فن

عمّار الشريعي “بيتهوفن مصر” المبصر بالموسيقي (1-2)

إنَّ “حدوتة” عمار الشريعي تشبه كثيرا قصة سيبويه العبقري ملك النحو المصري, فكلاهما تعرَّض للسخرية وأتُّهِمَ بالجنون وكل منهما قبل التحدي بالإقدام على التجريب في العلم والفن. وكلاهما لم يتخذ من الظروف حجة للاستسلام, بل واجها كل العوائق بالعلم، والمزيد من العمل.

نشأ عمار الشريعي محبا للموسيقى هاويا لها؛ فبدأ في تعلم العزف على آلة البيانو وعمره ثلاث سنوات، وكانت ابنة عمه تعلمه العزف عن طريق تسمية النغمات بأسماء الأصابع، ثم اعتمد على نفسه في عزف العديد من الأغنيات العربية والغربية المشهورة، وبدأ في تعلم التدوين الموسيقي وعمره سبع سنوات، وكان قد أمضى  بالقاهرة نحو عامين، التحق فيهما بمدرسةٍ لرعاية المكفوفين.. وكان الشريعي كلما تعرض للنكران من أقرب الناس؛ يكاد اليأس يغالبه.. لكنه كان يغلبه بمعاودة القراءة في التأليف الموسيقي؛ بحثا عن الجديد والفريد.

بحور الموسيقي

لم يخرج الشريعي من بحار الألحان إلا بعد أن تعلَّم الإبحار وصار الغواص الماهر الذي يستطيع استخراج اللآلئ.. ولو لم يقدم الشريعي سوي برنامجه غواص في بحر النغم لكفاه.. فلقد كان حقا منتهي الإبداع الموسيقي, إذ كشف البرنامج عن  فنان حقيقي درس بعمق  قصة كل صاحب بصمة موسيقية في الأعمال الدرامية والسينمائية والغناء.

عندما قدَّم الشريعي موسيقى كوكب الشرق صنع خلطة موسيقية في تتر المسلسل لخص فيها الشريعي قرنا من الموسيقي؛ إذ بدأ التتر بكلمات “برضاك يا خالقي” بصوت الكوكب، ثم تصاعد درامي موسيقي مبتكر يستحق أن تسجل فيه رسالة دكتورة مجيدة في جامعة السوربون العتيقة.

المجنون كسر قاعدة العود بالأكورديون

امتلك عمّار قدرة فائقة علي التخيل منذ الطفولة, وكان حبه بل شغفه الجنوني بآلة الأكورديون دون سواها.. وهذا أمر غريب؛ إذا علمنا أن معظم رواد وهواة الموسيقي في بلادنا يشغفون بالعود ابتداء؛ ويقبلون على تعلم الموسيقى من خلاله؛ لكن الشريعي كسر القاعدة الموسيقية للمرة الأولي والأخيرة؛ ليصبح الأوكورديون بطل موهبة وعبقرية الشريعي.

بعد سنوات من الكفاح لاقى عمار بعض التشجيع من أهله عدا والدته التي كانت ترفض عمله بالموسيقي، حتى قرر أن يهرب من حصار الاختيار الواحد للبراح الموسيقي. أقنع أهله بحتمية الدراسة بجامعة عين شمس. كانت عائلته تخاف عليه الموت تحت عجلات الترام؛ نظرا لظروفه؛ كانت تلك الكلمات تجرحه كثيرا.. بل كانت تدفعه للجنون.. يحاول إقناع الناس أنه يري, فيرتكب الحماقات في سبيل ذلك؛ يسير في الشارع دون رفيق؛ فيصطدم بالناس.. وأحيانا يسقط يضحك البعض من تلك التصرفات، ولا يدرون ما وراءها من ألم وحسرة. تعيِّن له الأسرة مرافقا؛ فيراه عمَّار مجرد رقيب يعد عليه أنفاسه.. بعد مرور شهرين كان رفضه للمرافق قاطعا.. ثارت ثائرته وكاد أن يضربه.. آثر المرافق السلامة وانصرف؛ في يومه الأول بالجامعة وحيدا.. صار يصطدم بزملائه صعودا وهبوطا من وإلى المدرَّج؛ لينجح أخيرا في إقناع الجميع أن فقد البصر لا يعني الحرمان من البصيرة؛ وعندما عزف للمرة الأولي في حفل الجامعة؛ تحوَّل الأكورديون في يده إلى حسناء يراقصها ويخضعها بلغة العاشق الصب؛ ليقف الجميع وكأن على رءوسهم الطير من روعة العزف وجمال الأنغام.

