لم يكن الفتى “محمد محمود خليفة” يدرك أثناء تجواله في شوارع مدينة الإسماعيلية الهادئة، في ذلك اليوم من أربعينات القرن الماضي أنَّه على موعد مع القدر.. مع حدث سيغير مسيرة حياته برمتها ويحوله إلى فدائي يثير مجرد ذكر اسمه رعب المحتل الانجليزي.
كان الفتى المراهق قد ترك بيت أسرته بسبب قسوة زوجة أبيه عليه؛ تلك القسوة التي أدَّت إلى مشاجرة بينه وبين أبيه هجر على أثرها الدار.
ولدى وصول “خليفة” إلى شارع “فوزان باشا” فوجئ بمشهد صادم، حيث أفاق من تأملاته على صوت امرأة مصرية أمسك بها جنديان إنجليزيان وحاولا الاعتداء عليها.
استغاثت الفلاحة البسيطة، كما يذكر الكاتب عبد الله كوماندوز في كتابه “شازام” بالفتى الذي رأته عن بعد، وبحسب رواية “خليفة” فقد غلى الدم في عروقه، وانهال بالضرب على أحد الجنديين ثم اختطف بندقية الثاني وما هي إلا بضع دقائق حتى أسفرت المعركة عن مقتل كلا الجنديين وفرار “خليفة”.
منذ تلك اللحظة، أدرك خليفة هدفه ومسعاه، وكرَّس ذاته للعمل الفدائي ضد قوات الاحتلال التي رآها لا تكتفي بانتهاك أرض المصريين؛ بل تنتهك أعراضهم أيضا.
ومع انطلاق العمل المسلح ضد الاحتلال بداية من أكتوبر ١٩٥١، بعد إلغاء حكومة الوفد الأخيرة لمعاهدة عام ١٩٣٦، مع الإنجليز.. انضم “خليفة” إلى ما عُرف بكتائب التحرير التي تشكلت بداية من الثالث من نوفمبر، وهو اليوم ذاته الذي أصدرت فيه بلاغها الأول الداعي الى المقاومة.
وانطلق “خليفة” ليوفر لرفاقه السلاح اللازم من خلال مهاجمة القوافل الانجليزية على طريق “أبو سلطان” حيث كان يحرِّك قطيع أغنام على هذا الطريق؛ لكي يقطع السكة على قوافل المحتل ويغنم حمولتها من الأسلحة.
وفي إحدى هذه الهجمات فوجئ ضابط إنجليزي بـ “خليفة” وهو يهبط على ظهر الشاحنة، فصاح الإنجليزي “شازام” في إشارة إلى شخصية البطل الخارق التي جسدتها القصص المصورة.
ومن الطريف حقا أنَّ “شازام” بات منذ تلك اللحظة لقب “خليفة” والذي ظلَّ معتزا به.
ثم انتقل “شازام” ورفاقه إلى مرحلة أخرى من مراحل النضال المسلح، وهي مهاجمة المواقع العسكرية الإنجليزية حيث هاجم مع زملائه محطة ترشيح المياه في منطقة “التل الكبير” ثم معسكر القوات الإنجليزية في منطقة “القصاصين” وقاموا بتدميره وكبَّدوا الإنجليز ثمانية قتلى، ومن اللافت أنَّ هذه المناطق شهدت قبل هذه المعارك بنحو سبعين عاماً معارك مماثلة بين جيش مصر؛ بقيادة أحمد عُرابي والغزاة الإنجليز حيث بدا وكأن “شازام” ورفاقه ينتقمون لأسلافهم.
وفي مدينة الاسماعيلية تفتق ذهن الفدائيين عن أساليب مختلفة لإفقاد الجنود الإنجليز أي شعور ممكن بالأمن، من بينها تثبيت أسلاك شائكة بين أعمدة الكهرباء لِتُسْقِطَ الجنود في الليل، وهم على متن دراجاتهم النارية، الأمر الذي اضطر الإنجليز إلى وضع قضيب معدني في مقدمة سياراتهم لقطع تلك الأسلاك.
بل بلغت الجرأة بالفدائيين حد محاولة اغتيال الجنرال “أرسكين” قائد القوات الإنجليزية في منطقة القناة، وتصدَّى “شازام” لهذه المهمة حيث كَمَنَ لموكب “أرسكين” العسكري وألقى عليه قنبلة يدوية، وخرجت الصحف في اليوم التالي لتعلن عن نجاة “أرسكين” بأعجوبة وإصابته في ذراعه ومقتل عدد من حراسه.
وفي صباح التاسع عشر من يناير عام ١٩٥١، آفاق الإنجليز على عملية جديدة كان “شازام” أحد منفذيها، وهي عملية “عربة البرتقال” حيث وضع الفدائيون قنبلة موقوتة في عربة برتقال وتظاهروا ببيعها للجنود الإنجليز على كوبري “سالا” ثم افتعل “شازام” مشاجرة مع رفاقه، لإبعادهم عن الكوبري الذي انفجر بعدها؛ لتتطاير معه أشلاء الجنود الإنجليز، وتسقط جثثهم في ترعة الإسماعيلية.
صبَّ الإنجليز جامَّ غضبهم على قوات الأمن التي اتهموها بدعم وإيواء من أسماهم “أرسكين” بـ”الارهابيين المصريين” وهاجموا مبنى المحافظة في ٢٥ يناير ودافع جنود الأمن عن المبنى دفاع الأبطال حتى نفذت ذخيرتهم في معركة ارتقى فيها أكثر من ستين شهيداً.
بعد هذه المعركة وبعد حريق القاهرة في اليوم التالي، شن الإنجليز حملة اعتقالات استهدفت الفدائيين ومن بينهم “شازام” إلا أنَّه تمكَّن من الإفلات منهم، والابتعاد عن الإسماعيلية.
لكن مشاجرة بينه وبين ضابط إنجليزي في منطقة “فايد” أدَّت إلى اعتقاله خاصَّة بعد أن أهان الضابط.. الشعب المصري وهو ما لم يتحمله “شازام” واشتبك معه ما أدَّى إلى القبض عليه وتعذيبه في إحدى المعسكرات الإنجليزية إلا أنَّه تمكن من الفرار للمرة الثانية.
لم يطل تخفي “شازام” حيث قامت ثورة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢، وأصبحت الدولة تدعم نشاط الفدائيين بدلا من ملاحقتهم.
وبحلول شهر يونيو من عام ١٩٥٦، أبصر “شازام” ورفاقه ثمرة نضالهم؛ حين تمَّ جلاء آخر جندي إنجليزي عن أرض مصر، وارتفع العلم المصري عاليا خفاقا على مبنى البحرية في بورسعيد.
وضمن تشكيلات “الحرس الوطني” التي أسسها النظام الجديد سجل “شازام” اسمه ضمن الكتيبة الأولى، والسرية الأولى والفصيلة الأولى أيضا؛ ليبدأ مرحلة جديدة من نضاله الوطني الطويل الذي استمر حتى نصر أكتوبر عام ١٩٧٣.