في خضم ثورة ١٩١٩، ضد الاحتلال البريطاني لمصر، وفي أَوْجِ نضال المصريين في ذلك العام المشهود وتحديدا في شهر أكتوبر منه، تلقت الجماهير خبرا كان له وقع الصدمة عليهم.
حيث سرت أقاويل بأنَّ يوسف بك وهبه، الذي كان الوزير الوحيد القبطي في حكومة محمد سعيد باشا، رئيس الوزراء الذي استقال احتجاجا على استقدام المحتل الإنجليزي لجنة تحقيق في أحداث الثورة برئاسة اللورد “ملنر” –يستعد لتشكيل وزارة جديدة.
كان الخبر صادما لسببين: الأول لأنَّه يخالف إجماع الساسة المصريين على رفض تشكيل وزارة طالما بقيت الحماية البريطانية، وثانيا لأنَّ تصدي سياسي قبطي لهذه المَهَمَّة من شأنه أن يثيرَ –من جديد– النعرات الطائفية التي كانت الثورة قد أخمدتها وأحلَّت محلها تلاحما مدهشا بين المسلمين والأقباط.
وكان أول المبادرين لمحاولة منع هذه الفتنة الجديدة هو بطريرك الأقباط الأرثوذكس الأنبا “كيرلس” الخامس المُلقب ببطريرك الثورتين نظرا لموقفه المؤيد لكل من الثورة العُرابية وثورة ١٩١٩، حيث أرسل وفدا من أعيان الأقباط لمقابلة يوسف بك وهبه؛ ليرجوه ألا يقبل بتشكيل الوزارة.
إلا أنَّ وهبه امتنع عن مقابلة الوفد؛ ومضى في تشكيل وزارته في ظل الحماية الإنجليزية؛ ما زاد الأمور تعقيدا خاصَّة مع وصول لجنة “ملنر” التي استقبلها المصريون بمظاهرات عارمة؛ مع تصاعد الدعوات من بعض خطباء الثورة ضد يوسف بك وهبه إلى حد استشهاد أحدهم بالآية الكريمة” اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ” يوسف(9).
وخَشِيَّ كثيرون أن يجرف الحماس أحد الشبان الوطنيين فيقوم باغتيال يوسف وهبه، وهنا يمكن أن يتكرر ما حدث حين اغتال الصيدلي الشاب المسلم إبراهيم الورداني رئيس الوزراء القبطي بطرس غالي عام ١٩١٠، لأسباب سياسية بحتة إلا أنَّ المستعمر والصحافة التابعة له استغل ديانتي القاتل والمقتول وصور الأمر برُمَّته كجريمة طائفية بحتة.
وهنا برز دور شاب مصري مسيحي الديانة هو طالب الطب عريان يوسف سعد الذي انخرط في العمل الوطني وفي مظاهرات الطلبة التي كانت شرارة الثورة؛ حيث اقترح على رفاقه من الطلبة ضرورة القيام بعمل ثوري عنيف إلا أن اقتراحه لم يلق حماسا بينهم.
إلا أنَّ زميلا له ينتمي إلى منظمة اليد السوداء التي كانت تمثل الجناح المسلح لثوره عام ١٩١٩، وكان أفرادها يقومون باغتيال القيادات الإنجليزية ومن والاهم من الساسة المصريين– تحمس لاقتراحه؛ خاصَّة أنَّ خطة عريان بدت منطقية، وهي ببساطة أن يتصدى وهو القبطي لاغتيال رئيس الوزراء ثم يسلم نفسه “حتى يعلم العالم أنَّ المعتدي ليس من المسلمين” وبالتالي يقطع الطريق أمام أي محاولة لتشويه هذه العملية أو تصويرها كناتج لتعصب ديني واستغلالها للتفرقة بين عنصري الثورة.
وبالفعل وكما يذكر عريان سعد في مذكراته أحضر له زميله سلاح العملية: مسدسان صغيران وقنبلة من قنابل الجيش البريطاني اليدوية من نوع “ملنر” وكانت صغيرة في حجم ثمرة كُمِّثرى.
ويوضح عريان أنَّه كان على أتمِّ الاستعداد للتضحية بحياته “في سبيل الحياة.. حياة الوطن” خاصَّة أنَّه “ميت على كل حال، إن لم أمت اليوم في شرخ الشباب؛ فأنا ميت حين تدركني الشيخوخة؛ ولكن الوطن حي لن يموت، فيجب أن نعملَ –نحن الأموات– على أن يحيا الوطن الذي لا يموت حياة كريمة”.
رصد عريان موكب رئيس الوزراء حتى أدرك خط سيره في شوارع وسط القاهرة، ثم تصدى للموكب وألقى بالقنبلة على سيارة وهبه بك إلا أنَّ مناورة سائق السيارة أنقذت صاحبها من الانفجار.
لم يحاول عريان الهرب وسلم نفسه للضابط والجنود الذين كانوا يحرسون موكب وهبه بك وتم اقتياده الى التحقيق، إلا أنَّ رئيس الوزراء أراد مقابلته أولا لمعرفة دوافعه؛ فواجهه “عريان” في شجاعة قائلا: “أنت خرجت على الأمَّة” وذكر له رفضه مقابلة وفد البطريرك وإصراره على تشكيل الوزارة رغم كافة البرقيات التي انهالت عليه من فئات الشعب المختلفة تطالبه برفض هذه المهمة. وحين سأله وهبه بك “وإذا لم أؤلِف أنا الوزارة، أما كان غيري يؤلفها؟”. ليرد “عريان” بحزم “يكون مصيره القتل مثلك” وختم المقابلة بقوله “أنا قبطي أردت أن اغسل بدمي ودمك ما وصمت به الأقباط بقبولك تأليف الوزارة”.
ظل “عريان” على صموده وثباته ورفضه توريط أي من رفاقه وإصراره في التحقيق الذي أُجري معه، على أنَّه قام بهذه العملية بمفرده؛ وقد لاحظ “عريان” تعاطفا واسعا معه ومع ما قام به من قِبَل من قابلهم في السجن بما في ذلك سجَّانوه أنفسهم.
حيث يقول في مذكراته “الشعب قد رضي عن اعتدائي وآية ذلك الباش سجَّان والسجَّان، وهما من أولى الطبقات والموظفون ووكيل السجن وهم من الطبقة المتوسطة، وماذا يعنيني بعد هاتين الطبقتين؟”.
لاحظ أيضا تلك المشاعر؛ حين كانت عربة السجن التي كان يستقلها تخترق ميدان “لاظوغلي” في طريقها إلى المحكمة حيث كان الميدان “يعج بشباب ما كادوا يرون العربة حتى اندفعوا نحوها وجروا خلفها وحولها يهتفون: ليحيا الوطن.. لتحيا البطولة.. لتحيا التضحية”.
وصدر الحكم على عريان بالسجن عشرة أعوام مع الأشغال الشاقة، ليجد نفس المشاعر من السجَّان وموظفي السجن الذين بدا عليهم الارتياح لهذا الحكم المخفف الذي لم يصل الى الإعدام كما كانوا يخشون.
لكنَّه لم يقضها كاملة فقد أفرج عنه في عام ١٩٢٤، حين تولى رمز الثورة سعد زغلول الوزارة، وكان “عريان” ضمن من شملهم العفو الذي أصدرته تلك الوزارة عن سجناء الثورة.
واصل “عريان يوسف سعد” دوره الوطني عقب خروجه من السجن فحين افتتحت جامعة الدول العربية أول مكتب لمقاطعة الدولة الصهيونية في دمشق؛ انتقل للعمل هناك حتى سنة 1957 وبقي على مواقفه الوطنية الثابتة حتى رحل عن عالمنا في عام ١٩٧٤.