لسنوات طويلة ظللنا نتوجس خيفة؛ من تلك اللحظة المرعبة، التي سيبدأ فيها الفضائيون الخضر في تنفيذ خطتهم الشيطانية؛ لغزو الأرض ذلك الكوكب الصغير الذى ضاق بفعالنا، وبدأنا نضج بالشكوى من نضوب موارده، وعجزها عن الوفاء باحتياجات مليارات البشر والتي تزداد ساعة بعد الأخرى.
الفضائيون القادمون من المريخ أو كواكب أخرى، ربما تقع خارج مجرة “درب التبانة” التي تعد الأرض جزءا ضئيلا للغاية منها، هم الخطر الأكبر الذى كرَّست “هوليود” عددا كبيرا من أفلامها؛ لتحذيرنا من أطماعهم التي لاتقف عن حد معين، فبتنا نحن الذين ولدنا في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات نتأهب لتلك المعركة الفاصلة التي سنخوضها بكل ما نملك من أسلحة؛ لدفع الضر عن الكوكب الذى لانعرف لنا مأوى سواه في هذا الكون الهائل.
وبعيدا عن الجدل الذى ينشب بين فترة وأخرى حول حقيقة وجود مخلوقات عاقلة كالبشر على متن أي من الكواكب الأخرى؛ فإنَّ الحقيقة التي نحن جميعا على يقين منها أنَّ الأرض لم تتعرض لأى هجوم أو غزو من الفضاء حتى اليوم، بل إنَّ كل السهام التي تغمد في صدر الكوكب مصدرها البشر الذين يعيشون عليه منذ ملايين السنين.
يشقى الإنسان من داخله حينما يفقد البوصلة التي يتوجه إليها بقلبه وعقله كي يتحرك في الاتجاه الصحيح، وحينها يضيق صدره؛ كأنَّما يصَّعد في السماء وهذا هو حالنا على هذا الكوكب منذ عدة قرون، فبدلا من أن نستثمر التقدم التكنولوجي الكبير الذى أحرزناه، في التعاون على عمارة الأرض؛ ما زلنا نصر على أن نشعل حربا جديدة –كلما أطفئها الله– فهذه هي معركة البشر التي لا تخبو جذوتها بين الأبيض والأسود، وتلك المعركة بين أتباع كل دين وآخر.. بل وصل الحد إلى شيوع الفرقة والخلاف بين أتباع الدين الواحد.. والذين صاروا طوائف شتى يحكم كل منهم بكفر الأخر وارتداده عن الملة، وذلك التقسيم الجائر بين العالم الأول والعالم الثالث وغاب بالكلية عن العقول والأفئدة أي يقين بقبول الآخر والتعايش معه على مساحة اتفاق لا يعدمها بلا شك الأضداد مهما كان حجم الهوة الفاصلة بينهم خاصة أنَّهم جميعا ولدوا في الأساس من أب واحد هو آدم وأم واحدة هي حواء.
هل كانت “هوليود” تسعى بالأفلام الكثيرة التي أنتجتها طوال الأربعين عاما الماضية؛ للتحذير من غزو الفضاء أم إلى صرف أنظارنا عن العدو الحقيقي بتهديد لا وجود له حتى الآن. لقد رأينا بأم أعيننا ملايين البشر وهم يسقطون قتلى بفعل غزو الفيروسات وآخرها “كورونا” وإذا كان للأمراض السابقة كالطاعون والانفلونزا تفسيرات علمية تبرر ظهورها فإنَّ شكوكا كثيرة مازالت تحيط حتى يومنا هذا بطريقة ظهور “كورونا” اللعين وتمكنه من اجتياح العالم بأكمله من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه خلال أيام معدودات.
لماذا لا تشرع “هوليود” أسلحتها وما أكثرها في مواجهة غزو الفيروسات الواقع؟ ولماذا ظلت تخوض حربا لا هوادة فيها ضد هجوم الفضائيين المفترض؟ ولماذا لا يزيل هذا الكابوس بعضا من مساحات الفرقة الشديدة وما أكثرها بين البشر؟ رغم أنَّ الموت يبدو أقرب اليوم من أي وقت مضى للجميع في ظل فيروس لعين لا يكف عن تطوير نفسه في مواجهة اللقاحات والعلاجات.
وحتى لو اختفى كورونا من الوجود فإنَّ خليفة له سيظهر إن عاجلا أو آجلا ليواصل حصد الأرواح، فيشعرنا بأنَّنا مسكونون باللعنة من الداخل بعد أن قتلنا بأيدينا أجمل ما فينا من قيم وأخلاق وألقينا بأنفسنا في أتون مادية لا ترحم فاستحققنا على سوء فعالنا بعضا من العذاب.
اللعنة قادمة من السماء أومن باطن الأرض إذا لم يتب البشر عما اقترفوه من آثام وما ارتكبوه من خطايا في حق أنفسهم وفى حق هذا الكوكب قبل أي شيء أخر، فالحقيقة التي لا تخطئها عين أنَّ الخطر الأكبر الذى يتهدد هذا الكوكب مصدره نحن أنفسنا وليس أي مخلوقات قادمة من الفضاء كما حاولت السينما العالمية أن تزين لنا منذ عقود طويلة.
الهجوم الضاري للفيروسات جرس إنذار قوى لا تخطئه عين بصير يحذر من الانفجار العظيم الذى يتهدد هذا الكوكب من الداخل إذا ظللنا نسير في الطريق نفسه دون أية وقفة صادقة مع النفس؛ فإما تصويب المسار وإما الهلاك وكلا الخيارين لا يبدو بعيدا أو مستحيلا.
الإعلان الذى صدر مؤخرا عن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية “تيدروس أدهانوم غيبرييسوس” بأنَّه من المؤكد من ناحية البيولوجيا ظهور فيروس جديد في المستقبل، لن تكون البشرية قادرة على احتوائه يكشف عن حجم المخاطر التي تحدق بنا من كل جانب.
ينبغي قبل فوات الأوان أن يعاد النظر في علاقات دول العالم المتقدم بدول العالم النامي، وعلى القوى أن يفهم أن مد يده إلى الضعيف يصب في مصالحته بشكل مباشر. وبدلا من أن يتم إلقاء مئات الأطنان من المنتجات الغذائية في المحيط حفاظا على أسعارها؛ يتم منحها لمن يموتون جوعا في مجاهل إفريقيا.
ليست الأرض مكانا للمدينة الفاضلة، ولكن غياب العدل وشيوع الظلم ليس سوى شكل من أشكال القفز نحو المجهول الذى يتربص بنا الدوائر من جميع الاتجاهات وما الأوبئة عن أي منا ببعيد.
ندفع جميعنا ثمنا فادحا بسبب التلوث الذى يدمر الكثير من مظاهر الحياة على الكوكب ورغم ذلك فإنَّ مجابهة مثل هذه الكارثة مازالت أمرا ترفيا في مخيلة الكثيرين؛ يرونه قاصرا على أولئك الذين يعيشون في رغد من العيش والحقيقة أنَّ الفقراء يدفعون ثمنا فادحا لذلك الإنقاص المتعمد من عمر الكوكب والذى يضلع فيه الأغنياء بصورة رئيسية.
تكمن المشكلة بالوعى بصورة رئيسية، ففي لحظات الرعب الجماعي العصيبة التي عشناها جميعا في منازلنا تحت حصار كورونا، لم نتوقف لطرح سؤال جماعي لما وصلنا إلى هذه الهوة وكيف يمكن أن نتجنبها مستقبلا؟.
ربما يكون هذا الفيروس قد تم إنتاجه في أحد المختبرات، وربما لا يكون الأمر كذلك لكن المؤكد أنَّنا في حاجة ماسة لإعادة ترتيب سلم الأولويات.. فالأفلام الجديدة يجب أن تلعب دورا توعويا في مجابهة غزو الفيروسات الواقع بالفعل، كما أنَّ الميزانيات الضخمة التي تنفق على شراء أسلحة وتكفى لتدمير الأرض عدة مرات يجب أن توجَّه لإجراء مزيد من الأبحاث حول مواجهة هذه الأوبئة الفتاكة التي تهدد البشرية بأكملها.
ليس على ظهر هذا الكوكب اليوم أعجز منا نحن البشر ففي ظل التقدم العلمي والتكنولوجي الذى وصلنا إليه نقف عاجزين أمام مخلوق ضعيف لا يرى بالعين المجردة ينتقى منا من يشاء ليجعله نسيا منسيا خلال دقائق معدودات.
الهجمة الضارية للفيروسات والأوبئة؛ ليست بمعزل أبدا عن يد الإنسان التي تعيث فسادا في أنحاء هذا الكون الفسيح، فالكثير من مظاهر التنوع والتوازن البيولوجي تم القضاء عليها والنتيجة أنَّ خطرا كبيرا يحدق بنا من جوانب شتى بسبب العبث بالبيئة، وعدم الوعى بالحفاظ على المناخ، وهو يدق جرس إنذار كبير قبل أن يغرقنا الطوفان إلى الأبد.
كان مشهد القرصنة على الطائرات التي تحمل لقاحات وأدوية علاج الفيروس في بداية الأزمة خاصة من حكومات تتنادى صباح مساء بمبادئ العدالة والقانون واحترام حقوق الإنسان مخزيا، كما أنَّ عدم وجود عدالة في التوزيع بين الكبار والصغار في هذا العالم حتى اليوم يبدو ظالما ومجحفا إلى حد بعيد، أشياء كثيرة يجب أن تتغير في القريب العاجل حتى لا تغرق السفينة بحمولتها الكاملة وسط الطوفان ويومها لن يجدى الندم.
الدرس الأول الذى يجب أن تلفت إليه حكومات العالم بدلا من الكثير من القمم التي تقتصر على التقاط الصور التذكارية، أن تشكل تحالف دولي لمواجهة الفيروسات والأوبئة، وهو ما بات فرض عين وضرورة ملحة لا تحتمل مزيدا من التأجيل، كما أن الميزانيات الضخمة المخصصة للتسليح؛ يجب أن يخصص جزءا منها لمكافحة الموت القادم من المجهول والذى لن تجدى معه نفعا قنابل ذرية أو قاذفات هجومية أو صواريخ بعيدة المدى.
إنَّ ما تعلمناه من الوباء الذى يطور من نفسه باستمرار؛ أنَّ الجميع مهما بلغ حجم قوتهم، ضعفاء في مواجهة فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة، فإما أن نصطف جميعا في مواجهة المجهول أو أن نركن إلى الفرقة فنغرق في قاع البحر.