ثمة صورة متكررة كرَّستها عشرات الأعمال الفنية من أفلام ومسلسلات، لثورة المصريين عام ١٩١٩، ضد الاستعمار البريطاني لبلادهم.
حيث تُبرِز هذه الأعمال تلك الثورة الشعبية بشكل يكاد يكون نمطيا، فهي سلسلة من التظاهرات التي يخوضها مجموعة من العُزل -رجالا ونساء- ثم تصطدم التظاهرات بجنود بريطانيين مسلحين؛ فيطلقون النار على العُزل؛ فيسقط منهم قتلى وجرحى.
ورغم أنَّ هذه الصورة قد تكون صحيحة نسبيا وفقا لأحداث تلك الثورة في المدن الكبرى؛ لا سيما في القاهرة، إلا أنَّ هناك صورة أخرى أو قل جانبا آخر لثورة عام ١٩١٩، لا تتطرق إليه هذه الأعمال إلا فيما نَدُرَ.
وهذا الجانب هو الكفاح المسلح الذي اختاره قسمٌ غير قليل من أفراد شعب مصر في تلك الفترة، خاصَّة في مدن الوجه القبلي التي يصف المؤرخ المصري “عبد الرحمن الرافعي” أحداث الثورة فيها بأنَّها كانت “أشد منها في الوجه البحري” حيث “طُبعت في الجملة بطابع العنف”.
وكانت أولى صور هذا العنف الثوري، هي قطع الطرق والمواصلات حيث “انقطعت المواصلات تماما بين الوجهين البحري والقبلي” نتيجة لهجوم الأهالي على خطوط القطارات ونزع القبضان لمنع القطارات العسكرية الإنجليزية من التنقل.
ولم يجد الإنجليز أمامهم طريقا للتنقل سوى المراكب النيلية، وحتى هذه لم تسلم من هجمات المسلحين؛ حيث هُوجمت البواخر النيلية بين “ديروط” و”أسيوط” ثلاث مرات على الأقل وأُصِيبَ المقدم الإنجليزي “هيزل” في مقتل. وفي كل مرة كان الأهالي يحاولون السيطرة على الباخرة إلا أنَّ الإنجليز كانوا يصدون الهجمات بمدافعهم الرشاشة.
وبحلول الخامس عشر من مارس عام ١٩١٩، أي بعد أسبوع واحد من انطلاق أحداث الثورة؛ هاجم الأهالي محطتي “الواسطى” و”الرقه” ودمروهما –على بكرة أبيهما– كما أحرقوا ما بهما من قطاراتٍ؛ حارمين المستعمرين من وسيلة الانتقال الأساسية في تلك الفترة، كما قتلوا أحد كبار الموظفين الإنجليز في مصلحة السكك الحديدية، وكان يدعى المستر “آرثر سميث”.
ولم تسلم محطات القطارات في كل من “البدرشين” و”بني سويف” و”الحوامدية” من نفس المصير.
إلا أنَّ أكثر المواجهات عنفا –وفقاً للرافعي– كانت في أسيوط فرغم أنَّ التظاهرات في تلك المدينة بدأت سلمية في العاشر من مارس، إلا أنَّها سرعان ما تطورت إلى مواجهات دموية مع الاحتلال؛ حيث أحرق المتظاهرون الغاضبون مكبس تبن مخصص للسلطة العسكرية الإنجليزية، ثم هجموا على مركز الأمن وأخذوا منه السلاح، وبدأوا في مهاجمة القوات البريطانية المتمركزة في تلك المنطقة.
وبحلول الثامن عشر من مارس وقعت أحد اكثر معارك الثورة دموية حيث كَمَنَ المسلحون من الأهالي في “ديروط” في انتظار قطار قادم من الأقصر إلى القاهرة حين علموا أنَّه يحمل ضباط وجنودا إنجليز.
وعند وصول القطار إلى موقع الكمين؛ هجم الأهالي عليه وأوقعوا بالقوة الإنجليزية خسائر فادحة حيث أسفرت المعركة عن مقتل ثمانية إنجليز من بينهم مفتش السجون في الوجه القبلي وضابط برتبة ملازم وخمسة جنود.
جن جنون الإنجليز لهذه الحادثة غير المسبوقة والتي اعتبروها مذبحة بحق جنودهم وعلى مدار الأيام التالية تصاعدت الأحداث في “أسيوط” خاصة مع تحصن الإنجليز ورعاياهم البالغ عددهم(١٤٦) فرداً في موقع دفاعي.
وفي صباح ٢٣ مارس، هاجم الأهالي هذا الموقع الدفاعي واستطاعوا اختراق تحصيناته إلا أنَّ القوة الإنجليزية صدت هجومهم الشرس بعد معركه عنيفة للغاية.
لم تجد القيادة البريطانية في القاهرة سبيلا لوقف الأهالي الثائرين سوى قصف “أسيوط” بالطيران وفي ٢٤ مارس؛ ألقت طائرتان حربيتان إنجليزيتان بالقنابل على المدينة فأسقطت قتلى وجرحى من الأهالي.
ورغم سيطرة الإنجليز على المنطقة بحلول الخامس والعشرين من مارس؛ إلا أنَّ معركة أسيوط ظلت جرحا غائرا في ذاكرة المحتل؛ ولم تنجح أحكام الإعدام والحبس التي أنزلها بالأهالي في محو تلك الذكرى.