رؤى

عبد الحكم الجراحي.. شهيد العلم

حين تولَّى “توفيق نسيم” رئاسة الوزارة المصرية في شهر نوفمبر من عام ١٩٣٥، كان قد مضى على التحاق الطالب المصري “عبد الحكم الجراحي” بمقاعد الدراسة في كلية الآداب في الجامعة المصرية بضعة أيام لا أكثر.. وكان الصدام بين الطرفين على وشك أن يندلع.

حيث كان “نسيم” يدرك تماما أنَّه تسلَّم تركةً ثقيلةً ممن سبقوه؛ حيث ألغى سلفه “إسماعيل صدقي” دستور عام ١٩٢٣، الذي كان نتاجا لثورة عام ١٩١٩، لِيُؤتَى بدستورٍ يمنح الملك صلاحياتٍ شبه مطلقةٍ.. ما جعل الشعب المصري ينتفض ضده وضد دستوره؛ ليتمكن من إسقاط حكومته وحكومة “عبد الفتاح يحيى” التي تلتها.

وكان “عبد الحكم الجراحي” واحدا من آلاف الطلبة الذين تعلقت آمالهم بوزارة “نسيم” على أمل استعادة دستور ١٩٢٣، حيث عاد إلى مصر بعد بضعة أشهر قضاها في فرنسا التي توجه إليها لدراسة الطب إلا أنَّ جامعة “ليون” التي كان يسعى للدراسة فيها؛ لم تقبل أوراقه.. وبدلا من أن تبتلع الجراحي دوائر الإحباط؛ أيقظ هذا الحدث في نفسه بذرة الموهبة الأدبية التي كان قد أوشك على نسيانها في سبيل دراسة الطب.

وحسم الأمرَ بالنسبة للجراحي لقاءٌ تمَّ بينه وبين عميد الأدب العربي الدكتور “طه حسين” خلال إجازة قام بها الأخير إلى فرنسا حيث استمع العميد إلى الإشعار التي كتبها الجراحي وأشار عليه أن يتقدم بأوراقه الى كليه الآداب في الجامعة المصرية.

طه حسين
طه حسين

حين بدأ الجراحي ينتظم في صفوف الدراسة في كليه الآداب؛ كانت وزارة “نسيم” لا تزال تماطل في مطلب الحركة الوطنية المصرية –إعادة دستور ١٩٢٣، حيث صدر قرار ملكي بوقف العمل بدستور١٩٣٠، الذي كان المحتجون قد أسموه ساخرين “دستور صدقي” إلا أنَّ حكومة “نسيم” في الوقت ذاته لم تُعِدْ دستور 1923.

وفي التاسع من نوفمبر صرَّح وزير الخارجية البريطاني “صمويل هور” تصريحا كان له وقع الصدمة على الشارع المصري؛ حيث أوضح في لندن إن حكومته حين استشارتها نظيرتها المصرية أشارت بعدم إعادة دستوري ١٩٢٣ و١٩٣٠ لأنَّ الأول -على حد تعبيره- “أظهر أنَّه غير صالحٍ وأنَّ الثاني لا ينطبق مطلقا على رغبات الأمة”.

استشاط الطلبة غضبا حين نشرت الصحف هذا التصريح، حيث بات واضحا لهم أنَّ الاستقلال الذي زعم الساسة أنَّ مصر حصلت عليه ليس سوى استقلالٍ شكليٍ؛ وأنَّ المحتل البريطاني هو الذي لازال يحدد أي دستورٍ يحكم البلاد.

ويشير الكاتب صلاح عيسى في كتابه “حكايات من دفتر الوطن” إلى أنَّ الطلبة أخذوا زمام المبادرة، وأضربوا عن الدراسة، ودعوا إلى مظاهرات حاشدة في “عيد الجهاد الوطني” الذي يوافق الثالث عشر من نوفمبر.

وبالفعل شهد “يوم الجهاد” مظاهراتٍ حاشدةٍ هتف فيها الطلبة بسقوط “هور ابن الثور” كما أسموه وطالبوا بإقالة حكومة “نسيم” واصطدمت التظاهرات بقوات الأمن لدى وصولها إلى ميدان عابدين إلا أنَّ الأمن لم ينجح في تفريق المتظاهرين.

ومن اللافت أنَّ الطلاب نجحوا في احتجاجاتهم في تجاوز كافَّة الخلافات الحزبية؛ فمضى الطلبة الوفديون يدا بيد مع الطلبة المنتمين إلى أحزاب مثل “الأحرار الدستوريين” و”مصر الفتاة” وغيرها.

تجددت التظاهرات في اليوم التالي (١٤ نوفمبر) وتدفقت جموع الطلبة عبر جسر قصر النيل، ووجدوا في انتظارهم قوات أمن يقودها ضباط إنجليز، كان طالب الزراعة “عبد المجيد مرسي” في مقدمة الصفوف، وكان يحمل علم مصر كما جرت العادة في تظاهرات الطلبة، وعند وصوله إلى منتصف الكوبرى أطلق الإنجليز الأعيرة النارية على حشود المتظاهرين؛ فَصُرِعَ “مرسي” بعد أن أصيبَ بأربعة رصاصات.

تحرَّك الجراحي الذي كان قريبا من “مرسي” وحمل العلم وتقدم به؛ رغم تهديدات ضابط إنجليزي له بإطلاق النار عليه إن واصلَ التقدمَ؛ لكنَّ الجراحي تقدم غيرَ عابئ.. ومع كل خطوة يخطوها كان الضابط الإنجليزي يطلق عليه رصاصة حتى وقع مغشياً عليه.

نقل الطلاب زميلهم إلى القصر العيني وفي المستشفى غالب “عبد الحكم” جراحه وطلب ورقة وقلماً وكتب رسالة لرفاقه الطلبة المحتجين قال فيها: “أشكر لكم شعوركم السامي بالنسبة لما أديته، وأعتبره أقل من الواجب في سبيل البلد الذي وهبنا الحياة بل وهب الحضارة للعالم”.

استمرت الانتفاضة وتحولت إلى انتفاضة شعبية عارمة شملت العاصمة والأقاليم مثل: طنطا وشبين الكوم والفيوم والزقازيق وشملت الجامعة والأزهر بل شاركت طالباتُ كلية البنات في التظاهرات أيضا؛ ووصلت أصداءُ المعركة إلى المدارس فأضرب طلابها أيضا.

وفي حجرته في المستشفى، يخطَّ الجراحي خطابا آخر؛ لكنَّه يوجهه هذه المرة إلى “روح الشر” كما أسماه.. إلى رئيس الوزراء البريطاني قال فيه: “إلى رئيس وزراء إنجلترا، أحد رجالكم الأغبياء رماني برصاصة، وأنا الساعة أمشى رويداً إلى الموت؛ ولكنِّى سعيدٌ أن أترك روحي تنتزع منى وأضحى بدمى، إن آلام الموت عذبة المذاق من أجل مصرنا نحن؛ فلتحيا مصر، مصر فوق الجميع، لتحيا التضحية ويسقط الاستعمار، أحد الشهداء المصريين محمد عبد الحكم الجراحي 16 نوفمبر 1935”.

وبحلول التاسع عشر من نوفمبر أسلم الجراحي الروح، وعلى شفتيه ابتسامة رضا.. وكما وحَّد الطلبة صفوفهم؛ توحدت كافَّة الأحزاب والفئات في جنازته الشعبية الحاشدة التي رصدتها الأهرام في مقال بعنوان “أمة حول جثة” وجاء فيه : “لقد حقق هذا الفتى المعجزة التي أحبطت دونها جهود المفكرين، إذ اجتمع وراء نعشه جميع رؤساء الهيئات والأحزاب، ساروا صفا واحدا، وقد نسوا كل شيء إلا الضحية الغالية”.

أثمر دمُ “الجراحي” و”مرسي” النتيجة التي كانا يرجوانها: حيث توحدت الأحزاب في جبهة وطنية موحدة.. وبحلول ديسمبر ١٩٣٥، قرر “نسيم” أن يقدم استقالته؛ وأصدر القصر الملكي في أعقاب استقالته قرارا بعودة دستور1923.

ألهمَ “الجراحي” عشرات الكتاب والمبدعين؛ فامتدحه الشاعر “إبراهيم ناجي” في قصيدةٍ قال فيها:

“بطل الأبطال من أرض الهرمْ لبس الغار وجلَّى وغنمْ

كيف تذرون عليه دمعكم وهْو وضاحُ المحيا يبتسمْ”

وصاغ له شاعر العامِّية المصرية “زين العابدين فؤاد” قصيدة باسمه قال فيها:

“أنا مش قادر أمسك قلمي

ارفع علمك

مانتش أول واحد

ولا آخر واحد

يرفع علمى!”.

وفوق هذا وذاك ظل اسم “الجراحي” هتافاً على ألسنة الطلبة في تظاهراتهم مرددين “عبد الحكم…رفعت العلم”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock