رؤى

عمر طوسون الأمير المؤرخ عاشق السودان

منذ عصر المؤرخين الكبار.. الجبرتي والمقريزي وغيرهما، ظهرت في مصر مدرستان للتأريخ, الأولي وهي تقليدية توثيقية لمن هم علي يمين السلطة ولديهم الحقيقة العادية المجردة من وجهة نظر الحاكم, والمدرسة الثانية التي تدوِّن الـتأريخ؛ وهي تنشط في غالب الأحوال مع الثورات والهبات الإصلاحية.. فنجد الجبرتي قد قام بجهد كبير في وصف أحدث الحملة الفرنسية, في حين كتب مولانا الشيخ حسن العطار بعض الحوادث الحقيقية من وجهة نظره خصوصا بعد هربه للصعيد المصري؛ خوفا من القتل علي يد “نابليون”.

مع الوقت تبلورت رؤية المؤرخين صناع التاريخ سواء الرسمي حالة عمر طوسون أو الشعبي مثل: الشيخ عبد الوهاب النجار والدكتور صبري السربوني, ومن الخطأ الجسيم أن نغفل إنتاج المؤرخ الرسمي, ولا نبالغ في قبول تأريخ المؤرخ المشارك نموذج محمد فريد في الحدث إلا بعد الفحص في عدة مصادر لمؤرخين معاصرين, والميزة المهمة في تأريخ رجال الدولة الذين يعملون في جهازها، هي رصد وقائع قد لا يعلمها من هم بعيدين عن الأحداث، ومن هنا تكمن أهمية الكتب الثمانية عشرة التي قدمها الأمير عمر طوسون للمكتبة المصرية بشرط أن تخضع للنقد والتقييم وهذا ما سنفعله.

المصادر الحية لحركة التاريخ وأبطال التأريخ 

من حسن حظ حركة التاريخ في مصر؛ ارتباط حركة التأريخ بمشايخ أزهريين منذ ما يزيد على الألف عام, فمن المعروف أنَّ الأزهر قد شهد طوال تاريخه، مظاهرات وفعاليات خصوصا عند قدوم الغزاة والمحتلين, ومدرسة الـتأريخ الأزهرية التي وضع أسسها مولانا الجبرتي حددت أطر ومفاهيم سرد الحوادث, بوصف دقيق واستشهاد بمصادر حية ومواقع جغرافية, وهذا ما يظهر منذ الوهلة الأولي عند قراءة مؤلفات عمر طوسون, فهو يحكي من موقع الرجل الوطني الغيور علي بلاده الذي يناصر القوي الوطنية من وجهة نظره. 

علي الجانب الآخر وفي نفس الوقت كان الزعيم “محمد فريد” يعيش في المنفي محنة المرض والوحدة، ويسجل تأريخا مختلفا بصور وثائق خطابات مقسمة حسب الشخصيات بكل دقة, بما في ذلك شهادات واضحة في حق رموز وطنية، تضع عليهم علامات استفهام, مثل الشيخ “علي يوسف” رئيس تحرير المؤيد الذي كان علي يمين المحتل بحسب وصف فريد في حين تبدو كتابات “عمر طوسون” من خلال رواية وقائع معاصرة، مع حديثٍ عام يطرح فيه الأمير نفسه نصيرا للقضية المصرية فيقول علي لسان كاتبه الخصوصي قليني فهمي باشا: “فضل الأمير عمر طوسون على النهضة الوطنية المصرية معروفٌ؛ فقد دفعته مبادئه ورجولته الكاملة إلى تأييدِ أعلامها منذ مهدها، فساهم في النهضة منذُ كانت فكرة، وظلَّ يواليها بالتشجيع في كلِّ مراحلها, وكان ذو فضل في تأليف الوفد المصري؛ إذ كان في طليعة من أشاروا على “سعد زغلول” باشا ورفاقه بإيفاد مندوبين مصريين إلى مؤتمر الصلح الذي يُعقَدُ في باريس، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها لتوضيح مطالب مصر، والإفصاح عن عدالة قضيتها وحقِّها في الحرية والاستقلال وتقرير المصير.

لكن الوثائق التي علي الجانب الآخر(كتاب يوميات من التاريخ المصري الحديث للكاتب لويس جريس ) تكشف حقيقة تشكيل الوفد, بفكرة مصرية وطنية شاملة تتضمن تشكيل وفود من كل الدول التي تحتلها انجلترا بما فيها الهند والعراق والحجاز كما جاء في مذكرات سعد زغلول فقد شهد منزل حمد الباسل أول خطوة لتشكيل الوفد, كتب سعد خطاب الاستقالة الشهير يوم 12يناير 1919م.