في ميدان التجريب الموسيقي

إلى ذلك الحين؛ لم يكن الناس في مصر قد اعتادوا سماع تلك الآلة الموسيقية؛ لذلك كانت دهشتهم بعبقرية الشريعي الموسيقية مُضاعفةً. دخل عمار الشريعي ميدان التجريب من أوسع الأبواب, بحسب ما أورده الباحث المصري الدكتور سمير الجمال في كتابه “تطور الموسيقي المصرية” فقد طور عمَّار بعض الميزات اللحنية واستخدامات عدد من الآلات الموسيقية؛ فاستطاع بذلك تطوير أسلوب ونوعية الألحان العربية؛ التي اتسمت معه بسرعة لم تعرفها من قبل؛ حتى أنه يمكننا القول دون وجل؛ أن عمار عبَّر فعلا عن عبقرية السلم الموسيقي الخماسي المصري القديم وصولا إلى السلم السباعي الحديث بما فيه من أبعاد كاملة (تون) وأنصاف أبعاد (نصف تون) كما برع في معرفة الأبعاد والدرجات بدقة؛ نظرا لكونه قد درس علم التدوين الموسيقي والآلات الوترية مثل: العود، الطنبور، الطنبور التركي، الكمنجة، القانون، الرباب، والقيثارة. وآلات النفخ مثل: المزمار المصري، البوق، الناي المصري، الأرغول، والزمرة. والآلات الإيقاعية مثل: البندير، الطارق، الرق. والطبول مثل: طبل النقارية، النقرزان، الطبل الشامي، طبل المسحر، طبل المشيخ. وآلات الصخب مثل: الطبل التركي، الدَّرَبُكَّة، الطبل البلدي.

تطور الموسيقى والطرب

شادية والشريعي وبداية مشوار النغم مع “أقوى من الزمان”.

في حوار تلفزيوني، حكى الشاعر مصطفى الضمرانى عن كواليس أغنية “أقوى من الزمان” للفنانة شادية، التي كانت تبحث عن أغنية تقدمها من كلماته، فطلبت لقاءه وقالت له: “إنتَ بتكتبْ وطني كِوَيِّس جدا، وأنا عايزة أغنية أقدم فيها الشريعي كملحن”. كان عمَّار مازال عازف أكورديون في فرقة صلاح عرام الموسيقية، يكمل الضمراني: “عندما التقيت عمَّار قال لي: ” الكرة بقت في ملعبك.. عايزين الأغنية دي ضروري”.

يكمل: “انشرح صدر عمَّار بما قلته له، وشكر الفنانة “شادية” على هذا التقدير، وعندما انصرفت إلى منزلها وكذلك صلاح عرام.. بقيت أنا وعمَّار على باب المعهد؛ فإذا به يقول لي: “إحنا داخلين امتحان صعب وشادية جورنال بيوزَّع مائة ألف نسخة”. قلت: “ومليون مستمع”. وانصرف كل منا إلى حاله وعشت أنا مع تكليف الفنانة شادية لي في كتابة الأغنية المطلوبة ولم يهدأ لي بال إلا بعد أن كتبت المذهب.. وكانت الساعة قد اقتربت من منتصف الليل، واتصلت بعمَّار؛ ليستمع إلى ما كتبت.. “لما كنا صغيرين.. كان لينا مكان صغير دايما تقابلني فيه.. لما كنا صغيرين.. كان لينا حلم أخضر في قلوبنا عشنا بيه.. فاكرة يا حبيبي فاكرة.. فاكرة زهر البنفسج.. فاكرة ضل الشجر.. فاكرة لمسة إيديك وحنان نظرة عنيك.. أيام ما كنا نسهر نتونس بالقمر. يضحك لينا القمر.. ونغنى مع القمر.. واتغير الزمان واتبدل المكان.. لكن يا مصر إنتى يا حبيبيتي زي ما انتي.. جميلة زي ما انتي وأصيلة زي ما انتي.. وإن خدعتني الأماني أو ضاع حبي في ثواني.. أرجعلك إنتى تاني يا صاحبة المكان يا أقوى من الزمان…” وأبدى عمار إعجابه بالكلمات وفى اليوم التالي طلب منى الحضور، وقرأ لشادية الكلام وارتاحت له وقالت لعمار: “احجز استوديو وأنا أدفع كل التكاليف.. دي أغنية وطنية وقال لها عمار: بس أخلَّص اللحن قالت له : كمِّل التلحين في الاستوديو يا عمار، فابتسم. وبعد انتهائه من اللحن بيومين دخلت شادية لإجراء البروفات مع الفرقة وكتابة النوتة الموسيقية، بعد أن كان عمار قد فرغ من تسجيل النوتة الموسيقية لأعضائها.. وغنت شادية اللحن في ثماني بروفات كاملة استغرقت أسبوعا دفعت خلالها أجر الموسيقيين وتكاليف حجز الاستوديو ومهندس الصوت زكريا عامر من مالها الخاص، ليقول لي عمار: “إحنا مش معقول حنطلب فلوس بعد أن دفعت شادية هذه التكاليف الباهظة من أجل الغناء لمصر، وقدمت شادية عمار مُلَحِّنا واعدا في حفل عام نقله التليفزيون على الهواء وشكرها على هذا الجميل ونجحت أغنية “أقوى من الزمان” نجاحا كبيرا.

عندما أصلح عمار كهرباء شقة كمال الطويل

واذا أردت أن تعرف  بحق قصة بصيرة عمار فعليك أن تسمع قصته مع الموسيقار كمال الطويل.. فذات يوم كان الطويل في منزله، وفجأة انطفأت الأنوار بسبب عطلٍ في الكهرباء. علي الفور اتصل كمال الطويل هاتفيا بصديقه عمار الشريعي؛ فكان رد عمار: “ما تخافش يا عم كمال، أنا جاي لك حالا عشان أصلح لك النور”. تعجّب الطويل وضحك بصوت عالٍ “ماتهرجش يا عمَّار هات كهربائي معاك وإنتَ جاي” ويواصل عمار الضحك لأن الموسيقار كمال الطويل “بيخاف من الضلمة” ولا يكف عن الاستغاثة “بسرعة ياعمَّار”.

بعد دقائق كان عمار الشريعي أمام شقة كمال الطويل, الذي فتح الباب وهو مرعوب نظر فلم يجد سوي عمار وحده، وليس معه الكهربائي ,عاود الصراخ ياعمار “أنت أعمي حتشوف تصلح الكهرباء إزاي أنت حتجنني”  ويرد عمار الشريعي: “صبرك بالله ياعم كمال والله حصلّح النور”. يدخل عمار ويمسك بـ “طبلون” الكهرباء، بينما الطويل يتمم “استر يا رب.. استر يا رب, الواد المجنون ده يتكهرب يجيب لي مصيبه”. فيردد عمار: “ماتخافش ما تخافش.. جمّد قلبك  يا عم كمال ده أنا بأصلّح الأكورديون, بعد ما بأفكه حته حته.. يعني مش ح أعرف أصلح حتة كوبس ضرب”. يرد الطويل: “والله مجنون”. ثم يمسك عمار السلك ويصلح الكوبس؛ فيضرب النور مرة آخري، فيجري كمال الطويل علي سلم العمارة نحو البواب؛ وهو يصرخ: “يا صبحي يا صبحي تعالى اطلع بسرعة”. وأثناء صعود البواب ووقوف كمال الطويل علي سلم العمارة مرتعدا من حريق الشقة كان عمار الشريعي قد أصلح الكهرباء. ويدخل كمال الطويل معه البواب صبحي وهو يقول أمنت بيك يا رب, بينما البواب صبحي يقول: “فعلا الأستاذ عمار بيشوف، ده أنا شفته بيركن سيارة قدام العمارة”. يرد كمال الطويل ويصرخ في البواب: “امشي امشي هات حاجه ساقعة أحسن ريقي نشف”. بينما يضحك عمار الشريعي, وسط دهشة الطويل الذي دخل مكتبه؛ ليتصل بالموسيقار محمد عبد الوهاب: “ألو.. أيوه يا محمد شفت يا سيدي الواد عمَّار العفريت صلّح النور عندي.. تصدق”. ويرد الموسيقار عبد الوهاب: “ومين قالك يا كمال إن عمَّار أعمي ده مفتح أحسن مني ومنك”. ويستشيط الطويل غضبا: “أنت كمان يا محمد.. طيب مع السلامة مع السلامة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock