ثقافة

الثقافة المصرية 2021.. جدل التشدد والاستنارة (3-3)

وبعيدا عن الفن وصُنَّاعه الذين شغلوا الراي العام بقوة خلال العام المنصرف، سواء بأعمال فنية أثارت جدلا أو بحياتهم الشخصية وتفاصيلها، التي كانت محل اهتمام واسع؛ لدرجة أنَّ محرك البحث “جوجل” قد يوضح اهتمامات المصريين والقضايا الأكثر تداولا وبحثا على شبكة الإنترنت، وهذا يمثل أحد وسائل الكشف عن طبيعة المجتمع ورؤاه الثقافية والفكرية فقد جاء اسم النادي الأهلي بالمركز الأول في البحث على “جوجل ”  بين مستخدمي شبكة الإنترنت 

يليه نتيجة الثانوية العامة 2021، وتسجيل لقاح كورونا، ثم الفنانة شريهان بعد عودتها للظهور من خلال إعلان لإحدى شركات الاتصالات  

كما جاءت الفنانة “بسنت شوقي ” في المقدمة بعد تصدرها “التريند” لأكثر من مرة خلال العام؛ خاصَّة بعد حفل عقد قرانها، كما جاءت “دينا داش” عقب حفل زفافها الذي نال قدرا كبيرا من الاهتمام وقتها، وفى المركز الخامس جاء لاعب منتخب مصر “عمر مرموش” عقب تألقه الكبير في مباريات تصفيات المونديال مع المنتخب.

قد يكون هذا الرصد أحد وسائل الكشف عن القضايا والأشخاص الذين اهتم المصريون بمعرفة تفاصيل عنهم، لكن الأمر في الحياة الثقافية والفكرية يبدو مختلفا إلى حد كبير.

جدل فكرى دائم

فالمشهد الثقافي المصري خلال العام 2021، لا يقلُّ سخونة، حيث شهد العديد من الأحداث التي تتماس مع الثقافة بشكل أو بآخر.. وبعيدا عن الأرقام التي أعلن عنها من جانب الإعلام الرسمي لوزارة الثقافة، حول الإنجازات التي تحققت والتي يدور معظمها حول ترميم منشآت وإقامة احتفالات وتبنى مبادرات، وعدد العروض الفنية في المسارح القومية وقاعات الأوبرا المختلفة.. كل هذا جيد جيدا؛ لكن هل تحوَّل إلى مشروع متكامل يمكن أن نعتبره مشروعنا الثقافي القومي الذى يواجه طوفان التردي الذى يهددنا، ويستطيع أن يشتبك بقوة وجرأة مع مخاطر التطرف، ويضيء ظلام العقل الذى هيمن علينا منذ عقودٍ؛ خاصَّة وأنَّ الدولة تعلن دعمها لجهود الاستنارة!. 

على مدار العام شهدت مصر عددا كبيرا من الأحداث التي تحملُ دلالاتٍ مباشرة لأزمة العقل الجمعي ومحنة الاستنارة وعُزلة المثقف التي تزداد يوما بعد يوم، حتَّى وإن كان خطابه يتماس ويدعم مشروع الدولة المصرية ما بعد 30 يونيو في جانبه الذي يتبنى مواجهة التطرف وينحاز للهوية المصرية بكل مكوناتها وينتصر للعقلانية والتعايش.

بين نجيب محفوظ ونوال السعداوى 

ففي شهر مارس من هذا العام رحلت الكاتبة والمناضلة “نوال السعداوي” بعد رحلة طويلة من العطاء العلمي والأدبي ومسيرة حافلة داخل وخارج مصر، لتصبح واحدة من أكثر نساء العالم تأثيرا وفقا لتقدير مؤسسات كبرى من بينها مجلة “تايم” الأمريكية والتي وضعت الكاتبة المصرية  ضمن قائمة “أكثر النساء تأثيرا في 100 عام” بالتزامن مع اليوم العالمي للمرأة في عام 2020،  وقالت الصحيفة أنَّ هذا الاختيار جاء بسبب “نضالها كناشطة نسوية من أجل تعزيز مكانة المرأة، خاصَّة بعد اجتيازها تجربة السجن” الذى كان  بمثابة “ميلاد جديد لها”.

هذه “نوال السعداوي” في نظر الـ “تايم”.. أما هنا -في مصر- فبمجرد الإعلان عن خبر وفاة الكاتبة الكبيرة؛ سارع المتشددون في النيل منها بشتى الوسائل؛ وتعددت سُبُل النهش في تاريخها وقناعتها، وبدا المجتمع وكأنَّه أراد أن يتقرب من الله على جثة “السعداوي” بحثا عن تفاصيل في حياتها ومواقفها –سواء كانت صحيحة ويعاد تأوليها أو كاذبة ويتم تلفيقها– ويتبارى من لم يقرأ حرف واحد للكاتبة الراحلة في تحليل خطابها المنفلت، والذى يدعو للانحلال والرزيلة وتركزت معظم التعليقات على البعد “الجنسي” في مشروع “نوال السعداوي الفكري” مستندين إلى عناوين كُتبها دون حتى أن يقرءوا المقدمة!.

جاء هذا الجدل ليعيد للأذهان قصة الشاب الذى أقدم على ذبح الروائي الكبير “نجيب محفوظ ” بدعوى أنه كافر وعندما سأله المحقق: ماذا قرات لنجيب محفوظ؟ كان رد الشاب: لم أقرأ له شيئا، لكنهم قالوا أنَّه كافر والشيخ عمر عبد الرحمن أفتى بذلك وأنا كنت أنفذ الفتوى”!. 

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

وكان رد أديب نوبل كأنه إعلان إدانة للجميع حيث قال في التحقيقات مع المستشار” أشرف العشماوي”: ” إلى من كفروني وحاولوا قتلى، أطلب منكم السماح لعدم مقدرتي على الوصول إليكم بفكري وثقافتي وتركتكم في هذا المستنقع”. 

فهل وصلت وزارة الثقافة بكل إمكانياتها؟ وهل تمكَّن رموز الاستنارة ومثقفي الصالونات من الوصول إلى هؤلاء الذين نهشوا في لحم “نوال السعداوى” ميتة وهم يستهدفون أي محاولة أخرى تحاول إعمال العقل حتى وإن اختلفنا معها ومع منهجها ونتائجها؟؟.

الواقعة برمتها تكشف عن واقع مؤلم للعقل الجمعي المصري الذى تأثّر بقوة بخطاب متشدد خلال العقود الخمس الأخيرة وصار لا يقبل التنوع والاختلاف ولا يتسع صدره أو عقله لأى نوع من الاجتهاد، وأصبح ذلك التفكير هو المتحكم والسائد بدعم من جماعات سياسية تستخدم الدين وتفسره لصالح مشروعها.

قضايا الحسبة والدولة المدنية 

وفى شهر نوفمبر من نفس العام أعاد حكم محكمة جنح النزهة “أمن دولة طوارئ” بسجن “أحمد عبده ماهر” 5 سنوات بتهمة بازدراء الأديان، وإثارة الفتنة الطائفية أعاد للأذهان قضايا “الحسبة” من جديد خاصة في ظل تأكيدات من قيادات الدولة بأننا نعيش في ظل “دولة مدنية ديمقراطية حديثة” وهذا ما يتعارض مع وجود نصوص تعاقب على الاجتهاد الفكري.. خاصَّة وأنَّ “ماهر” عُوقب بسبب نشر كتاب تحت عنوان “ضلال الأمة بفقه الأئمة- نحو تنوير فقهنا الإسلامي”  وتعيد تلك الواقعة ما شهدته مصر في أوائل القرن العشرين –منذ قرن تقريبا– عندما أصدر “إسماعيل أدهم” كتابه الشهير “لماذا أنا ملحد؟” ولم تقرر السلطات حبسه، ولم تُحرِّك ضده دعاوى قضائية، وكان الرد بكتاب محمد فريد وجدي “لماذا أنا مؤمن؟”.

تصريحات مثيرة 

شهد العام عدة قضايا أثارت جدلا واسعا، وشغلت الملايين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. من بينها كانت تصريحات للإعلامي “إبراهيم عيسى” ينتقد فيها الصيدلي الذى يقوم بقراءة القرآن خلال العمل. كما أثير جدل شدي تبعه هجوم عنيف تعرَّض له لاعب الكرة الشهير “محمد صلاح” عقب تصريحه بأنَّه لا يتناول الخمور، لأنه لا يرغب في ذلك، دون أن يذكر أن السبب أنَّها محرمة شرعا.

وكان “حسين يعقوب” أحد دعاة الدعوة السلفية حاضرا بقوة في الجدل الفكري والثقافي هذا العام بعد شهادته الكاشفة لدور “شيوخ الفتنة” في تحريض الشباب على العنف والتطرف.

الرواية في المقدمة 

على صعيد آخر فقد تميَّز الإنتاج الأدبي المصري هذا العام بسيطرة واضحة لفن الرواية التي شهدت تطورا كبيرا وحضورا لافتا بين الأجيال الشابة التي أصبح لها كُتَّابها الذين يعبرون عن وجدانهم وانحيازاتهم.. وبغض النظر عن التقييم النقدي لتلك التجارب إلا أنَّها مؤثرة وتحقق أرقام توزيع متزايدة.

وحول الأعمال المميزة.. كشفت تقييمات النقاد والقراء عن بعض منها مثل “إخضاع الكلب” لـ “أحمد الفخراني” و”ماكيت القاهرة” للروائي طارق إمام، و”رّق الحبيب” لمحمد المخزني و”موسم الأوقات العالية” للروائي “ياسر عبد اللطيف” و”أم ميمي” للكاتب “بلال فضل” ورواية الكاتب “وحيد الطويلة” “كاتيوشا”.

ولم يكن الشعر حاضرا بنفس قوة الرواية على الرغم من ظهور عدد من الأسماء الجديدة التي تحقق انتشارها من خلال “الإنترنت “.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock