في 24 أكتوبر من عام 1978، كان “نجيب” في زيارة لمنزل شقيقه الأكبر “ثروت” بمدينة دمنهور حين باغتته نوبة مرض “السكر” فدخل في غيبوبة أودت بحياته رغم نقله إلى المستشفى.
ليرقد “نجيب” هادئا ربما للمرة الأولى بعد حياة قصيرة امتلأت بالعطاء والإبداع والمعارك والمشاحنات، ولم تخلُ من الغياب وراء قضبان الاعتقال وأسوار المستشفيات.
“قد آن يا كيخوت للقلب الجريح أن يستريح
فاحفر هنا قبرا
ونم وانقش علي الصخر الأصم:
يا نابشا قبري حنانك.
ها هنا قلب ينام
لا فرق من عام ينام وألف عام”.
مسيرة حياة بدأت صباح الأول من يونيو عام 1932 في قرية “أخطاب” بمحافظة الدقهلية تلك القرية التي حفرها “نجيب” في أشعاره، وعبَّر دوما عن حنينه لها.. حنينا لم يهدأ سوى عندما هدأ القلب وتوقف عن الخفقان.. لكن هل كان قلب “نجيب” يخفق مثلنا أم أنه كان يصرخ بالحياة والتمرد والترحال.. لقد كان مصدرا دائما للصراخ ضد كل قبح حتى وإن استخدم القبح في التعبير عن غضبه.
هذا “النجيب” الذي طالما استدعته الأجيال اللاحقة له، واستحضرت مقولاته الشعرية والمسرحية لتعبر عن واقع مأزوم أو غياب الأمل في لحظات الإحباط:
” البحر غضبان مبيضحكش.. أصل الحكاية مضحكش”
هي ذاتها نفس الأجيال التي تستدعى كلمات “نجيب” في لحظات التمرد والتمسك بالأمل والدفاع عن الحياة والحق والحرية:
” لا تخافوهم فإن الخبث خوف..
وهم بالخوف كانوا الخبثاء”.
“نجيب سرور” الشاعر والممثل والمخرج المسرحي والناقد والمترجم.. كل هذا؟
نعم كل هذا كان في رجل واحد، والمدهش أنه أبدع وترك بصمة مميزة لا تنسى في كل ما قدمه من فنون وكل ما كتبه من نقد او إبداع
جاء “نجيب” إلى القاهرة يحمل أحلامه الكبرى وموهبته العظيمة، في ظل انحياز صارخ لأفكار العدل والمساواة والحرية.. إنها الاشتراكية التي رأى فيها وسيلة الخلاص من القهر والظلم الإنساني. التحق بكلية الحقوق؛ لكنه لم يجد في دراستها طريقه الأنسب فتركها والتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وحصل على دبلوم المسرح عام 1956.
سافر “نجيب” الذي كان قد انضم لحركة “حدثو” اليسارية في بعثة حكومية لدراسة الإخراج المسرحي عام 1958، وخلال البعثة كشف عن موقفه الفكري والسياسي المنحاز للماركسية فلم يسلم من وشايات بعض زملاء البعثة الذين حرَّضوا السفارة المصرية، ولفَّقُوا التقارير ضده. في نفس الوقت ثارت تساؤلات من بعض الشيوعيين العرب عن كونه يحمل الفكر الماركسي في حين أنه موفد ضمن بعثة حكومية!. الشكوك أقلقته وأثارت في نفسه اكتئابا وكان هذا موقف فارق في رحلة “نجيب” فاصبح مضطر لتوضيح موقفه؛ وهذا ما حدث فقد أعلن خلال مؤتمرات طلابية عن ارتباطه بالحركة اليسارية المصرية ووجه انتقادات حادة لنظام حكم عبد الناصر وطالب بالإفراج عن الشيوعين المعتقلين في سجونه، وكانت النتيجة الطبيعية هي إلغاء بعثة الفتى المعارض.
وبدعم من الأحزاب اليسارية العربية حصل “نجيب” على بعثة علمية في المغرب التي كتب خلال تواجده بها عددا من الدراسات النقدية ومقالات ورسائل وقصائد من بينها دراسته المهمة “رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ” دراسة طويلة كتبها عام 1958 ونشر فصولا منها في مجلة الثقافة الوطنية اللبنانية.
جمع “نجيب” الدراسة لتصدر في سلسلة “الكتاب الجديد” – دار الفكر الجديد، بيروت 1989، وقدم لها “محمد دكروب” ثم أُعيد نشرها كاملة عن دار الفارابي عام 1991.
تنقَّل “نجيب” بين المجر والمغرب لفترة.. قبل أن يقرر العودة إلى موسكو، ولم يكتف بإعلان معارضته للنهج الذي يسير عليه الرئيس جمال عبد الناصر نحو الاشتراكية؛ بل أعلن اعتراضه على النموذج السوفيتي للاشتراكية؛ ما دفع السلطات في موسكو إلى إعادته إلى مصر؛ ليجد سجونها في انتظاره ويقضى هناك سنوات من التعذيب والتنكيل.
لم يصبح “نجيب” ضيفا على المعتقلات فقط؛ بل زُجَّ به بعد خروجه في مستشفى الأمراض العقلية.. لكن “نجيب” لم يتوقف لحظة عن الكتابة والإخراج والتمثيل المسرحي والشعر والنقد.
مسرح نجيب سرور
يمثل مسرح “نجيب سرور” علامة مهمة في المسرح المصري المعاصر؛ فقد استطاع أن يستلهم التراث العربي، ويعيد صياغته بشكل مذهل مستندا؛ إلى مقدرة شعرية مبدعة وبناء درامي ملحمي.
في عام 1965، قدَّم المخرج كرم مطاوع أولى كتابات نجيب المسرحية “ياسين وبهية”
وفي عام 1967، كتب نجيب مسرحية “يا بهية وخبريني” ثم “آلو يا مصر” وهي مسرحية نثرية وكتب في عام 1968، و”ميرامار” وهي دراما نثرية مقتبسة عن رواية نجيب محفوظ المعروفة من إخراجه عام 1968.
وفي عام 1969 قدَّم “نجيب سرور” من تأليفه وإخراجه المسرحية النثرية “الكلمات المتقاطعة” التي تحولت فيما بعد إلى عمل تليفزيوني أخرجه جلال الشرقاوي، ثم أعاد إخراجها للمسرح شاكر عبد اللطيف بعد عشر سنوات، واستمر تألق هذا العمل الفني حتى عام 1996.
وفي عام 1969 قدّم “سرور” المسرحية النثرية “الحكم قبل المداولة”. وقد قام بتحقيقها ونشرها كاملة الباحث الجاد محمد السيد عيد. وفى عام 1970، قدَّم المسرحية النثرية “البيرق الأبيض” وفى نفس العام قدّم مسرحية ” ملك الشحاتين”وهي كوميديا غنائية مقتبسة عن أوبرا “القروش الثلاثة” لـ “برتهولد بريخت” و”الشحاذ” لـ “جون جاي” من إخراج جلال الشرقاوي.
وفى عام 1971، كان “نجيب” على موعد جديد مع الصدام؛ حين قررت الرقابة منع عرض مسرحيته “الذباب الأزرق” التي تدين مذابح أيلول الأسود ضد الفلسطينيين، في قالب الكوميديا السوداء، إذ مُنع عرض هذه المسرحية من قبل أجهزة الرقابة في القاهرة.
وذلك بعد تدخل الأردن لدى السلطات المصرية لإيقافها. وبدأت منذ ذلك التاريخ مواجهة جديدة بين الأمن المصري ونجيب سرور انتهت بعزله وطرده من عمله ومحاصرته ومنعه من النشر ثم اتهامه بالجنون.
لم يستسلم ” نجيب” وكتب في العام 1974، مسرحيته الشعرية “منين أجيب ناس” وقد عُرضت في نفس العام أعقبها بمسرحية نثرية لم تعرض وتحمل العنوان “النجمة أم ديل” ثم بالدراما الشعرية المقتبسة عن مسرحية “هاملت” لـ “شكسبير” وحملت العنوان “أفكار جنونية في دفتر هملت”.
شاعر عظيم ومعاناة دائمة
في فترة السبعينيات تعرَّض “نجيب سرور” لظروف شديدة القسوة، حيث عانى الاضطهاد وفُصل من عمله كمدرس في أكاديمية الفنون وعرف التشرد المأساوي؛ فكان الشعر وسيلته الأسرع للتعبير عن غضبه وإعلان موقفه من نظام حكم الرئيس أنور السادات فكتب “رباعيات” شديدة القسوة اتسمت بالنقد اللاذع للنظام. وقد استهلها بعبارة “هذا جناه أبى العلاء وما جنيت على أحد” في إشارة إلى أبى العلاء المعرى، ثم كان ديوان “فارس آخر زمن”.
“هذي العظام حصاد أيامي فرفقا بالعظام
أنا لست أحسب بين فرسان الزمان
إن عُدَّ فرسان الزمان
لكن قلبي كان دوما قلب فارس
كره المنافق والجبان
مقدار ما عشق الحقيقة”.
وكان نجيب قد قدَّم للمكتبة العربية عددا من المجموعات الشعرية منها ديوان “التراجيديا الإنسانية” ثم “إنه الإنسان” الذى كتبه في موسكو عام 1962، وديوان “رسائل شعرية إلى صلاح عبد الصبور” عام 1963، وديوانه الشهير “لزوم ما يلزم” عام 1963.
والذي يقول فيه:
“قولوا ” لدولسين” الجميلة
“أَخْطَابَ”.. قريتيَّ الحبيبة
هو لم يمت بطلا؛ ولكن مات كالفرسان بحثا عن بطولة
لم يلق في طول الطريق سوى اللصوص،
حتى الذين ينددون كما الضمائر باللصوص
فرسان هذا العصر هم بعض اللصوص”.
وديوان “بروتكولات حكماء ريش” وفى أواخر السبعينيات قدَّم القصيدة الهجائية الشهيرة
“الأميات” وهى نوع من الكتابة “المبتذلة” التي تستخدم عبارات وألفاظ خادشة، وهى تمثل في رأى عدد كبير من أصدقاء الشاعر تجليا للأزمة النفسية التي عاشها في تلك الفترة، وأفقدته توازنه بعد هذا القدر غير المحتمل من الظلم والاضطهاد.
رحل “نجيب” ولم يتجاوز عمره 46 عاما قضى سنوات منها مضطهدا أو سجينا أو محاصرا بتهم الجنون.. لا لشيء سوى أنه قضى عمره بحثا عن بطولة.. بطولة عالم يسوده العدل ويغيب عنه الفقر والقهر والاستغلال.