ونقترب أكثر من تلك الثقافة الشعبية التي نعنيها في الواقع المصري المعاصر.. ووفقا للتعريف بأنَّها ليست هي الثقافة التي خلقها الشعب، وإنَّما هي تلك التي قبلها الشعب وتبنَّاها وحملها.. وبالتالي يمكن التعامل مع كل ما يتبناه المجتمع -في غالبيته- كونه هو الثقافة الشعبية التي تمثِّله وتعبِّر عنه.
وفى عالم ما بعد الحداثة، وهيمنة مفاهيم وثقافة الشركات عابرة القارات؛ صار الحديث عن خصوصية للثقافة الشعبية أو القومية؛ أمرا يواجه صعوبة في تعريفه والتوقف عند ملامحَ صارمةٍ له؛ خاصَّة لدى الأجيال الجديدة التي تعرَّفت على العالم من خلال وسائل التواصل الحديثة، وشهدت تلك الثورة الهائلة في عالم الإنترنت، وما حدث للعالم من تحوَّلات ضخمة لنكون -جميعا- مقبلين على مزيد من غياب الخصوصية الشخصية، والتداخل الاجتماعي الذي سيحل محل مفهوم التواصل الاجتماعي؛ لتزداد الفردية وتصبح هي السائدة .
الواقع والنموذج
هذا ما تسعى مجموعات المصالح الدولية من أجل تحقيقه.. ولا شك أنها تواجه مقاومة من كافة المحافظين وداعمي الدولة القومية ومناهضي سطوة هذا النموذج.
وهذا بالطبع له مؤشرات علينا أن نتعامل معها بذكاء ووعى؛ بعيدا عن التخندق والرفض غير المبرر وغير المفيد.. والذى يأتي تحت دعاوى التمسك بالثوابت والتقاليد والمستقر في عالم لا يعرف الثبات ولا الاستقرار.
كل هذا لا يأتي صدفة فما يشهده العالم الآن هو نتاج طبيعي لتفاعلات اقتصادية شديدة التعقيد تسارعت إلى حد مخيف في عالم ما بعد الرأسمالية التقليدية.. وعالم ما بعد قطبية الدول؛ لنصبح في عالم الاقتصاد العابر للمحيطات الذى لا يعرف عن الدول سوى أنها أسواق ولا يرى في الحكومات سوى أجهزة تعمل لتسهيل مصالح تلك الشركات والتجمعات الاقتصادية.
فهل نحن مقبلون على عالم تغيب فيه الدولة ذاتها؟؟
في ظل هذا.. يبقى العرب منشغلين بأمور بعيدة تماما عن صناعة العقل البشرى، بينما تغزو فنون شرق آسيا الوعي العام وتخترق ثقافتنا، وأساليب حياتنا بصورة أصبحت تحتل معها مكانة خاصَّة؛ لدى الأجيال الحالية من عمر خمس سنوات حتى سن الثلاثين تقريبا.
بين عدوية والمهرجانات
خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تزايد الجدل في مصر حول أشكال الفنون التي تزايدت بإطراد.. خاصَّة في المناطق والأحياء العشوائية التي انتشرت في مصر في العقود الأخيرة من القرن العشرين.. وشكلت واقعا شديد الخطورة على استقرار الطبقات الأكثر ثراءً ما دفعها للخروج من زحام القاهرة وتوتراتها وسيطرة ثقافة “الهامش” على تفاصيل المدينة العريقة؛ فلم يتمكن الأثرياء الجدد الذين شكَّلوا ثرواتهم من علاقات وثيقة بنظام الحكم من خلال إعفاءات وتسهيلات ومنح وقروض من البنوك وتخصيص لأراضي الدولة وغيرها من الوسائل التي تبتعد تماما عن أي اقتصاد حقيقي –خرج هؤلاء من العاصمة، وسكنوا ما يعرف بـ “القاهرة الجديدة” وتركوا المدينة المزدحمة لثقافة “التو كتوك” وفنون “الميكروباص” ووجهوا النقد لتلك الظواهر التي أفسدت عليهم حياتهم، بينما انشغلوا هم بحفلات “عمرو دياب” وجلسات توعية “عمرو خالد” وصالونات “الروتاري” وغيرها من مظاهر طبقة أرستقراطية ذات مواصفات “مارينيه”*.
لم يكن هذا السياق حديثا على المجتمع المصري، فقد عرفه في مراحل متعددة وأشكال مختلفة لكن المنهج واحد والسلوك هو ذاته.. فعقب نكسة 1967، انطلقت أصوات “أحمد عدوية” و”كتكوت الأمير” لتمثل معادلا موضعيا للانكسار؛ وغاب “صلاح جاهين” في أجواء عوالم “خلي بالك من زوزو” وتعددت تنويعات الهزيمة وسكنت كل العيون بجوار دموع متحجرة حبيسة.
حتى بعد الانتصار العظيم في أكتوبر؛ ظلت غيوم النكسة تلوح في بعض التفاصيل، لأن الحلم قد تبدد في غبار النكسة، ولم يعد ممكنا استعادته مجددا.
بعد عقود من التعامل مع الظاهرة -عدوية- التي خرجت طبيعية جدا وعفوية للغاية.. وكانت تمثل لدى المحافظين معادلا للسوقية والإسفاف، ولم ينج الأديب الكبير “نجيب محفوظ” من النقد اللاذع حين عبَّر عن إعجابه بصوت وغناء “أحمد عدوية” بل أنَّ الموسيقار “بليغ حمدي” قد ناله هجوم عنيف وقاسى عندما أقدم على التلحين لعدوية.
كان “عدوية” يكسب أرضا جديدة كل يوم، خاصَّة بين الأوساط الشعبية؛ لكنَّ المساحة التي كان يحتلها لدى أثرياء الانفتاح كانت مصدر قوته ونفوذه ورأسماله الأكبر.. ومع الوقت تحوَّل “عدوية” إلى أحد كلاسيكيات الأغنية الشعبية!.
هذا ما نعنيه بأنَّ الثقافة الشعبية قد تتغير مع الزمن، ورغم ما بها من ثوابت تتعلق بالتراث والموروث إلا أنَّ عوامل كثيرة قد تساهم في تغيرات تتعلق بتفسير التراث ورؤية الأجيال الجديدة للثوابت.
جيل عابر للحدود
الفن هنا هو مدخل لقراءة الظواهر وليس العكس.
فقد يحاول البعض استخدام نظرية “سرير بروكرست ” في تحليل علاقة الفن بالواقع بمعنى أنَّه يلوى عنق الواقع؛ لكى يثبت رؤية للفن وهذا لن يفيد في التوصل لنتائج واقعية ومفيدة في التعامل مع الظواهر.
عقب ثورات الربيع العربي أصبحنا أمام جيل مختلف جدا، لم يبذل معظمنا جهدا كافيا لقراءته أو فهمه؛ لكى ندرك أنَّ ثقافته الشعبية -بالقطع- قد تغيرت, وأنَّ المجتمع مقبلٌ على متغير جذري في رؤاه للعالم بل ولنا أيضا.
جيل –في معظمه– يعيش حياة افتراضية حيث تراجع دور الإعلام الرسمي أو التقليدي في تكوين وعيه وصناعة وجدانه.
فهو جيل يرى العالم والأشياء والأفكار من خلال جهاز الهاتف المحمول. ولا تمثل اللغة العربية له اللغة الأولى أو الرئيسة.. فهو أكثر انفتاحا على ثقافات العالم بكل لغاتها وأطوارها، فلا تحدثه إذن عن مخاطر “موسيقى المهرجانات” على الذوق العام؛ لأنَّه تجاوز هذا، كما سيتجاوز ما هو آتٍ بأسرع مما نتخيل.
فنحن أمام جيل يتابع بحماس، ويتأثر بقوة بما تقدم اليابان من فنون “أنيميشن”. وما تقدمه كوريا من موسيقى من خلال فريق (بي تي إس) وغير هذا الكثير من نماذج فنيه تؤثر في شبابنا، وتشكل وعيه بالإضافة إلى ما تقدمه أمريكا والغرب الأوربي.. وقد انقطعت علاقته بتراث الدراما العربية حتى المتميز منها.
أما نحن فمنشغلون بمعارك ثانوية، بين الجديد والقديم والأصالة والمعاصرة وصراع عضوية نقابة الموسيقيين.. بينما الأجيال الجديدة تتابع هذا الأمر باستخفاف وتسمع ما تريد وما يستهويها.
فلنطرح إذن تلك الأسئلة أولا
لنبتعد عن المنافسة في الحصول على إجابات؛ تنهى المبارزة الفكرية بالضربة القاضية لأي طرف ولننشغل أكثر بطرح الأسئلة.
مثل، هل نحن نعرف أبناءنا جيدا؟
هل تدرك الأجيال الجديدة مفهوم الثقافة الشعبية ومكوناتها؟
لماذا حقق كاتب مثل “أحمد خالد توفيق” نجاحا بين قطاعات الشباب في مرحلة ما ؟ ولماذا يقبل الشباب على سينما “مروان حامد” و”أحمد مراد”؟
هل لأنَّهم أدركوا “شفرة” التعامل مع المتغير الجديد في زمن العولمة، وهو تغييب القيمة والاهتمام بالشكل على حساب أي رسالة أو مضمون؟
أم أنَّ ما يقدمونه من مضامين يشبه كثيرا ما يتابعه شبابنا عبر منصات الإنترنت.
هل يدرك شبابنا اللغة باعتبارها حامل للثقافة وأحد مكونات الهوية؟ أم أن ذلك النفوذ الطاغي للغات الأجنبية على حياتنا أحد مصادر الخطر؟
لكن هل بمقدور أحد أن يمنع شيئا؟ ربما هذا السؤال هو الوحيد الذى نملك له إجابة قاطعة وهى: بالطبع لا.
لا أحد يمكنه منع شيء أو حجب شيء أو إخفاء شيء.
فقد نملك دعم قدرات الإبداع لدي الأجيال الجديدة، وتقديم ثقافتنا الشعبية لهم وللعالم في إطار مناسب للحظة ومواكب للعصر ومعبر عن رؤى الشباب ليس عن رؤيتنا نحن الآباء.
إن حدث ذلك ستصبح الثقافة الشعبية –أي المكونات التي نسعى للحفاظ عليها– هي المتن وما عدى ذلك هو الهامش.
*نسبة إلى قرية مارينا بالساحل الشمالي.