة معا.

* هل من رأيك أن العزلة التي فُرضت على العالم نتيجة لجائحة كورونا قد تُغيّر من خارطة العالم ثقافيًّا وإبداعيًّا وإنسانيًّا خاصة؟

** بل هي غيرت منذ لحظة الإعلان عنها، مثل ثورة تقلب نظامًا. فرضت العزلة على البعض، وهم الأقلية، طريقة جديدة في التفكير، في طرح أسئلة أكثر أهمية. وجودنا كبشر على هذه الأرض مرتبط بإراداتنا أولاً وبطريقة عيشنا ثانيًا. هناك البعض، ممن يعتبر التفكير عقوبة مازالوا على حالهم، ينتظرون العودة إلى حياتهم كما كانت. لكن الجميع تغير قليلاً بسبب الخوف من الموت. منذ اليوم الأول للإعلان عن العزلة  تغيرت عاداتنا. العواطف وضعت جانبًا. لا تحية، لا عِناق، لا اقتراب من الآخر، لا جلسة في مقهى أو مطعم…كل هذه العادات الاجتماعية وُضعت في قفص. الإنسان نفسه، بالتالي، وُضع في قفص. بدون إشارات العواطف نصبح كائنات سجينة. ثم هناك الشك، الشك في الطعام الذي نشتريه من السوق، يحتاج مُطهرًا مثل أيدينا التي تمس أبسط الأشياء، من مقبض الباب حتى زر المصعد وزر ماكينة النقود في المصارف. كل شيء مشكوك فيه وقد يبعث رائحة الموت. إنَّه الهلع. الكمامة تحمينا من الفيروس مثلما ملابسنا تحمينا من البرد أو الحر. على الصعيد الثقافي، توقف كل شيء: لا مسرح، لا سينما، لا لقاءات أدبية، لا مكتبات، لا مهرجانات ثقافية. كل الفيتامينات الثقافية توقف استعمالها. دون شك، وكحساب صحي فإن مغذيات العقل والفعل الاجتماعي العاطفي لا تعمل  بانتظار عودتها لكي تعود الحياة طبيعية. نقص مناعة ثقافية، صدمة ثقافية مؤلمة. لكن الكتّاب لم يتوقفوا عن الكتابة، فهذا عملهم وطريقة عيشهم ومصدر توازنهم. أكاد أجزم أن أعمالا كثيرة سترى النور قريبا  بفضل  جائحة كورونا. لكني لا أعتقد أن قصة حب ستولد في زمن الكورونا مثلما ولدت قصة رائعة في زمن الكوليرا؟

جبار وماركيز
جبار وماركيز

* مع بداية انتشار كورونا راحت بعض الشعوب تشتري كتبًا لتقرأها وقت الحظر، فيما راحت شعوب أخرى لتشتري ورق تواليت.. ما الذي جعل هذا الفرق بين هؤلاء وأولئك؟

** “يضحك”. كلٌّ يبحث عما ينقصه. كل إنسان يُطهّر نفسه بطريقته.

* رأى كثيرون أن العام 2020 هو عام سيئ على كل المستويات.. هل هذه رؤيتك عنه؟ أم ترى شيئًا آخر؟

** هذه خرافة إعلامية  كرّسها الإعلام الأوربي، وضخمّتها وسائل التواصل الاجتماعي بسبب  الملل في الحياة، الملل في الاقتصاد والصحة وشركات الأدوية والملل الاجتماعي في مجتمعات الوفرة الحديثة، الغنية خصوصًا. هل هذا أسوأ من عام 1941، مثلا الذي سقط فيه ملايين القتلى بين ستالينغراد والمحيط الهادئ؟  هل هو أسوأ من عام 1920  حيث أحصت البشرية ضحايا الإنفلونزا الأسيوية بـ 500 مليون؟  إنَّه ليس أسوأ من عام 1967،  حيث  قُتل الآلاف من مواطنينا في مصر وسوريا والأردن وفلسطين، وهُزم الوعي العربي، كلا. العراق عاش  قبل أعوام  قليلة حربا أهلية، خليط من طائفية وسياسة، في كل يوم فيه كانت تقتل الانفجارات المئات من البشر، وقبلها الجزائر واليوم ليبيا واليمن وسوريا. كلما أسرعت عجلة الحداثة زاد الرعب. جائحة كورونا ستمضي حتمًا، المهم هل سنستفيد من درسها لتقليل الأضرار في المجتمعات التي لا تعيش انقلابات تاريخية عنيفة؟ أم لا.

* دعني أسألك عن حصيلتك الإبداعية بالفرنسية وبالعربية في أعوام كورونا؟

** كان أجدادنا في الماضي وفي الأرياف البعيدة يسمّون السنوات هكذا: عام الجراد، عام الفيضان، عام القحط. كأن التاريخ يعود على أعقابه مثلما اختفت الكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي وحلت محلها الكتابة الصُّوَرية التي ما زلت لا أفهمها! ابتسامة، ضحكة، حزن، قلب أحمر وآخر ينبض.. هذا محزن.

الحقيقة لم يتغير شيء. أكتب كل يوم، أواصل ما بدأته قبل عام أو عامين. ربما كتاب “أوراق العزلة” هو حصيلة ثلاثة أشهر ما بين مارس ونهاية مايو، هو آخر شيء كتبته.

* هل تفرض على نفسك نوعًا من العزلة حين تكتب؟ أم أنت كائن ضدها؟

** لا أفرض شيئًا على إرادتي. أنا في عزلة دائمة، حينما لا أكون مسافرا. السفر، خصوصًا إلى مكان بعيد، يغنيني كثيرا، بعدها لا أحتاج إلى “اجتماعية يومية”. تكفيني الحديقة الكبيرة وكائناتها التي، بعد ساعة من الكتابة، أتجول فيها، لأكتشف الجانب الآخر من وجودي، انتمائي لها  كبذرة وثمرة معا. المعجزات التي يخلقها الورد حين تدخل في عجائبيته. يكفي أن ترى فراشة، عبرت البحر قادمة من مصر أو المغرب، لتعيد النظر وتصحح أحيانًا ما كتبت. كل شيء في الطبيعة بذرة لسؤال. صحيح أن الكتابة بحاجة إلى شيء من العزلة، شيء من الهدوء، لكن النص الذي تكتبه يقودك، بحد ذاته، إلى عزلة من نوع ما. أنا أكتب خصوصًا في الصباح  حتى منتصف النهار،  لكن ذلك لا يمنعني من استقبال صديق وتناول الغداء معه. الكتابة ليست ضد الحياة. لا وجود تقريبًا للكاتب في برجه العاجي، إنَّها أسطورة أصبحت قديمة، وفيها شيء من استعلاء الكتّاب النبلاء في القرن الثامن عشر. هناك عجوز تسعيني يزورني نهاية الضحى كل يوم. أشرب قهوتي معه وأحيانًا أدعوه للغداء معي إن لم يكن أمر الكتابة مستعجلاً. الكتابة حياة وكل كاتب يعيشها بطريقته. أخبرني “جابرييل ماركيز” أنه يكتب حتى الحادية عشرة صباحًا ثم بعدها ينصرف للموسيقى ووروده الصفراء، وفي المساء يخرج يتنزه على البحر مع صديق، باستثناء العام الذي كتب فيه “مائة عام من العزلة” حيث كان يكتب في الصباح حتى وقت متأخر من الليل. صديقي “إدغار موران” الذي سيبلغ المائة عام يوم 8 يوليو، أي بعد أيام، يكتب كثيرًا بعد العشاء  في مكتب صغير جدًّا. عشاء خفيف بالطبع، وغالبًا نباتي مع كأس نبيذ.

* لا أظنك قد فوّتّ أوقات العزلة دون كتابة، تُرى ماذا أنتجت في هذه العزلة؟

** بالتأكيد. رغم أن العزلة لم تغير شيئًا من حياتي؛  لكنها فتحت أبواب الأسئلة على مصراعيها. أي حضارة نعيش؟ لماذا لا نتعب من الحروب؟ لماذا الإفراط في كل شيء؟ أين مكان الآخر في الركض وراء الثراء والمتع السهلة والاستهلاك الفاحش، التوحش الذي أصاب البشرية، أين هو الحب الذي يحلم به الجميع وما شكله القادم؟ هذه الأسئلة كنت أدّونها كل يوم خلال شهرين ونصف من أيام العزلة الرسمية، الإقامة الجبرية في البيوت التي جعلت بعض ذوي الأمزجة اللطيفة يحورون الأغاني لكي تتماشى مع إجراءات العزلة. النتيجة كتاب جاهز للنشر بالفرنسية قريبًا. كتاب أسئلة بالدرجة الأولى عن وضعنا البشري.