كتاب يوميات من التاريخ المصري الحديث للكاتب لويس جريس

طوسون وسعد والوفد 

وللحقيقة فعمر طوسون فعلاً كانت له علاقات مع سعد باشا زغلول وبلغ من إعجاب سعد زغلول بفكرة تشكيل وفد, أن قال في مذكراته: “إن الأمير يستحق تمثالا من الذهب لو نجحت هذه المهمة” غير أن سعد زغلول انفرد بتأليف الوفد بعيدا عن صاحب الاقتراح الذي غضب لهذا التصرف، وكادت تحدث أزمة تهدد الصف ثم تغلبت المصلحة العامة على هذا الخلاف، وعاود سعد زغلول الاتصال بالأمير عمر طوسون، ووقف عمر طوسون إلى جانب ثورة 1919م، وأعلن هو وبعض الأمراء تضامنه مع الأمة، ومطالبتهم باستقلالها استقلالا تاما بلا قيد أو شرط، وكان قصره في الإسكندرية مركزا للعمل الوطني تصدر منه البيانات المؤيدة لحقوق الأمة.

لكن سعد ورفاقه يريدون مصر بلا أتراك بعكس طوسون الذي كان يؤمن بخلافة العثمانيين علي حكم مصر ولو بشكل غير مباشر وهو لا يخفي تعاطفه مع الدولة العثمانية باعتبارها دولة الخلافة التي تظلل العالم الإسلامي وتربط بين أبنائه، وكانت الدولة تمر بظروف بالغة الحرج بعد أن تآمرت عليها أوروبا وبدأت في التهام بعض أراضيها، وكان طوسون من أعلى الأصوات في مصر مؤازرة للدولة وعونا لها فيما يقع لها من المصائب والكوارث.

وقد كتب قليني  فهمي باشا عن رؤية عمر طوسون في مذكراته: “من أفضال سموه على السودان، واهتمامه بتوثيق أواصر المودة بينه وبين مصر، عنايته باقتراح إنشاء كرسي للسودان بجامعة فؤاد الأول بمصر، ودعوته المسئولين في وزارة المعارف العمومية والجامعة المصرية فكتب إلى وزير المعارف نجيب الهلالي باشا، وكَتب إلى صَاحِب العِزَّة الدكتور طه حسين كرئيس للجامعة، يستحثهما على العمل على تنفيذِهِ “خدمة للنهضة العلمية في القطرين الشقيقين وتعزيزا للروابط الثقافية”. ولقد ردَّ الوزير العامل الهلالي باشا على كتاب الأمير طوسون بقوله: “تلك سنَّة الأمير الجليل في الاهتمام بكلِّ ما يتَّصِلُ بالنهضة العلمية في وادي النيل، بما يعودُ على القطرين الشقيقين بالمصلحة المشتركة والخير العميم. كما ردَّ الأستاذ المفكِّر الدكتور طه حسين بقوله: “ليس في وادي النيل كله إلَّا من يعرف فضل الأمير الجليل في الاهتمام الحفي بالعلائق بين مصر والسودان. وإنَّ سموكم صاحب السبق في كلِّ ما يتصل بتوثيق الروابط الثقافية بين القطرين الشقيقين، وإنَّه ليس لأحدٍ مثل ما لكم في ذلك من الآثار العلمية، وكان له الفضل العميمُ في ضمِّ صوت الأُمَرَاء إلى أصوات أبناء الشعب في المُطالَبَةِ بالاستقلال”. 

سعد زغلول
سعد زغلول

تلخص الواقعتان رؤية عمر طوسون في الشأن العام, وكانت كل شئون السودان تدرس بقسم التاريخ بكلية الآداب ورد العميد لم يكن أكثر من إجابة دبلوماسية بخطاب برتوكولي علي أحد الأمراء الذي يدعمون الجامعة مادياً, في وقت كان فيه العميد طه حسين يخطط لتأسيس عدة جامعات ويحتاج عون أصحاب النفوذ المالي, بكل حال سجل التاريخ هذه المواقف لعمر طوسون حفيد محمد علي باشا الذي لم يخرج عن السير في دائرة مصالح العائلة العلوية, مع إسهام في التأريخ, فكتابات طوسون من الأمور التي اشتهر بها وكتب قرابة الأربعين عنواناً بين كتب ومذكرات ومقالات تناولت العديد من المجالات والقضايا التي كتبها في تاريخ مصر القديم الفرعوني والقبطي والإسلامي وفي تاريخها الحديث وجغرافيتها وتاريخ جيشها في عهد محمد علي، وتلك الكتابة عن الجيش كانت بمثابة توثيق مهم، ومعظم فترة حروب محمد علي لم توثق سوي من وجهة نظر معارضة للباشا فنرى “عرابي” يدين سوء التنظيم العسكري لحرب الحبشة التي خسرها الجيش المصري, والأمانة تقتضي الإشارة لكتب طوسون عن السودان, فكتاب ضحايا مصر في السودان (250) ألف قتيل كما ذكر رقما كبيرا. ومهما كان الأمر فهو يحتاج لتفكير جديد نحو السودان؛ ليكون بقاء مصر بها للنهضة وليس الاحتلال وهوما فعله طوسون إذ ساهم في بناء مدينة الخرطوم وساعد رفاعة الطهطاوي أثناء نفيه كي يؤسس بعض المنشآت العلمية.. وقد أشار لذلك الطهطاوي في عهد الخديوي عباس الذي حكم ما بين 1848 و1854م , وتبقى فترته في السودان خصبة بالكثير من الذكريات والروايات التي يمكن أن تحكى، في ظل ضعف التوثيق والاهتمام من الجميع عدا  طوسون الذي  زار الخرطوم ومنابع النيل علي فترات في  العديد من المرات كما ذهب  لبلاد القارة في رحلات استكشافية ولذلك نجح في ما كتب في تاريخ النيل وفروعه ,وقدم بالفعل شروحاً مفيدة في تاريخ النيل ثم كتب تفصيلات عن أفرع النيل القديمة (جزآن) وكتاب تاريخ الإسكندرية, كما اهتم بقضايا اقتصادية قديمة ومعاصرة وكتب عن بعض تجاربه السياسية وعن وحدة مصر والسودان وبعض القضايا في تاريخ بلاد العرب.

طوسون والسودان أيمان بالوحدة

ويكشف كتاب طوسون “مالية مصر من عهد الفراعنة إلي الآن” ولع الرجل بعلم الإحصاء, فهو ليس مؤرخاً محترفاً ولا مفكراً موهوباً فحسب، بل كان له منهجه الذي تناسب مع عصره وميله للطابع الإحصائي والكمي، وقد ترك لنا تراثاً مهماً لا نزال نستعين به في دراستنا. كما استعان بمصادر أصبح من المتعذر الحصول عليها. والأهم أن كتاباته تعكس لنا صورة رجل وطني للغاية وبخاصة أن كتاباته جاءت في فترة تعذر عليه فيها ممارسة الدور السياسي والوطني, لكن من الإنصاف أن نشير لتأثير ودور عمر طوسون في السودان؛ فقد سجلت وثائق مكتبة الخرطوم خطاباً جميلاً للقيادي السوداني علي البرير قال فيه: إنَّ العلاقات المصرية السودانية طغت عليها منذ زمان موجة من الانحلال والفتور، ولبعض هاتيك العوامل أعذارها التي لا يمكن أن يغض عنها الطرف أو يتناساها المدقِّق، وهي وإن كان لها بعض النتائج المادية الملموسة مما قد يعتبره بعض الناس جفوة في العلائق وتقطعًا للأرحام، فما استطاعت أن تعصف بين هوى القلوب المتبادل وحب النفوس المشترك. وكيف وما بيننا وبين مصر من روابط وأواصر مكين منذ الأزل، وطيد منذ أن أبدع الله الخليقة وبسط الأرض وفجَّرها عيونًا وأنهارًا. وما كان لما سوَّاه الخالق وأحكم روابطه أن يهدمه الإنسان ويقطع أواصره، وإن الواجبات الإنسانية والعلاقات الأخوية التي بيننا وواجب مصر نحو السودان في كل مظاهر الحياة، وما يترقبه السودان دائمًا من رعاية مصر وعطفها وحنانها ومساعدتها، وواجب شعب نحو شعب، قد جعل الله في شخص صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون داعيًا ومحققًا، وقد قام سموه بمفرده بكل ما تحتمه الواجبات العالية نحو السودان، وهو وحده أمة في فرد؛ أدى الأمانة وقام بالواجب، وكفى مصر مئونة ما يجب أن تقوم به من حق مفروض. فالسودان في حاضره وفي مستقبله مدين للأمير الجليل بكل الثمرات الطيبة التي سيجنيها من وراء أياديه وغراسه، وهي في كل نواحي الحياة متعددة كثيرة تتداخل جميعها في أن تكون للسودان عوامل النهوض والتقدم والعمران. فما شئت من بعوث علمية لأبناء السودان في أوروبا وفي أرقى جامعاتها ومن أخرى في مصر وفي شتى مدارسها وفي السودان ما لا يحصره العد من فيض كرمه ومبذول عطائه. وهذه أياديه وهباته المستديمة ظاهرة في المغارس المختلفة وفي الملاجئ المتعددة، وتلك عطاياه إلى معاهد العلم الدينية، وهاتيك فواضله غزيرة متدفقة كلما طرق سمعه الكريم أن بيتًا لله يقام ومسجدًا يُشاد في كل بقعة من بقاع السودان، وها هو أول المتبرعين وأجزلهم منحًا وأسرعهم نجدةً كلما نما إليه أنَّ السودان مست بعض نواحيه يد المجاعة والفاقة. وما كان للسودانيين وهم أعرف الناس بحفظ الجميل وأبقاهم على الوفاء إلا أن يكون سموه الجليل متمثلًا لهم في كل قلب وساكنًا بكل فؤاد, وإن ذكرت في السودان مصر وطافت بالعقول ذكرياتها، وهي أبدًا حاضرة  فما هي للسودانيين إلا المتمثلة في سمو الأمير الجليل وشخصه الكريم، وما كفته أياديه الممطرة وهباته المتواصلة حتى راح يبحث وينقب عن نواحٍ أخرى يشيد فيها بذكر السودان ليجعله حاضرًا متجليًا متجددًا في نفوس المصريين، فيكتب ما كتب عن بطولة أبنائه البواسل في حروب المكسيك، وبلائهم الحسن في حومة الوغى والنضال. وهيهات هيهات للسودان مهما أثنى على سموه وقام له بالوفاء أن يفيه حقه, فهو “كما نثني وفوق الذي نثني”، وحسبنا أن نقول إنَّ سموه الجليل حفظ سمعة مصر في السودان وأوثق الروابط وجدد دارس الذكريات، وحقق للسودان حسن ظنه بمصر وعظيم رجائه في عطفها وبرها.

"مالية مصر من عهد الفراعنة إلي الآن

وليست هذه البعثة الاقتصادية، وسموه رئيسها الأكبر، إلا آية أخرى من آيات اهتمامه بالسودان وتوثيق العلاقات المادية بعد أن أحكم روابط الصلات العلمية والدينية، وليس ما رآه أفراد البعثة الأجلاء من حماس في الترحيب وحرارة في اللقاء إلا دليل ما تفيض به نفوس السودانيين من حبه وإجلاله, فسموه أولًا وأخيرًا واسطة العقد وفريد نظيمه بين القطرين الشقيقين. ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن الناس يتوقعون وراء هذه الروابط الزراعية شيئًا آخر، هو أن تكون هذه الروابط مدرسة يتلقى فيها السودانيون ما اشتهر به الفلاح المصري من دربة ومقدرة في فن الزراعة، وما وصلت إليه نتائج العقول في الفلاحة، حتى يكتمل له ما أراده سمو الأمير الجليل من رقي علمي في مختلف النواحي العقلية”.

موقف ضد المحتل الإنجليزي 

وكتب عمر طوسون دراسة مهمة بعنوان جغرافية مصر في عهد العرب, يطرح فيها رؤية مصر الإقليم الذي يحتوي البلاد العربية، ويقدم لها العون في التعليم والصحة والتشييد, فقد كانت مصر تعتبر الحجاز مصريا بحسب رؤية طوسون وهي من أسست هناك الطرق والمؤسسات, ثم كتب عن العمق المصري في ليبيا في كتاب مميز بعنوان “مذكرات عن صحراء ليبيا”, ثم كتب عن وصف فنار الإسكندرية, ومذكرة عن عمود السواري, وكتب عن السودان دراسة جيدة بعنوان “المسألة السودانية” التي أصبحت ضمن هموم طوسون إذ ساهم بشكل كبير في وضع السودان علي أولويات المؤرخين المصريين, وكتاب “خط الاستواء” (ثلاثة أجزاء) وكتاب «البعثات العلمية» في عهد محمد علي باشا وعهدَي عباس الأوَّل وسعيد باشا, وهذا الكتاب وثيقة رائعة تحكي كيف بني رفاعة الطهطاوي النهضة العلمية, وقصة اختيار البعثات الثمانية لمحمد علي باشا وصداقة إبراهيم باشا للطهطاوي, التي كانت السبب المباشر في بناء مؤسسات الجيش الحديث كما كتب طوسون في كتاب «الصنائع والمدارس الحربية» في عهدِ محمد علي باشا.

