تعتبر ثنائية التراث والحداثة من الثنائيات الفكرية التي حظيت باهتمام واسع في الأوساط الفكرية العربية الإسلامية في مرحلة ما بعد الهزيمة العربية الكبيرة. وتجد هذه الثنائية مبررات ومسوغات طرحها في سؤالين اثنين هما: سؤال العلاقة مع الآخر وهو الغرب، وسؤال فهم الذات في هويتها المتعددة المكونات وخصوصيتها التاريخية، وهي ثنائية ارتبطت كذلك بسؤال ممتد في صيرورة الزمن العربي الحديث وهو سؤال النهضة العربية بامتداداته الفرعية مثل سؤال من نحن؟ ومن أين نبدأ؟ وما الإصلاح؟ ومما لاشك فيه أن من أشهر الكتب والمؤلفات التي خاضت غمار البحث في ماهية هذه الثنائية هو كتاب المفكر المغربي محمد عابد الجابري (التراث والحداثة).
وتعتبر إشكالية التراث والحداثة من أهم الإشكاليات الفكرية المؤرقة التي فرضت نفسها على النخبة في العالم العربي والإسلامي بعد الاحتكاك المباشر بين الحضارتين الإسلامية والعربية، وهما حضارتان متباينتان على طول الخط، فالحضارة الإسلامية تقوم على العلاقة الجدلية بين الإنسان المسلم من جهة، والنص من جهة أخرى.
أما الحضارة الغربية فتقوم على الحوار القائم بين الإنسان والطبيعة. وفي هذا السياق نشير إلى أن تعريف التراث وتحديد المنهج الذي ينبغي توظيفه في دراسة العقل المنتج لهذا التراث من جهة، والحداثة بإشكالياتها وما يعتريها من غموض ولبس من جهة أخرى تمثل معادلة معقدة وصعبة تجعل من حل الثنائية أمرا ليس بالهين وتتطلب بذل مجهودات فكرية من أجل تسليط الضوء على السبيل المؤدي للفهم العميق والموضوعي لهذه الإشكالية.
أما الرؤية الأحادية الجانب لمكونات هذه الثنائية التي ينظر إليها البعض على أنها زائفة، فقد قادت لرفض التراث جملة واحدة وبلا أي انتقائية. والرؤية نفسها آلت بالبعض إلى فهم التراث فهما تراثيا أو قراءاته قراءة ماضوية لا تستجيب للمتغيرات وتحديات العصر وما يتولد عنه من مشاكل وعقبات.
أولا: عقبات في سبيل حل الإشكالية : لعل من أهم التحديات والعقبات التي تواجهنا في حل إشكالية التراث والحداثة، هو مفهوم التراث وما يحمله من مدلول، هل التراث يُختزل فقط في الكتاب والسنة؟ أم ذلك الرصيد المعرفي المنتمي للفكر الإسلامي حتى لو كان فلسفيا أو تاريخيا؟ ومن الواجب لفت الانتباه إلى حقيقة مهمة وهي أن مفهوم التراث لم يستعمل فيما مضى للدلالة على ما خلّفه السلف من علوم، ولم يكن يتضمن بين ثناياه الإشارة لذلك الرصيد الثقافي بالمعنى الأنثروبيولوجي الواسع للثقافة، بل كان يوظف بمعناه اللغوي الذي يشير إلى ما يخلفه السلف من تركة. ومنهم من يرى أن التراث هو الرصيد الذي يشكل هوية الأمة ويؤكد وجودها ويعزز جذورها الحضارية والإنسانية. وهذا التعريف فضفاض وغير دقيق ولا يساعدنا على حل إشكالية التراث والحداثة، إنه تعريف عاطفي أكثر منه علمي. أيضا التعريفات التي قدمها الحداثيون للتراث كلها تحيلنا إلى التناول غير الممنهج والنظرة غير الموحدة التي تمثل السمة البارزة للباحثين الحداثيين، مثل: محمد أركون الذي يعني بالتراث القران الكريم والسنة النبوية، وحسن حنفي الذي يرى أن التراث نشأ من مركز واحد هو القرآن والسنة. أما الجابري فيرفض القراءة السلفية للتراث ويدعو إلى قراءة جديدة تأخذ في الاعتبار العصر ومتغيراته.
ومن هنا نرى أن أهم تحديات حل مشكلة أو إشكالية التراث والحداثة هي النظرة الأحادية الجانب التي تهمل التراث بل أحيانا تسخر منه ولا تعده شيئا مهما بل من مخلفات الماضي التي يجب وضعها في المتحف. لذا لابد من رؤية الطرفين والجانبين بموضوعية وبدون تحيز. لا نهمل طرف على حساب آخر، لا ننظر إلى طرف ونغض البصر عن الطرف الآخر بل يجب أن يكون هناك رؤية موضوعية متكاملة للتراث والحداثة.
ثانيا جدلية العلاقة بين التراث والحداثة : إذا أردنا نظرة موضوعية لحل إشكالية التراث والحداثة يجب أن نعرف قيمة الاثنين، وأنهما جناحان أو وجهان لعملة واحدة، لا يستغني أحدهما عن الآخر في تحقيق نهضة الأمم؛ فالتراث يساهم في اكتشاف الماضي، والتطلع إلى إيجابياته وسلبياته؛ لكي لا يعيد الإنسان تاريخه بشكل تقليدي. والتراث يساعد أيضا في استشراف المستقبل انطلاقا من قاعدة صلبة تجد جذورها فيه، وتستطيع التفاعل مع مستجدات العصر وتداعياته الإيجابية والسلبية.
أما الحداثة فهي الجديد أو العصري أو ما استحدثه الإنسان من أشياء مادية أخرى فكرية. وهي بذلك المقابل أو القطب المقابل للتراث، على اعتبار أنهما قطبان متقابلان. ومن هنا قد يبدو للوهلة الأولى تنافر وتناقض العلاقة بين التراث والحداثة وأنهما متناقضان، ولا يجتمعان معا، بل قد تصل الأمور إلى حد القطيعة بينهما. لكن بنظرة فاحصة وتأملية وشاملة متجردة عن الهوى الميل، نجد أن العلاقة بين التراث والحداثة علاقة تكاملية ومتوافقة ومنسجمة. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة إلى أي حد يمكن للمجتمع العربي الاستفادة من التراث في مواجهة قضايا العصر؟ وكيف يمكنه مسايرة التقدم العلمي في مختلف المجالات دون الإضرار بالتراث؟ الإجابة بنظرة موضوعية أن العالم العربي يقف حائرا بين الآخذ بالحداثة والتراث، لأن التراث من قيم وأعراف ولغة ودين وغيرها لم يتدخل الإنسان العربي المعاصر في بنائه ولما يستشيره أحد في اختياره، من هنا يفرض التراث نفسه دون اختيار من قبل أفراد لا يعاصروننا؛ ليعبِّروا من خلاله عن قيم عصرهم.
بالمثل لم يستشعر الإنسان العربي المعاصر في الحداثة وتوجهاتها العامة بل هي مفروضة عليه من قبل آخرين، فالحداثة قطار لا يأخذ رأي أحد في الانطلاق والاستمرار ويفرض على الأفراد ركوبه سواء كانوا مؤهلين أو عاجزين. من هنا وبناء على ذلك الوضع وللخروج من تلك الإشكالية وهذا المأزق ينبغي علينا أن تكون أحكامنا مستندة إلى آلية نقدية وليس انفعال وجداني، وهذا يتطلب جهدا كبيرا في قراءة التراث، وتتطلب القراءة العقلانية للتراث موسوعة إدراكية يستطيع القارئ من خلالها التعرف على التراث ونقده وكشفه، وأخذ ما يتفق مع مقتضيات العصر وظروفه، بمعنى أن يكون هناك توفيق بين الجانبين التراث والحداثة.. نقرأ التراث بلغة العصر ومستجداته، وننظر للحداثة في ضوء ما يتفق مع ظروفنا. ومن هنا سيحيا الوعي بالتراث وبأسباب الحداثة عبر المنهج العقلي النقدي، وسيتمكن المجتمع من الحفاظ على هويته المستمدة من تراثه أولا، ومن ثقافة عصره ثانيا. نحن بحاجة كبيرة إلى وعي كاف بالتراث وأسباب الحداثة؛ يؤهلنا إلى عدم نكران ماضينا والسير نحو الفعل في حاضرنا ومستقبلنا ولا يتأتى هذا إلا بالنقد العقلاني والنقد الذاتي. لذا يجب الأخذ بالاثنين التراث والحداثة فهما وجهان لعملة واحدة هي النهوض بالمجتمعات والتطور الحضاري، فلا غنى لإحداهما على الآخر في إطار النظرة الموضوعية التكاملية التي ترى أن لكل من التراث والحداثة دور يقوم به.