فجأة توقفت طويلا أمام الاسم الكامل للشاعر العبقري أمل دنقل: محمد أمل فهيم أبو القاسم محارب دنقل! تساءلت: هل ثمة علاقة بين اسمه وبين نهاياته (الغرفة رقم 8 بمعهد الأورام)، عندما عجز السرطان أن يكسر عود الحطب الناشف بداخله، فلم يتوقف عن كتابة الشعر حتى وهو في لحظة “إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر”.. ما حمل عبد المعطي حجازي على أن يقول عنه “إنه صراع بين متكافئين، الموت والشعر”؟!
كان غريبا أن يطلق عليه أبوه هذا الاسم “أمل” الذي لم يكن شائعا بين الذكور في الصعيد ولا في مصر كلها.. بعض الروايات تقول إن أباه سماه بذلك تيمنا به إذ ولد في ذات السنة التي حصل عليها أبوه ـ الشاعر والعالم والفقيه الأزهري ـ على إجازة العالمية.
ربما!! ولكن بقية الاسم كان شيئا مذهلا، وكأنه كان يسجل ـ بظهر الغيب ـ السيرة النضالية لهذا الشاعر العربي الصلب أبو القاسم، محارب، دنقل!.
حتى اللقب “دنقل” يفسره بعض المؤرخين بأنها كلمة تعني “معارضة القهر”.. رفض دفع الجزية !.. وفي تفسير آخر تعني “قلب النخل” برمزيته المتعالية عن كل ما هو “منحط” و”واطي”.
ما هذا التطابق الغريب بين اسم أمل دنقل وسيرته الإبداعية كشاعر الثورة على الظلم والفقر والجهل.. رافع راية التنوير في أنقى وأعزب وأرق طبعاتها الشعبوية وأكثرها ألما وحزنا؟.
أمل دنقل “وردة” خرجت من جرح.. أو نخلة نبتت في أرض ملح، الحواضن التي رضع من ثدييها خبرات الحياة، صنعت منه عبقرية شعرية فريدة، تفوق بها على أقرانه وأصدقائه من شعراء الجنوب حتى على من استقل معهم قطار الصعيد حاملا “خلجاته” في سحارة متحديا “القاهرة ـ النداهة” بكل ثقلها الذي عادة ما تسحق تحتها “المهاجر الجنوبي” وبلا رحمة .
هذه الحواضن (مكتبة والده الفقيه والشاعر المكتظة بكتب الفقه واللغة والشعر العربي) ثم عمله كموظف في المحكمة والجمارك وتنقله بين قنا والإسكندرية والسويس والقاهرة.. كانت تؤهله لأن يكون حاملا لميراث وجينات المدارس الشعرية في الخمسينات.. ولكنه تجاوز ذلك منفردا ليمزج بين رموز التراث العربي والميتولوجيا اليونانية: “حاجة” غير مسبوقة في رشاقتها وجمالها.
بقول ـ بعد نكسة يونيو 1967ـ في قصيدته البكاء بين يدي زرقاء اليمامة:
أيتها العرافة المقدَّسةْ ..
جئتُ إليك .. مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.
أسأل يا زرقاءْ ..
عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه .. في لحظة الملامسة!
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!!
أسأل يا زرقاء..
عن وقفتي العزلاء بين السيف.. والجدارْ!
عن صرخة المرأة بين السَّبي.. والفرارْ؟
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنهار؟!
ودون أن يسقط لحمي.. من غبار التربة المدنسة؟!
تكلَّمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي.. باللهِ.. باللعنةِ.. بالشيطانْ
لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان..
تلعق من دمي حساءَها.. ولا أردُّها!
تكلمي.. لشدَّ ما أنا مُهان
…رحمه الله.