مئة وخمسون فدانا ومن الأملاك مثلها، بالإضافة إلى قصر في شارع شبرا بالقاهرة تجاوزت مساحته الخمسة أفدنة.
كان هذا بعضا من الثروة الطائلة التي تركها فريد باشا ناظر الدائرة السنية –أي المسئول عن أملاك خديوي مصر– لولده محمد فريد عند وفاة الوالد عام ١٩٠١، كانت تلك الثروة كفيلة بأن تضمن للشاب فريد الذي كان يعمل حينها في مجال المحاماة– حياة ناعمة مترفة، كما يذكر الكاتب الراحل رفعت السعيد في كتابه “محمد فريد…الموقف والمأساة”.
إلا أنَّ المدهش هو أنَّ فريد الذي ورث هذه الثروة توفي بعد هذا التاريخ بأقل من عشرين عاما، وهو منفي في أوروبا وهو شبه معدم تقريبا.
ويرجع ذلك إلى أنّ فريد “بك” ابن الباشا لم يقنع بنوعية الحياة التي كان يحياها أغلب من ينتمون إلى ذات الطبقة الاجتماعية، وإنَّما وهب ذاته وماله وكل إمكانياته لخدمة قضية وطنه؛ وتحديدا قضية تحرير مصر من احتلال بريطاني غشوم جثم على صدرها منذ عام ١٨٨٢.
وبداية من عام ١٩٠٨، وبعد وفاة صديقه ورفيق دربه مصطفى كامل؛ آلت قيادة الحركة الوطنية المصرية إلى فريد؛ حين اختاره أعضاء الحزب الوطني الذي أسسه كامل خليفة له وزعيما للحزب.
ومن الملاحظ أنَّ الزعيم الجديد ورغم خلفيته الأرستقراطية؛ قد انحاز في خياراته الاجتماعية إلى بسطاء الشعب الذين رأى فيهم الظهير الحقيقي للحركة الوطنية، ورأى في تنظيم صفوفهم الأولوية القصوى.
كانت أولى خطوات تنظيم الصفوف التي قام بها فريد: تأسيس ما أسماه “مدارس الشعب”. ويذكر الكاتب صبري أبو المجد في كتابه “محمد فريد.. ذكريات ومذكرات” أنَّ أولى هذه المدارس كانت في حي بولاق بالقاهرة، وقد تدفق المتطوعون من شباب الحزب الوطني من المتعلمين لإلقاء الدروس على مسامع البسطاء من العمال عن تاريخ مصر وجغرافيتها، وغيرها من الموضوعات إضافة إلى تعليمهم القراءة والكتابة.
توسَّع فريد في تأسيس هذه المدارس حتى بلغت: أربع مدارس تحوي كل منها (١٢٠) تلميذا من مختلف الحرف والصناعات.
كان التعليم في نظر فريد حقا طبيعيا؛ فنادى بضرورة أن يكون التعليم الزاميا مجانيا لكل مصري ومصرية، فبدون ذلك لا تتحقق المساواة الحقيقية ولا الديمقراطية الحقة.
في الوقت ذاته؛ عُنِيَّ الحزب الوطني بتأسيس نقابات للعمال؛ وكانت أولى هذه النقابات “نقابة عمال الصنائع اليدوية” في بولاق.
وفي عام ١٩٠٩، حين أضرب عمال شركة الترام؛ هبَّ الحزب الوطني لمساندتهم وكانت جريدة الحزب “اللواء” بمثابة لسان حال المضربين؛ حيث كتبت تقول إنَّ “الاعتصام حق من حقوق العُمال؛ وإنَّ العمال ما استخدموا هذا الحق إلا حين وجدوا أنَّ شركتهم “تسيء معاملتهم وتهضم حقوقهم وتغبنهم غبنا فاحشا” وأدانت الجريدة استخدام قوات الأمن العنف الشديد ضد العمال المضربين، وضد الطلبة المتعاطفين معهم ومع قضيتهم.
ولم يختلف موقف الحزب وجريدته كثيرا في العام التالي؛ حين تأسست أول نقابة زراعية مصرية، حيث كتبت اللواء أنَّ هناك احتياجا حقيقيا لنقابة من هذا النوع؛ لكي تحمي الفلاح من جشع المُرابين وتضمن “مستقبله الزراعي” وتعمل “على ترقية الزراعة”.
وفي نفس العام ١٩١٠، طَالبَ محمد فريد الكُتَّاب والخطباء أن يشرحوا للجميع ما يعانيه الفلاح المصري من ظلمٍ فادحٍ يتمثلُ في الضرائب التي تقصم ظهره على حد تعبيره.
ويضيف فريد.. أنَّ العمال في البلاد مُهْمَلُون كالفلاح تماما خاصَّة؛ عمال البناء حيث لا يوجد قانون يلزم المقاولين بدفع تعويضٍ لمن يسقط من العمال شهيدا أثناء العمل، أو من يفقد أحد أطراف جسده؛ فيصبح غير قادر على الكسب، ويؤكد في الخطاب ذاته أن تنظيمَ العمال أنفسهم في النقابات؛ هي السبيل لانتزاع هذه الحقوق حيث أنّ “نقابات العمال قوة هائلة تخضع لها الحكومات و تطأطئ رأسها أمامها”.
ويصف فريد مشهد مدارس الشعب ومدى اعتزازه بها حيث “نجد النجار بجانب صانع الأحذية وقاطع الأحجار بجانب الطباخ” وكلهم متشوقون للعلم حتى أنَّ الواحد منهم “ليتمكن من القراءة والكتابة في أقل من ستة شهور”.
ويشيد الكاتب الصحفي الراحل أحمد بهاء الدين في كتابه “أيام لها تاريخ” بجهود محمد فريد في “تعليم الشعب على قدر الطاقة ليكون أكثر بصرا بحقوقه، وتكتيله في تشكيلات؛ ليكون أكثر قوة وارتباطا ثم توجيهه إلى هذه الأهداف في قوة متدرجة ومنظمة وراسخة”.
وهو ما حدث بالفعل في تلك الفترة؛ إذ توالى تأسيس النقابات مثل: نقابة عمال الترام في مارس ١٩٠٩، وإضرابات العمال أيضا مثل: إضرابات عمال الدخان في ١٩٠٨، والذين تمكنوا بعد نضال طويل من تأسيس نقابتهم الخاصَّة.
ويشير كلٌ من السعيد ووجدي في كتابيهما إلى أنَّ انحياز فريد إلى العمال ودعمه لنضالهم؛ هو الذي فتح أفاق التعاون بينه وحزبه من جانب والأحزاب الاشتراكية –لا سيما الأوروبية– من جانب آخر، من خلال ما عُرف في ذلك الحين باسم مؤتمرات السلام.
وحتى حين خرج الزعيم إلى المنفى بعد طول ملاحقة ومضايقة من قبل الاحتلال –لم يتخل فريد عن انحيازه إلى الحركة العمالية، حيث أرسل عام ١٩١٣، وهو في منفاه الأوروبي إلى الكاتب والمؤرخ عبد الرحمن الرافعي؛ رسالة يؤكد فيها على ضرورة الاستمرار في تأسيس النقابات والتعاونيات خاصَّة حين علم أنَّ الرافعي يؤلف كتابا عن هذا الشأن.
وفي نوفمبر عام ١٩١٩، وهو على فراش المرض في منفاه في العاصمة الألمانية “برلين” قُدر لـ فريد أن يرى البذرة التي بذرها في أرض مصر وقد أينعت وأورقت، حيث كان طلبة الجامعة الذين أشرف على تنظيمهم من خلال ما عُرف باسم نادي طلبة المدارس العُليا –أول من خرج في تظاهرات ثورة ١٩١٩، وتحديدا في التاسع من مارس من ذلك العام، ثم انضمَّ إليهم العمال بعد يومين بداية من ١١ مارس، حيث أعلن عمال الترام وسائقو سيارات الأجرة؛ الإضراب العام في القاهرة ثم تلا ذلك إضراب عمال السكك الحديدية، وسرعان ما امتدت موجة الإضرابات إلى الإسكندرية؛ حيث أضرب عمال الميناء وسرعان ما شملت إضرابات العمال القطر المصري كله.
كان من الطبيعي أن تُعَوِّضَ هذه الأخبار، الزعيمَ المنفي عن آلام المرض.. وكان آخر ما أرسله إلى شعبه الذي أحبه في مصر؛ رسالة قال فيها “ِإنِّي لعاجزٌ عن وصف ما شملنا من السرور –نحن معاشر المصريين المقيمين خارج الديار– عند وصول هذه الأخبار المنعشة إلينا”.
ويضيف “إنَّ ما ألقاه مؤسسو الحركة الوطنية من البذور في تلك الأرض الخصبة قد نبت وترعرع ساقه ثم أزهر وظهرت ثماره”.
وفي ١٥ نوفمبر عام ١٩١٩، رحل ابن مصر البار.. ولأن شعبنا لا ينسى من أحبه وضحَّى لأجله؛ سنرى تاجرا من الزقازيق يدعى الحاج خليل عفيفي؛ يعيد رفات الزعيم إلى أرض مصر على نفقته الخاصة.
وفي الثامن من يونيو ١٩٢٠، يعود فريد إلى مصر جسدا مُسَجَّى، بعد نفي دام نحو ثمانية سنوات عن أرض الوطن؛ لكي تتلقف جثمانه أيادي أبناء الشعب؛ في مشهد يصفه الرافعي بأنَّه كان “مشهدا عظيما لا يأتي البصر على آخره، وقد وازدحمت الشوارع التي مر بها بالجموع الزاخرة من المودعين”.