* مؤخرًا صدر لك عن دار بتانة بالقاهرة كتابك الأحدث الذي أسميته “كتاب الصداقات” حدثني عن هذا الكتاب دون أن تنسى ما الذي دفعك لأن تنشر كتابًا عن أصدقائك وآخرين؟

** نعيش دائمًا برفقة أصدقاء، إنهم مرايانا التي بدونها يكون وجودنا ناقصًا. الصداقة استمرار للطفولة. الطفل يبحث دائمًا عن صديق، ولو لدقائق كي يلعب معه. فيما بعد تكون الصداقة ضرورية للعبة الحياة. من غير صديق الحياة مملة. شخصيًّا، لا أعرف الملل، فلديّ ما يكفي لكي أنشغل في الحياة، لكني أشعر بالملل ممزوجًا بالحنين، حينما أنقطع عن أصدقائي أو ينقطعون عني. بالنسبة لي الصداقة شيء مقدس، فالصداقة حافظة أسرارنا حتى وان أفشت الأسرار يومًا.                      في هذا الكتاب صور أشبه بـ “بورتريه” لأصدقاء كُثر أحببتهم في حياتي، جمعتني بهم الصدف واكتملت الضرورات بالصداقة العميقة. ناس أحببتهم. اعترافًا مني بالجميل لهم كتبت هذا الكتاب. هو كتاب غير مُنجَز ولن يُنجز في حياتي، لأني في كل يوم قادم أتوقع صداقة جديدة. من يدري؟ لعله الجزء الأول من كتاب أطول. فكثير من أصدقائي لم تمنحني الموهبة ولا الوقت أيضا الكتابة عنهم، خصوصا أصدقاء الطفولة والمراهقة وأيام النضال السياسي في العراق. مات الكثير من هؤلاء في حروب وسجون ومنافي وبقيت في ذكراهم ثملا بالحنين.

جبار وساراماجو
جبار وساراماجو

* من قصيدة لك تقول فيها: “وقف الهدهد يوما على بابي / لم يقل شيئا / ظل ينظر لي حزينا / ثم طار”، ومن أحاديثنا المتكررة معا عرفت مدى حبك لكل ما في الطبيعة: إنسانا كان أم نباتا أم حيوانا، ما الذي أضافه هذا الحب لكتابتك الإبداعية؟

** تعرف أن لكل إنسان إيمانه الذي هو مكمل لحريته. منذ طفولتي كنت ولِهًا بالطيور. ولهٌ غريب، ككل طفل حينما يصيبه الوله. ربيت طيورًا كثيرة. دجاجًا، بطًّا، إوزًا، حمامًا. بعد ذلك أصابني ولهٌ القطط، ومازال. تعيش معي اليوم أربع قطط. يومًا كان في البيت أكثر من عشر قطط. رحلوا ويمكثون في الحديقة في مقبرة لهم تحيطها زهور طوال السنة. كذلك صرت “جناينيًّا” منذ الرابعة من عمري. كانت عندي حديقة مساحتها أقل من متر فيها فقط بصل وجزر، وتحيطها أغصان صغيرة لشجرة العرعر. بعد ذلك أخذني وجد الحديقة في صباي وكنت أحلم أن أصير فلاحا، كما في الأفلام الأمريكية في تلك السنوات. أبقار وخيل وكلب وبيت وسط حقل كبير. هكذا حينما بدأت حديقتي  قبل ثلاثين عامًا ونيف كأني بذلك حققت بعضًا من أحلامي. عناصر الطبيعة الثلاث التي ذكرتها هي محور الحياة المشتركة وعِلة كوكبنا معًا. في سنوات تجربة وتفكير أضافت لي هذه العناصر الكثير وفهمت خطوة، من بين ألف خطوة، لمغزى الوجود. الغرائب والعجائب، الأعالي والدُّنى، الرأفة والقسوة، في الوجود  لكل الكائنات الحية. لا شك أن كل هذا يجعلك أكثر توازنًا وأكثر إبداعا مع نفسك أولًا ومع الآخرين. الحب هو البوصلة. دونها نغرق في عاصفة الحياة الأبدية. لديّ كتاب شعر عنوانه “وصية الفراشة” آمل أن يصدر قريبًا، فيه هذا الخيط الذي يجمع البشر بعالميْ النبات والحيوان. نحن سواسية في النهاية. نولد ونموت في قدر إنساني مشترك.

* رغم أنك تقيم خارج الوطن العربي منذ ما يزيد عن أربعة عقود، إلا أنه لا يزال حاضرا وبقوة في لغتك وفي كتاباتك.. كيف لم تؤثر فيك الغربة وتجعلك تنسلخ من ماضيك فيه؟

** الأمر في غاية التعقيد. أنا ما زلت الطفل الذي يركض في الغبار في قيظ ظهيرة بغدادية، لكني أيضا تغيرت. لا يستطيع الإنسان الفكاك من الماضي هكذا بسهولة. ثم لماذا النسيان والذاكرة هي تمرين في النسيان؟ كما يقول الفيلسوف الألماني “مارتن هيدجر”  الجوهري يبقى ثم إنَّ كثيرًا من قيم الشرق وتمارينه الأخلاقية الأصيلة هي في قمة القيم. أتحدث عن القيم الجوهرية التي يعتبرها البعض تقليدية. الصداقة، الإخوّة، الضيافة، الجيرة… الخ. إنَّها قيم رائعة أقتدي بها. للغرب أيضا قيم رائعة مازالت تقاوم  الحداثة الوحشية. خذ مثلا، كيف لي الاستغناء عن الشعر العربي؟ إنه من أجمل وأعمق الشعر في  آداب العالم، لو قرأناه بعمق وإصغاء. الأساطير كذلك، الدينية والوثنية. ثم على صعيد شخصي، الماضي الذي عشته كان جميلًا، طفولة جميلة.. قدماي في ماء دجلة وأمامي النخيل. صحيح أني تعرضت لقسوة السلطات  حينذاك، وإهمالها اليوم، لكن دخولي لعالم السياسة في وقت مبكر، وفي بلد تحكمه القسوة كالعراق، كان  بإرادتي لتحقيق حريتي حتى عبر الموت. ما زلت مؤمنا، وبشدة بقيم العدالة الاجتماعية وحرية الفرد. ربما بتطور الوعي وتجربتي الأوربية، فإن تعريفي للقيم الجوهرية صار أوسع واتخذ مسارا فلسفيًّا، هو مساري في الحياة.

* ذات مرة قلت لي:” أنا مجنون والحكمة تؤخذ من عقول المجانين “..وهنا أسألك: هل يرتبط الجنون بالحكمة أم بالإبداع أكثر؟

** الجنون، بالنسبة لي  هو عين الحكمة والشجاعة. حين نمضي بالأسئلة إلى أبعد من مداركنا المحدودة، كبشر فإننا نقترب من ضفاف الجنون. هناك خط أحمر في التفكير لا تجيب عليه غير الميتافيزك، أي ما فوق الطبيعة، الجانب الروحاني الخفي في الوجود. لكني أسألك، هل كان “سقراط” مجنونًا حينما فضّل الموت على خيانة أفكاره؟. “فردريك نيتشه” الذي عصف بفلسفة القرن العشرين، ومازالت رياح فلسفته تهب صار مجنونًا؛  لأنه وصل الخط الأحمر. قبله “هولدرلين” الشاعر الرومانتيكي الألماني الخالد.. الهنغاري “جوزيف اتيلا”.. “ماياكوفسكي” في انتحاره. أسماء كثيرة في “بانتيون” الأدب. الأدباء والفلاسفة مجانين بالضرورة؛ لأنهم لم يختاروا أن يعيشوا  كموظفين في  مكاتب الدولة أو شركات التأمين على الحياة؟ الأدب مهنة صعبة تقود صاحبها أحيانا إلى الجنون أو في أقل الأحوال  فقيرًا  وهامشيًّا في مجتمعات تكون الثروة فيها مقياسًا للنجاح.. هراء.

جبار ياسين - كتاب الصداقات

*  حدثني عن حنينك للمدن البعيدة، تلك التي لمْ ترها منذ زمن بعيد.

المدن التي لم نرها هي المدن الفاضلة حتى اليوم الذي تطأ أقدامنا أرضها. إنها مدن الخيال، اليوتوبيا. أتاحت لي حياتي الأدبية اكتشاف مدن كثيرة في أربع قارات. لي في هذه المدن أصدقاء  يغمرني الحنين إليهم. مدن بعيدة مثل مكسيكو وبومباي وكارتخينا في كولومبيا وهافانا أشتاق إليها. مدن عشت في واحدة منها أياما استثنائية وأخرى عشت فيها شهورًا والثالثة قضيت فيها أجمل الأيام مع الصديق الراحل الكولومبي “ماركيز”. هافانا التي كنت أستحم بمطرها الطوفاني في عز الصيف، حيث صداقات تولد في الأمسيات المدارية على إيقاع الأغاني الزنجية. لم أرَ مكسيكو منذ عشر سنوات لكني على تواصل مع أصدقائي هناك. ما زلت أنشر في مجلاتها. قبل أيام شاركت في كتاب مشترك مع كتاّب مكسيكيين سيصدر قريبا وستكون فرصة للعودة كما علمت. المدن تخلق الحنين، وأنا رغم سكني في الريف ما زلت ابنا لحنين المدن.

* من أقوالك التي لا أنساها قولك: “الإنسان الذي لا يناضل من أجل أخيه الإنسان لا يستحق الحياة، بل يساوي صفرًا” ..هل لك أن تحدثني أكثر بهذا الخصوص؟

** الأنانية مرض خبيث، سرطان قاتل لصاحبه وأصدقائه. نحن، أكثر من أي يوم مضى، أبناء قدرنا المشترك. جوع أفريقيا ينغص حياة أوربا. حرب العراق تخلق أمراضا للأمريكيين الذين شاركوا فيها، تفتك بالمجتمع الأمريكي. مشكلة فلسطين تنخر في وعي حقوق الإنسان وتجعل هذه الحقوق بلا معنى وهكذا. الإنسان حيوان اجتماعي كما تقول فلسفة الأنوار. الاجتماعي يعني الشراكة  ضد الأنانية. في قطيع الذئاب، الفرد الذي يتصرف بأنانية، كأنْ يسرق من لحم الفريسة، يُطرد من القطيع. لا يمكن العيش بطمأنينة حينما يكون الآخر بلا أمان. لكي تعطي لإنسانيتك معنًى فلا بد أن تعطي، أن تناضل من أجل الآخر. ذلك هو المعنى العميق للتاريخ البشري سواء تعلّق الأمر بالعلوم أو بالأدب. الإنسان المشغول بمتع بطنه جيفة يستحق المزبلة. الحضارة هي خلق القدر المشترك  للأمة البشرية.

* برأيك هل فعلًا يصل الحب متأخرًا للبعض؟ وما أسباب تأخره؟

** يصل متأخرًا خير من ألا يصل أبدًا. في رواية “الغثيان” لجان بول سارتر يصف بطل الرواية “روكانتان”  لوحة في متحف مدينة دوفيل، حيث تدور الأحداث، عنوانها “موت العازب” اللوحة تمثل رجلا ميتا على سرير، وعيناه تحدقان في الفراغ.  دون الحب.. الحياة فراغ ممل لا جدوى منه. ليس هناك من عذر في أن يتأخر الحب. ذلك يعني أن هناك نقصا وُلد مع الكائن الذي لا يحب، كمن وُلد دون ذراع. شخصيًّا أعتقد أن الحياة منذ الولادة مشروع حب قادم. أنا أحب كل يوم، كلما صادفت امرأة جميلة أحببتها، في المقهى، في القطار، في الطائرة، في استدارة طريق، حب يدوم أحيانًا ساعة أحيانا سنوات. ما زلت مُغرما بفتاة أمريكية، كانت رسامة واسمها “شلي”، التقيتها في مطار شارل ديغول في صيف 1996، تأخرت الطائرة ودخلنا في حديث ثم غادرت هي إلى فينيسيا وأنا إلى جنوة. أعطتني هاتفها وقبّلتني وطلبت أن أحدثها هاتفيًّا، بعد أسبوعين، حيث ستعود لباريس. في الطائرة فقدت الورقة المكتوب عليها رقم الهاتف. لم أرها بعد ذلك. كلما تذكرت ذلك أشعر بالحزن. أحيانًا أبحث عنها في مطار شارل ديغول  منتظرًا معجزة. لعلها تفعل نفس الشيء! من يدري؟ حب مفقود ربما للأبد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock