عرض وترجمة: أحمد بركات
خلق التحوُّل الذي طرأ على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في عام 2013، من جماعة “مُشرَّدة” في العراق؛ إلى منافس عتيد لتنظيم القاعدة على مقعد ريادة الحركة السلفية الجهادية –مزيدا من التماسك داخل شبكة القاعدة المترامية.
كان القائد الراحل لتنظيم الدولة “أبو بكر البغدادي” قد انفصل عن القاعدة في أبريل 2013، ثم أعلن عودة الخلافة في يونيو 2014. في هذه الآونة، أظهر السقوط العام على السطح الانقسام الكبير في الجسد السلفي الجهادي، والذي حل به منذ منتصف العقد الأول من هذه الألفية، عندما كان “أبو مصعب الزرقاوي” يقود القاعدة في العراق.
وعمد زعماء تنظيم الدولة الإسلامية إلى تشويه استراتيجية تنظيم القاعدة، والتأكيد على أنَّهم يمثلون طليعة الجهاد السلفي في العالم. وأدت الخلافات الأيديولوجية الكبرى –التي كانت تدندن حول القضايا المركزية، من قبيل التكفير، وإعلان ردة مسلمين آخرين، ودور الدعوة، وتطبيق الشريعة– إلى خلق مقاربات استراتيجية متباينة تماما لإعادة تأسيس دولة الخلافة.
كان تنظيم القاعدة قد استمد هيمنته على سائر الجماعات السلفية الجهادية من التاريخ الجهادي الموثق لمؤسسيه، وثراء مؤسسه وزعيمه التاريخي “أسامة بن لادن” والقدرات الهائلة التي تمتعت بها شبكة جمع الأموال التي توافرت له، وتأثيره النافذ في أوساط العرب الأفغان، الذين قدموا إلى أرض أفغانستان لتحقيق حلم دحر العدو السوفيتي الشيوعي المحتل.
تفوَّق تنظيم القاعدة بامتياز على منافسيه في فضاء السلفية الجهادية، الذين يميلون بدرجة أكبر إلى الطابع المحلي، والذين انهاروا تحت وطأة حملات القمع الاستبدادية في تسعينيات القرن الماضي. وبحلول عام 2001، حظيت جماعات قليلة أخرى بشهرة عالمية، ودفع انتشار القاعدة في العراق بالتنظيم إلى الواجهة في عام 2003. وسعت الجماعات السلفية الجهادية إلى ربط نفسها بالقاعدة لجني الكثير من الفوائد، رغم عدم اعتراف القاعدة نفسها بكثير منها لعدم التزامها الكامل بالأيديولوجيا القاعدية، مثل جماعة بوكو حرام في نيجيريا.
خلق ظهور تنظيم الدولة الإسلامية قوة ثانية داخل فضاء الحركة السلفية الجهادية، ما دفع بالجماعات والأفراد الذين لم يلتزموا بشكل كامل بمقاربة القاعدة إلى إعادة تنظيم أنفسهم. وبعد إعلانه قيام دولة الخلافة، تعملق تنظيم الدولة الإسلامية بعد أن حوَّلت الجماعات القابعة على هامش شبكة تنظيم القاعدة، والجماعات الصغيرة الأخرى التي انشقت عن هذه الشبكة –ولاءاتها صوب تنظيم الدولة الإسلامية، وبعد أن توافدَ المقاتلون الأجانب لتلبية دعوة تنظيم الدولة الإسلامية.
وقد تشكلت فروع تنظيم الدولة الجديدة من القاعدة السلفية الجهادية التي كانت موجودة من قبل، وأفادت من هذا الانتماء الجديد بوصولها إلى موارد تنظيم الدولة، وجذب انتباه الإعلام العالمي إليها. ودعا تنظيم القاعدة إلى وأد هذه الفتنة، والتوحد تحت راية القاعدة. واتهم كل طرف الآخر بالهرطقة، ما برر إعمال السيف فيما بينهما، وقتل بعضهما البعض، لكن أحدهما لم يعط الأولوية لهذا العمل. ووقعت المعارك المباشرة بين الطرفين في سوريا، وبخاصة في أعقاب الانقسام مباشرة، وفي اليمن.. حيث اندلعت الخلافات المحلية، بدءا من منتصف عام 2018، وفي منطقة الساحل الإفريقي، على أطلال التنسيق والتعاون السابق بين تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة قبل اندلاع القتال في ربيع 2020.
ومع تجذُّر الخلاف وتعمق الصدع، تمخضت مساءلة تنظيم الدولة الإسلامية العلنية لسلطة القاعدة عن سلسلة من البيانات والتصريحات من قبل القادة القاعديين الذين انبروا في التعريف بمنهجيتهم المتجذرة في تربة الإسلام.
ونشر أيمن الظواهري إرشادات توضح المقاربة الاسترايجية لتنظيم القاعدة في سبتمبر 2013. واستفاضت هذه الإرشادات في شرح موقف التنظيم من الجهاد والتكفير –الذي يقوم فقط على مقاتلة الجماعات الإسلامية التي تبادئ بالقتال ضد الجماعة السنية، واستهداف المقاتلين فقط دون غيرهم– ودعت إلى التعاون مع الجماعات الإسلامية الأخرى كجزء لا يتجزأ من عقيدة التوحيد.
وتعكس هذه الوثيقة حالة التوافق الجمعي بين قادة القاعدة، والتي –وفقا لتقارير– تم عرضها عليهم لإبداء الرأي والتعليق قبل نشرها.
وفي سياق متصل، أصدر تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية إرشادات بشأن الهجمات الانتحارية في ديسمبر 2015، حيث حدد ست توصيات لمعرفة مدى جواز هذه الهجمات من عدمه.
كما نشر تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية مُدوَّنة سلوك مطولة لأتباعه في يونيو 2017. رغم ذلك، لم تلتفت أعمال تنظيم القاعدة إلى هذه الإرشادات طوال الوقت، لكنها أفادت بدرجة كبيرة في معرفة التصور العملياتي لتنظيم القاعدة على الصعيد العالمي.
وكانت مقاربة تنظيم القاعدة واضحة على مستوى شبكتها الممتدة، كما تم دمجها في السياقات المحلية التي تعمل خلالها، ما أدى إلى تشكيل تحالفات برجماتية مع الجهات المحلية الفاعلة، وبناء روابط غير أيديولوجية مع المجتمعات.
وأخفت ’النكهة‘ المحلية المميزة للجماعات التي دارت في فلك القاعدة؛ تعزيزها للأهداف العالمية للتنظيم، التي تكمن بشكل كامل في العالم الإسلامي، وليس الغرب. ومثَّل التداخل الكامل من قبل القاعدة مع المتمردين المحليين، وتلميحها إلى المؤسسات المحلية، وتركيزها على القضايا المحلية تعديلات أساسية مكنت التنظيم من كسب المزيد من القبول والدعم.
وأفاد التنظيم من التجارب السابقة –خاصة تجربته في العراق أثناء “صحوة الأنبار”، في عام 2006– أنَّ بناء العلاقات مع المجتمعات المحلية، والمحافظة عليها أمر ذو أهمية بالغة، حيث فاقمت عزلة القاعدة عن المجتمعات السُنية من تعرض التنظيم لأعمال مكافحة الإرهاب، ووقفت حجر عثرة في سبيل تقدمه نحو تحقيق هدفه في تحويل تلك المجتمعات إلى مدينة إسلامية فاضلة.
وتأكيدا على ما بات يتحلى به التنظيم من صبر استراتيجي، اختار القاعديون التراجع أو تقديم التنازلات بدلا من إثارة الرفض وتأجيج المعارضة. كما عمد تنظيم القاعدة إلى التخفيف من حدة نشاطاته وخطابه تجنبا لتنفير السكان المحليين، و’تنقية‘ أيديولوجيته لتكون أكثر قبولا، وغرس آرائه المتطرفة على مهل بدلا من الانخراط في مشروع بناء الدولة. وقدم التنظيم نفسه ومنهجيته بشكل أفضل يتعارض تماما مع الطبيعة الوحشية والإقصائية لتنظيم الدولة الإسلامية، ما أدى إلى تعضيد التماسك عبر شبكته الممتدة.
(يُتبع)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا