“لقد قدمنا إلى مصر، ولم نكد نتجاوز سن الطفولة، ولذلك لم نعد أتراكا؛ إننا الآن ننتسب إلى شعب أنبل وأكثر تنورا؛ إلى الشعب العربي الذي سبق أوروبا في الحضارة التي امتدت من إسبانيا حتى حدود فارس”.
بهذه الكلمات لخَّص إبراهيم باشا قائد الجيش المصري نجل محمد علي باشا والي مصر موقفه وحقيقة انتمائه الحضاري في حوار دار بينه وبين المبعوث الفرنسي إلى مصر.
يبدو هذا البعد القومي في فكر إبراهيم باشا بعدا منسيا أو تمَّ التعتيم عليه عند تناول شخصية الرجل الذي أثَّر في تاريخ مصر والمنطقة العربية أشد الأثر في القرن التاسع عشر الميلادي؛ خاصَّة من قبل أقلام تحاول تصويره كـ “محتل أجنبي” غريب عن أرض مصر أو تحصر غايته وغاية أبيه في تحقيق مجدٍ شخصي لا اكثر.
تشير المؤرخة لطيفة محمد سالم في كتابها “الحكم المصري في الشام” إلى أن إبراهيم أعلن مرارا وتكرارا على مسامع الجميع الخط الذي ينوي أن يسير عليه حتى قبل بداية حملته العسكرية في الشام؛ وهو ضم “الجنس العربي في إطار موحد شامل”؛ رغبة في تكوين “دولة عربية مستقلة تكون مصر ركيزتها، لا تقتصر على المشرق؛ ولكن يلحق بها غرب مصر حتى تونس”.
ويوضح الدكتور أحمد سعيد نوفل في كتابه «دور إسرائيل في تفتيت الوطن العربي» أنَّ إبراهيم باشا كان ينتقد الأتراك باستمرار، وهو ما أثار استغراب أحد جنود جيشه الذي سأله كيف يطعن بالتُرك وهو منهم فأجابه إبراهيم “أنا لست تركيا ..فإنِّي جئت مصر صبيا، ومنذ ذلك الحين مصرتني شمسها وغيرت من دمي وجعلته دما عربيا”.
ولعل هذا التوجه تحديدا لدى إبراهيم هو ما يفسر نجاح حملته على الشام التي بدأت في عام ١٨٣١، حيث لم تواجه الحملة أي مقاومة تذكر من قبل الأهالي؛ حيث زحف الجيش عن طريق العريش إلى فلسطين وبدون قتال أصبحت المنطقة من غزة وحتى يافا في يد الجيش المصري.
وفي مقابلة جمعت إبراهيم بأعيان مدينة يافا؛ أبدى الأعيان ترحيبهم بالقوات المصرية، كما أفاضوا في شرح السياسات القاسية التي فرضها عليهم والي المدينة العثماني عبد الله باشا.
تكرر سيناريو مماثل في كل من القدس ونابلس وطبريا.. وهي مدن سلَّمت لجيش إبراهيم؛ لينفتح بذلك الطريق أمامه إلى عكَّا ليفرض عليها حصارا لسبعة أشهر قبل أن يتحقق لإبراهيم ما لم يتحقق لإمبراطور فرنسا نابليون بونابرت حين حاصر نفس المدينة قبل ذلك بأعوام عدة؛ حيث تمكَّن من دخولها بعد أن سلمت له ولجيشه.
تساقطت المدن الشامية بعد ذلك واحدة تلو الأخرى في يد إبراهيم؛ حيث استولت قواته على حماه ثم حلب. ومن الملاحظ أنَّ أهل حلب لم يرحبوا بالجيش المصري فحسب؛ بل رفضوا تقديم أي عون أو مؤن لجنود الجيش العثماني المهزوم وأغلقوا قلعة المدينة وأبوابها في وجوههم.
ومن المهم هنا الاشارة إلى أمرين ميَّزا سياسة إبراهيم حين استطاع السيطرة على الشام: الأول يشير إليه السفير الفرنسي البارون “بوالكونت” الذي أوفدته الحكومة الفرنسية إلى الشام في ذلك الوقت، والتقى إبراهيم بالقرب من طرطوس؛ حيث كتب إلى حكومته؛ ليقول أنَّ إبراهيم يجاهر علنا بأنَّه ينوى إحياء القومية العربية، وإعطاء العرب حقوقهم، وأنَّه من خلال مخاطبتهم لجنوده، كان يُذكِّرهم بمآثر الأمتين العربية والإسلامية ومجدهم القديم، وأضاف أنَّ أباه الذي يحكم مصر والسودان وسوريا والجزيرة العربية من الواجب أن يضمَّ العراق الى حكمه.
وأكَّد أنَّ إبراهيم في صِلَاته مع أهل البلاد يستخدم اللغة العربية ويعد نفسه عربيا.
وهو ما تؤكده دراسة للكاتب الصحفي الراحل محمد عُوده الذي أشار إلى أن إبراهيم كان يوقِّع كافَّة أوراقه وأوامره الصادرة إلى الجيش بلقب “ساري عسكر عربستان”.
وهذا تحديدا ما طبَّقه إبراهيم خلال فترة حكمه للشام حيث “تمت المساواة بين العناصر والطوائف الموجودة على أرض الشام وأعطي العرب حقهم المهضوم” حيث أدخلهم إبراهيم في الوظائف وأشركهم في الجيش ومنحهم الرُّتبَ؛ حتى أنَّهم كونوا قوة في عهده”.
الأمر الثاني هو تجاوز إبراهيم باشا للانتماء الطائفي ومساواته بين أتباع الأديان المختلفة؛ حيث اصطحب معه في حملته قبطيا مصريا هو “حنَّا بحري” للاستفادة من خبراته.
وبعد استقرار الأمر للجيش المصري في الشام “أُعلنت المساواة بين الأجناس والديانات وأُلغيت الفوارق الموجودة، ومنحت الحرية الدينية ونشر ذلك على الجميع ونودي به في الشوارع والأزقة”.
كان هذا النموذج الذي جسَّده إبراهيم باشا أكثر مما يمكن لأوروبا أن تتحمله؛ خاصة بريطانيا التي “لم ترتح للنفوذ المصري وجاهدت لإقصائه” وذلك لشعور الساسة البريطانيين أنَّ المصريين باتوا يتحكَّمون في مفتاح الطرق التجارية في المنطقة ويمكنهم تهديد طريق الهند “دُرَّة التاج الاستعماري البريطاني” خاصَّة بعد أن أبلغهم دبلوماسي بريطاني أنَّ إبراهيم باشا “يفكر في إنشاء ٣٠ مركبا على بحيرة “أنطاكية” لينزلها نهر الفرات لغزو بغداد”.
تدخلت أوروبا لإجهاض الدولة العربية المستقلة والموحدة في مهدها.. ففي خريف عام ١٨٤٠ بدأ الأسطول البريطاني “بقصف الثغور السورية تمهيداً لاحتلالها” وفي الوقت ذاته شجعت بريطانيا عددا من الهبَّات الداخلية التي لم تخل من بُعدٍ طائفي ضد الحكم المصري؛ الأمر الذي اضطر إبراهيم باشا في نهاية الأمر إلى التراجع الى داخل الأراضي المصرية.
وبحلول التاسع عشر من فبراير من عام ١٨٤١، كانت القوات المصرية قد غادرت غزَّة بعد أن عاشت على أرض الشام نحو عشر سنوات، وهي فترة “غمرتها العدالة وسادها النظام وغشيها التسامح” واستطاع العرب فيها صد الأطماع الأجنبية والسير في طريق النهضة والتقدم، وهي الأوضاع التي سرعان ما انقلبت الى النقيض التام بعد انسحاب الجيش المصري.