في صيف عام ١٩٢٠، وبينما الشارع مصر ملتهب بالمظاهرات المطالبة بالاستقلال عن المحتل البريطاني الذي جثم على صدر البلاد منذ عام ١٨٨٢، بدأت واحدة من أبرز محاكمات ثورة ١٩١٩، وهي محاكمة “عبد الرحمن فهمي” الذي كان يشغل حينها منصب السكرتير العام للجنة حزب الوفد المركزية مع (26) شابا من شباب الثورة.
كانت شخصية “عبد الرحمن فهمي” تؤهله للدور الذي اختاره له زعيم الوفد “سعد زغلول” وهو قيادة جهاز سري استطاع تنظيم الجماهير منذ أواخر عام ١٩١٨، فيما عُرف حينها بحملة التوكيلات التي تمنح “سعد زغلول” ورفاقه توكيلاً شعبياً للتحدث باسم المصريين والمطالبة باسمهم برفع الحماية البريطانية عن مصر.
بدأ “فهمي” حياته طالباً في الكلية الحربية، وشارك كضابط في حملة الجيش المصري في السودان عام 1898، ثم انتقل إلى الخدمة في جهاز الأمن عام ١٩٠١، ووصل إلى منصب مدير مديرية الجيزة عام ١٩١١ إلا أنَّ صدامه المستمر مع سلطات الاحتلال وعلاقته بالحركة الوطنية المصرية أدت إلى إبعاده إلى وزارة الاوقاف.
استغل “فهمي” خبرته العسكرية والأمنية في تكوين جهاز شهد المحتل نفسه بقدراته التنظيمية.. ويشير الكاتب الصحفي الراحل “مصطفى أمين” في كتابه “أسرار ثورة ١٩١٩” إلى أنَّ المدعي العام الإنجليزي أكد خلال محاكمة “فهمي” ورفاقه أنَّ الجهاز السري له صبغة عسكرية، وأنَّه ينقسم إلى أقسام ثلاثة: قسم يختص بالمنشورات، والثاني مختص بإعداد القنابل وتنفيذ عمليات الاغتيال، والثالث مختص بإعداد الأسلحة المختلفة.
كما أنَّ الوثائق التي قدمها المدعي العام أكدت أنَّ الجهاز له أنصار في أماكن عدة وأنَّ له اتصالات تتجاوز حدود مصر إلى مستعمرات بريطانية أخرى مثل: العراق والسودان والهند؛ بل إنَّه له اتصالات داخل إنجلترا نفسها.
وبلغ الجهاز حداً من التنظيم الداخلي جعلت وكالة “رويترز” تؤكد في تلغراف نشرته عدة صحف أوروبية؛ أنَّ الوفد وهيئته التنفيذية وقوامها من الطلبة على قدرٍ عالٍ من الانضباط بحيث أنَّ كافة الأوامر والتعليمات يمكن تنفيذها وتوزيعها في جميع أنحاء مصر في ٢٤ ساعة فقط.
ولعل عبارة “الأوامر والتعليمات” هنا تشير إلى الرسائل التي كان يبعث بها “سعد زغلول” من منفاه إلى “فهمي” وكان الاثنان قد ابتكرا وسيلة للكتابة السرية، وكان المشرف على فك رموزها هو “أحمد ماهر” باشا.
وبحلول شهر نوفمبر من عام ١٩١٩، يمكن ملاحظة الشكوى المتكررة من قبل الجنرال “اللنبي” القائد العام لقوات الاحتلال الإنجليزي في مصر في البرقيات التي كان يبعث بها إلى حكومته في لندن من الهجمات المسلحة على قواته، وعلى المتعاونين مع الاحتلال من المصريين والتي كان الجهاز السري يقف خلفها.
حيث يشير “اللنبي” في برقية في ذلك الشهر إلى مقتل الكابتن البريطاني “كوهين” وهروب منفذي الاغتيال، وفي برقية أخرى في اليوم التالي مباشرة يتحدث عن إطلاق النار على خمسة جنود انجليز وفرار المنفذين أيضا، وفي ديسمبر يذكر مقتل ضابطين بريطانيين قرب محطة كوبري الليمون.. ويلاحظ في كافَّة هذه العمليات نجاح المنفذين في الهروب مما يدل على دقه التخطيط والتنفيذ.
وتشير الخطابات المتبادلة بين “فهمي” و”زغلول” إلى محاولات الاغتيال التي كان يتعرض لها الساسة المصريون المتعاونون مع المحتل، وإن لم يصرِّح “فهمي” بمسئولية جهازه عنها؛ فهو يشير في إحدى تلك الرسائل في سبتمبر ١٩١٩، إلى محاولة شاب وطني اغتيال رئيس الوزراء المصري “محمد سعيد” باشا بواسطه قنبلة.
كما يشيد في خطاب آخر بإعجابه بالطالب القبطي الذي حاول اغتيال رئيس الوزراء “يوسف باشا وهبه” ويصفه بأنَّه “في غاية الجرأة” وأنَّه “يتقد حمية ووطنية”.
ومع بداية عام ١٩٢٠، يتزايد نشاط الجهاز؛ ففي يناير من ذلك العام يتعرض وزير الاشغال لمحاولة اغتيال تتبعها محاولة في فبراير لاغتيال وزير الزراعة، وفي مايو يحاول أحد الشبان الوطنيين اغتيال وزير الأوقاف.
كان لهذه القنابل صداها حتى خارج حدود مصر، وطرحها اللورد “ملنر” وزير المستعمرات البريطاني على “سعد زغلول” خلال المفاوضات بينهما في صيف عام ١٩٢٠، حين ذكر لـ “زغلول” أنَّ صحافه مصر الوطنية “سيئة” على حد تعبيره والدليل على ذلك –وفقاً له– هو أنَّها تحرِّض على “التعدي على الوزراء”.
سعى الإنجليز لوقف نشاط الجهاز السري عبر محاكمة قائده والمطالبة بإعدامه بتهمة إنشاء جمعية سرية باسم “الانتقام” تهدف إلى خلع السلطان -آنذاك- أحمد فؤاد، وهي المحاكمة التي أسفرت عن حكم بالإعدام على “فهمي” ورفاقه إلا أنَّ الحكم تم تخفيفه فيما بعد إلى السجن بمدد متفاوتة كان نصيب فهمي منها ١٥ عاماً.
إلا أنَّ تشكيل “سعد زغلول” لحكومته الوطنية عام ١٩٢٤، أعقبه الإفراج عن المعتقلين، وهنا استعان “زغلول” مرة أخرى بـ “فهمي” وقدراته التنظيمية.
حيث كان فهمي في أكتوبر من عام ١٩١٩، قد تمكَّن كما أوضح في رسالة بعث بها إلى “زغلول” من تأسيس النقابات العمالية بطول البلاد وعرضها حيث “تشكلت لكل حرفة نقابة” “ولم يبق في مصر حرفة أو صنعة إلا ولها نقابة” لأنَّ النقابات “مفيدة جداً للحركة الوطنية وهي سلاح قوي لا يستهان به في الملمات”.
كان من الطبيعي لكل ما سبق أن يعهد “زغلول” لـ “فهمي” في مارس من عام ١٩٢٤، بتأسيس الاتحاد العام لنقابات عمال وادي النيل، وصار “فهمي” رئيسًا لهذا الاتحاد، وكان له شعبية واسعة وسط العمال؛ جعلت لقبه بينهم “زعيم العمال”.
رحل فهمي عن عالمنا في عام ١٩٤٦ بعد أن أدى دوره في ثورة شعب مصر على أكمل وجه، بينما كانت مصر تشهد انتفاضة وطنية جديدة من أجل نفس أهداف ١٩١٩: الاستقلال والدستور.