ويسجل طوسون موقفه كمصري محترم  بكتاب “١١ يوليو سنة ١٨٨٢”, ويشير عنوانه إلى تاريخ دخول القوات البريطانية مدينة الإسكندرية، ضاربة عرض الحائط بكافة المعاهدات الدولية، ومتعلقة بأوهى الأسباب لتبرير منطق الغزو والاحتلال.. ففي هذا اليوم قامت بريطانيا بقُصف الإسكندرية بواسطة خمس عشرة سفينة من أسطول البحرية الملكية البريطانية تحت قيادة الأدميرال سير “فريدريك بوتشامب سيمور”. وقد أراد عمر طوسون من خلال هذا الكتاب أن يفصل ما حدث في هذا اليوم تفصيلًا، لأنَّ مدينة الإسكندرية كانت هي أول الحصون التي تداعت بعدها كافة المدن المصرية الأخرى، كذلك أراد طوسون من هذا التفصيل أن يذَكر المصريين بهذه الوقائع التاريخية المأساوية، كي يجلي منها الأمور الغامضة، ويستخلص منها الأسباب والنتائج والعبر والدروس، ولتكون تذكرة لمن نسي من المصريين معنى الاحتلال. باختصار قصد طوسون لهذا الكتاب أن يكون حافظًا للذاكرة التاريخية المصرية في أحد أحلك الأيام التي عاصرتها والتي غيرت من مسارها التاريخي رأسًا على عقب.

11 يوليو سنة 1882

ثم كتب صفحة من تاريخ مصر والجيش البري والبحري من عهد محمد علي باشا, وأعمال الجيش المصري في المكسيك, وفي عشق للوطن كتب  كلمات في سبيل مصر, و”لبيب باشا الشاهد” عن أعمال الجيش المصري في السودان, ويبقي كتاب «ضحايا مصر في السودان وخفايا السياسة الإنجليزية» هو الكتاب الأهم الذي قدمة طوسون للمكتبة المصرية ، بجانب الأطلس التاريخي الجغرافي لمصر السُّفلى منذُ الفتحِ الإسلامي للآن, وكتاب فتح دارفور ثم كتاب مصر والسودان.

ثم كتب في نهاية حياته كتابا عن مسألة السودان بين مصر وإنجلترا, وبذلك يصبح طوسون الأمير الذي أحب السودان وأكثر من كتب عنها،  وإن كان يستحق أن نضعه مع كبار المؤرخين المصريين فسيبقي في صفحة السودان ويستحقها عن جدارة فالوثائق التي تركها عن السودان تستحق التأمل والدراسة والتحقيق من جانب الباحثين في شئون وادي النيل.

وكما جاء في كتاب المؤرخون والدولة والسياسة تأليف “انتونى جورمان“ ترجمة محمد شعبان وهو تقييم الكتابة التاريخية للمؤرخين المصريين خلال القرن العشرين “نعانى من نقص شديد في هذا المجال فلم تعط هذه الكتابة ما هو جدير بها من الدرس والفحص والتقييم مثل بعض المؤلفات التي وضعها مؤرخون أجانب مثل: “جاك كرابس جونيور” و”رول ماير” و”أرثر شميت”. 

صنف “جورمان” أجيال المؤرخين منذ القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين إلى مدرستين متعاقبتين، وإن تداخلتا أحيانا فوصف مدرسة المؤرخين التي سادت خلال القرن التاسع عشر بأنَّها “المدرسة البيروقراطية” التي ينتمي إليها طوسون، واستند في هذه التسمية إلى أنَّ هؤلاء المؤرخين خدموا في مواقع حكومية ووظائف إدارية عَليا جعلتهم على اتصال وثيق بأمور الدولة وسياساتها، ومن ثم فإنَّ مصالحهم كانت مرتبطة بالسلطة السياسية، واستمرت هذه المدرسة إلى العشرينيات من القرن العشرين، عندما ظهرت مدرسة جديدة ضمت مجموعة من المؤرخين ممن أطلق عليهم “المدرسة الملكية” والتي ضمت عددا كبيرا من المؤرخين الأوروبيين الذين استقدمهم الملك فؤاد إلى مصر، وعملوا تحت رعاية القصر الملكي، وأرخ كًتاب هذه المدرسة للتاريخ المصرى على نحو يمدح أسرة محمد على ويساند الملكية بشكل عام، فضلا عن قيامهم بتعزيز خطاب الدولة ومركزية الحاكم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock