رؤى

من ذاكرة المكان | دِمْيَاطُ.. مَدِيْنَةُ الصُّمُودِ الفَادِيَةُ (1-2)

مدن التاريخ تنبض بالحياة.. تنطق أرجاؤها بقصص البطولة والكفاح.. تحتفظ ذاكرتها بأمجد الأيام؛ ليتنفس أبناؤها عبير الأزمنة والأيام الخالدة.. مدن التاريخ تلهمنا الصبر والصمود، وتدعونا –دائما– للتأمل وقراءة عِبرَ الأحداث الجسام.. مدن نعيش فيها وتعيش فينا.. تحيانا كما نحيا فيها.. نتوحد معها حتى لا تُمحى ذاكرة الأوطان، بأثر عدوان من لا يعرفون للتراث قيمة.. فليس لديهم سوى القيم المادية.. التي لا تعرف إلا التربح من كل شيء.. دون أدنى اعتبار لما يربط الإنسان بإرثه الحضاري والثقافي.. الذي يتناقص يوما بعد يوما جراء تلك الهجمة البربرية الآثمة.

ودمياط مدينة موغلة في القِدم، يُرجع بعض الباحثين تاريخ وجودها إلى ما قبل أربعة آلاف عام، عرفت أسماءً عديدة عبر العصور المختلفة؛ فهي تامحيت أو تم آتي أو تاميات أو تامياتس.. أرض الشمال.. بلد مجرى الماء، وقد ورد ذكر المدينة في التوراة باسم “كفتور” التي كانت تطل على البحر وكانت ذات أسوار منيعة، وبها أبراج حربية.

تضاربت الأقاويل حول دمياط في كتب التاريخ، وفي كتب الرحالة الأوروبيين؛ فيكثر الخلط بينها وبين تنيس والفرما (بورسعيد حاليا)، كما يخطئ البعض في الحديث عن فرع النيل بها على أنه الفرع “البيلوزي” الذي انطمر وكان في العهود القديمة أوسع وأعمق من فرع دمياط، وكان يصب في البحر المتوسط عند مدينة الفرما..ويذكر المؤرخ “سترابون” الذي زار مصر عام 24ق. م أن فرع دمياط المسمى بـ “الفاتنيتي” كان ترتيبه الثالث من حيث الكِبَرِ والاتساع بعد الفرعين “البيلوزي” و”الكانوبي”.

المؤرخ سترابون
المؤرخ سترابون

وفي العام509م تعرضت المدينة لهجمات متوالية من البيزنطيين؛ لكنها صمدت أمام ذلك الغزو.. ويذكر المؤرخ القبطي “ساويرس بن المقفع” أنَّ المدينة وقعت في أيدي الفرس في الفترة بين 616،622م بعد أن هزم الملك الفارسي “خسرو” جيش الروم واستطاع الاستيلاء على مدن الساحل من الشام حتى الإسكندرية التي أحدث بها مقتلة عظيمة راح ضحيتها 80ألف رجل.

في الفتح العربي لمصر عام640م تصمد دمياط أمام الجيش الذي أرسله “ابن العاص” بقيادة “عمير بن وهب الجمحي” ولم يستطع العرب دخول المدينة إلا صلحا بعد اتفاق “ابن العاص” مع “قيرس”. ثم جاءت القبائل العربية إلى مصر، فكانت دمياط و”تنِّيس” من اختيار قوم نصر بن معاوية من هوازن.

ويذكر المؤرخ المقريزي أنَّ الروم أغاروا على المدينة غارتين مدمرتين: الأولى كانت في سنة709م وأسر فيها الروم حاكمها “خالد بن كيسان” وأرسل على ملك الروم الذي أرسله للوليد بن عبد الملك من أجل الهدنة التي كانت بينه وبين الروم.. وقد فشلت هذه الحملة، لكن أساطيل الروم عادت ثانية إلى دمياط بعد نحو ثلاثين سنة، وبلغ عدد سفن تلك الحملة 360مركبا، ونزل الروم إلى المدينة؛ فعاثوا فيها فسادا وأكثروا من السلب والنهب والقتل.. وقد شهدت المدينة أربع غارات بيزنطية خلال القرنين التاسع والعاشر انتهت كلها بالفشل.

وفي شهر صفر من عام565هـ حوالي عام1169م، حاصر الفرنجة دمياط.. وطارت أخبار الحصار؛ فعمَّ الحزن سائر بلاد المسلمين؛ بسبب ما ارتكبه الفرنجة من فظائع إذ قتلوا خلقا كثيرا، بعد مباغتتهم أهل دمياط من البر والبحر.. كانت هذه الهجمة البربرية الشرسة بمثابة ضربة استباقية؛ تهدف لإثناء المسلمين عن استرداد بيت المقدس.

دمياط

لم يكن الأمر قد استتب بعد للوزير صلاح الدين الأيوبي؛ فما تزال القاهرة تموج بالمؤامرات ضده.. الطامعون في المنصب، حاولوا اغتياله مرتين، وأصحاب المصالح ممن لا يرجون أن يوسد الأمر لرجل مثله؛ أغروا به جند الزنج وكانوا قرابة الخمسين ألفا.. لكن الأيوبي كسر شوكتهم، وأظهر من الحكمة والجلد ما ألجم به خصومه؛ لكن حصار دمياط كان فوق قدرته على المواجهة العسكرية في ظل اضطراب الأوضاع؛ فأرسل صلاح الدين قواته بقيادة شهاب الدين محمود وابن أخيه تقي الدين عمر، وأرسل إلى نور الدين زنكي يشكو ما هم فيه من المخافة ويقول:” إن تأخرتُ عن دمياط ملكها الإفرنج، وإن سرتُ إليها خلفني المصريون في أهلها بالشر، وخرجوا من طاعتي، وساروا في أثري، والفرنج أمامي؛ فلا يبقى لنا باقية”. عندما بلغت نور الدين تلك الرسالة؛ سارع إلى نجدة صلاح الدين بإرسال الجيوش إلى القاهرة، وكان من ضمن قادة تلك الجيوش، والد صلاح الدين “نجم الدين أيوب” وإخوة لصلاح الدين.. ولم يكتف نور الدين بذلك، بل هاجم الإمارات الصليبية؛ فقتل وسبى وغنم مالا كثيرا.. فلما وصلت تلك الأخبار جند الفرنجة، أنهوا حصارهم لدمياط، وجلوا عنها، بعد حصار دام خمسين يوما.. وذُكر أنَّ نور الدين زنكي كان يتلمس أخبار دمياط وهو في كرب شديد.. حتى صلى الصبح، وهو يضرع إلى الله باكيا أن يكشف الغمة، وإذا بإمام مسجد أبي الدرداء بالقلعة المنصورة، يدخل عليه ليبشره، بأنه رأى رسول الله –صلى الله عليه وسلم– في الرؤيا، وأنه قال له: ” سلم على نور الدين، وبشِّره بأنَّ الفرنج قد رحلوا عن دمياط” فلما سأل الإمامُ رسولَ الله عن العلامة قال:” بعلامة ما سجد يوم “تل حارم” وقال: في سجوده اللهم انصر دينك ولا تنصر محمودا، ومن هو محمود “الكلب” حتى ينصر”. ولم يكن يعلم بأمر هذا الدعاء سوى الأمير؛ فبكى فرحا بالبشرى؛ وما هي إلا أيام حتى جاءت الأخبار بانتهاء الحصار واندحار الفرنجة.

وفي عام 615 هـ/1218م وفدت قوات صليبية جديدة من أوروبا، وقرر مجلس الحرب الصليبي الذي اجتمع في عكا، مهاجمة دمياط.. وصل الفرنجة دمياط بقيادة الملك “يوحنا دي بريان” وأقاموا معسكرهم على الضفة الغربية للنيل، وعندما علم الملك العادل بنزول الصليبيين في دمياط، وكان بـ “مرج الصَّفر” انتقل إلى “عالقين” بظاهر دمشق، وبدأ بإرسال العساكر إلى مصر، حتى أنه لم يبق عنده من العساكر إلا القليل، وطلب من ابنيه المعظم عيسى والأشرف موسى أن يُغِيْرَا على معاقل الصليبيين في بلاد الشام ليشغلهم ذلك عن دمياط.

دمياط

على مدى أربعة أشهر حاول الفرنجة اقتحام برج السلسلة، وهو في منطقة بوغاز دمياط الحالية بين مدينتي عزبة البرج ورأس البر.. وقد نجحت جهودهم في النهاية، واستطاعوا الاستيلاء على البرج، لكنهم لم يستطيعوا الاستيلاء على المدينة بكاملها، فاكتفوا بالتواجد في الضفة الغربية للنهر.. وقد تزامن ذلك مع وفاة الملك العادل بدمشق، وقد ورثه أبناؤه الثلاثة، وتقاسموا حكم الدولة الأيوبية؛ فآل حكم مصر إلى ابنه محمد الملقب بالكامل.

حاول الكامل طرد الصليبيين من البلاد لكنه ووجه بتخاذل الجميع عن نصرته.. فلقد كانت أخبار الهجمات المغولية التي تقترب من بغداد ترعب الجميع.. إلى جانب ذلك فقد تآمر عسكر الشام بقيادة “ابن المشطوب” من أجل خلع الكامل وتولية أخيه الفائز إبراهيم مكانه، ما جعل الكامل يتحرك بقواته من معسكره بـ “العادلية” بدمياط، قاصدا الشام لتأديب العسكر المتآمرين.. فلما بلغت تلك الأخبار معسكر الفرنجة، تحركوا بسرعة للاستيلاء على المدينة، فكان لهم ما أرادوا.. في نفس الوقت أخمد المعظم عيسى نار الفتنة التي أوقدها العسكر في الشام، وأنهى تمردهم والقى القبض على “ابن المشطوب”.

لم يستطع الكامل مواجهة الصليبيين لعوامل عديدة وانتهى الأمر بتوقيع اتفاقية مهينة بل مذلة؛ إذ عرض الكامل على الفرنجة أن يتنازل لهم عن أراضي بيت المقدس باستثناء الكرك والشوبك، مقابل خروجهم من دمياط، مع إقرار هدنة تمتد لثلاثة عقود؛ لكن البابا في روما رفض هذا العرض السخي، بل وبَّخ الإمبراطور “فريدريش” الذي كان على وشك قبوله.. ورغم استمرار الكامل في طريق التنازلات المزرية التي تصل إلى حد الخيانة والتفريط لم يقبل الصليبيون عرضه ما اضطره لقتالهم، بعد حصارهم  للمدينة دام تسعة أشهر قبل أن تسقط في أيديهم بعد فشل الكامل في إمداد أهلها بالمؤن والسلاح.

استعد الصليبيون للتحرك نحو القاهرة.. وكان الموقف ينبئ بانتصار الصليبيين،  لكنهم لم يكونوا على دراية بطبيعة الأرض المصرية في تلك المناطق.. بينما غيَّر الكامل-بمشورة المصريين-  مكان معسكره ليكون جنوب بحر “طناح” والشاطئ الشرقي للنيل، قبالة قرية “جوهر” وبنى فيها قلعة جديدة أسماها المنصورة، أما الفرنجة فقد بادروا ببناء حصني “تورون” و”بوتا” في دمياط، لمنع السفن الأيوبية من التقدم.

تحركت القوات الصليبية في عام 618 هـ  من دمياط إلى العادلية استعدادا للتقدم جنوب دمياط بمحاذاة النيل، حتى وصلت “فارسكور” فلما تقدم الصليبيون نحو دمياط قام المصريون بفتح سدود المياه من كل جانب فتدفقت المياه وأغرقت القوات الصليبية، ولم يستطيعوا التقدم خطوة واحدة، فشقوا طريقهم وسط الوحل مرتدين إلي الشاطئ، بعد أن باءوا بالفشل فعرضو الصلح على الكامل وخرجوا في مقابل أن يستردوا رهائنهم ومنهم ملك عكا، وبذلك فشلت الحملة الصليبية الخامسة.

خرجت المدينة من هذا الحصار منهكة بعد أن تهدمت كثير من دورها، وتشرد كثيرون من أهلها، لكنها ما لبثت أن عادت إلى طبيعتها الحيوية، فعمرت مجددا بأيدي أبنائها المخلصين.. استعدادا لجولة أخرى من جولات الكفاح والصمود.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock