أسر لي جاري الطيب الذي آنس دوما بحديثه واستحضاره لذكرياته التي لا تنفصل إطلاقا عن تاريخ الوطن أنه كان أحد جنود الوطن الذين شاركوا في صناعة نصر أكتوبر عام ١٩٧٣.
كان جاري -وفقا لشهادته- جنديا في إحدى كتائب الدفاع الجوي في منطقة على ساحل البحر الأحمر غرب القناة وكانت كتيبته متمركزة في قاعدة جوية في تلك المنطقة.
وفي تمام الظهيرة من يوم السادس من أكتوبر المجيد، انطلق طيارو مصر لتوجيه ضربة للعدو تمهد الطريق لجنود المشاة لعبور القناة.
وإدراكا من جاري ورفاقه لأهمية هذا العمل البطولي للطيارين فقد انتظموا في صفوف في طريق هؤلاء الأبطال إلى طائراتهم وكانوا يودعونهم بالتصفيق الحاد، وهو ما كان له أثر بالغ على معنويات الطيارين.
وفي صبيحة اليوم التالي، السابع من أكتوبر، أغارت الطائرات الصهيونية على تلك القاعدة الجوية. ويذكر جاري أن أحد ضباط الصف أخذ حينها يهرول في أنحاء القاعدة، وهو يصيح بصوت سمعه الجميع: “إياكم وتكرار غلطة عام ١٩٦٧”. في إشارة إلى ضرورة وضع الطائرات داخل دشم محصنة ومجهزة؛ كي لا يتمكن العدو من تدميرها على الأرض.. وهو ما تنبه له جند مصر بالفعل، وأحسنوا تحصين الدشم وحماية الطائرات بداخلها، إلا أن القصف أصاب جانبا من القاعدة وانهال التراب على جاري ورفاقه.
وكالعادة لم يفرق قصف العدو بين مصري مسلم وآخر قبطي، فانهال التراب على كل من الجندي محمد علي الملقب بالإمام لتدينه الشديد وإمامته للجنود في صلاتهم والذي نال شرف الشهادة في ذلك اليوم وعلى الجندي أخنوخ الذي هرع جاري لنجدته حين رأى يده تلوّح من تحت كومة هائلة من التراب.
وانطلق بعدها جنود الدفاع الجوي للتصدي لطائرات العدو المغيرة وتمكنوا بالفعل من إسقاط طائرة من طراز فانتوم وكلف قائد الكتيبة جاري بالبحث عن حطام الطائرة وأسر طيارها إن وجده حيا.
توجه الجندي الشاب إلى الموقع الذي سقطت فيه الطائرة وبالفعل وجد الطيار الصهيوني لا يزال حيا، ووجد أن مجموعة من عُربان الصحراء قد التفوا حوله وأرادوا الفتك به، إلا أن الجندي المصري الشجاع أبى إلا أن يحمي أسيره؛ فأحاط جسده بذراعيه، ولاحظ أن الجندي الصهيوني الذي نسجت حوله الأساطير الدعائية طيلة فترة الحرب يبكي هلعا وخوفا كطفل صغير؛ إلا أن أحدا لم يمسه بسوء، كما كان يخشى بل تم تسليمه حيا.. وتمت مراعاة كافة حقوقه كأسير بما تكفله الأديان والمواثيق الدولية.
وفي مشهد يؤكد على اللحمة بين كافة المصريين أيا كانت المنطقة التي ينتمون إليها؛ فإن أفراد الكتيبة لم يجدوا أي صعوبة في الحصول على طعام الإفطار في شهر رمضان الفضيل الذي كانت تجري فيه المعارك، حيث أن مجموعة من البدو القريبين من الموقع أحضروا للجنود خروفين وأصروا على ذبحهما وإطعام كافة أفراد الكتيبة لحما طيب المذاق.
وظلت هذه اللُحمة قائمة حتى عقب انتهاء القتال على الجبهة وسريان وقف إطلاق النار، ففي الذكرى الأولى للنصر، وتحديدا في أكتوبر من عام ١٩٧٤، توجه جاري مع بقية رفاقه في الكتيبة لزيارة شهداء الكتيبة الذين دفنوا في جبل قريب ولاحظوا حضور سيدة مصرية على دابتها، وتحدثت إلى الجنود بلكنة أهل صعيد مصر.
سرعان ما أدرك الجنود أن هذه السيدة التي تتجسد فيها أصالة وصمود شعب مصر، هي والدة زميلهم الشهيد محمد علي الملقب بالإمام وفي محاولة للتخفيف عنها أكد لها الجنود أنهم أتوا جميعا لزيارة ولدها الشهيد، وهنا تحولت دموع الأم إلى ابتسامة والتفتت الى الجبل قائلة: “ولدي ليس وحده في هذا الجبل”.
ورغم مرور ما يقرب من نصف قرن كامل على نصر اكتوبر، إلا أن هذه المشاهد وغيرها لا تزال عالقة في ذاكرة المقاتل العتيد.