(1)
“عاش اللي شنق ريا.. عاش اللي شنق سكينة”
في الساعات الأولى من صباح يوم الأربعاء الموافق 21 ديسمبر عام 1921، وقبل شروق الشمس بدقائق قليلة، رُفِعَت الراية السوداء على سارية سجن الحضرة إعلانا عن حكم بالإعدام سيتم تنفيذه.
في نفس اللحظة كان عدد النساء المحتشدات أمام باب سجن الحضرة يزداد، معظمهن من نساء منطقة “جنينة العيوني” بحي اللبان، ينتظرن بترقب شيئا ما، وتبدو على وجوهن علامات الغضب العارم.
من قلب تلك الدائرة المشحونة بالغضب والترقب، تسللت تلك السكندرية العشرينية البدينة من بين صفوف المتظاهرات، وذهبت لعسكري السجن الواقف على بابه الرئيس، وسألته وهي تعطيه بعضا من الرشوة في شكل كعك حلو المذاق، أملا في معلومة أو إجابة عن السؤال الذي شغلها وباقي المحتشدات.
“هُمَّا رفعوا الرايا السودا ليه يا خويا؟”.
“هيعدموهم يا ست”.
“هيعدموهم بجد يا خويا ولا كلام أونطة؟”.
ينظر لها الحارس ولا يرد، حاول أن يوحي لها بنظرته الساخرة أنَّ سؤالها لا يستحق عناء الرد من فرط سذاجته، لكنه في حقيقة الأمر، كان مثلها تماما، لا يعرف ما الذي سوف يحدث بعد دقائق، هل سيعدمون فعلا؟ هل تغلق -أخيرا- القضية المفتوحة منذ أكثر من عام، والتي نسجت حولها أساطير “الدنيا والأخرة”؟ هل ما حدث في مدينتهم قبل شهور حقيقة فعلا أم خيال؟.. عاد العسكري بذاكرته إلى الخلف؛ ليتذكر كيف بدأ كل شيء.
(2)
في أغسطس عام 1914، نشبت الحرب العالمية الأولى، بين القوى العظمى العالمية في تحالفين متعارضين، قوات “الحلفاء” متمثلة في بريطانيا العظمى وإيرلندا وفرنسا والإمبراطورية الروسية، في مواجهة دول “المركز” متمثلة في الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية، والدولة العثمانية، ومملكة بلغاريا.
كانت مصر قبل إعلان الحرب تتبع الخلافة العثمانية، وتحتلها بريطانيا منذ أكثر من 32 عاما، بذريعة تطوير وتأهيل شعبها ليحكم نفسه بنفسه، لكن مع بداية الحرب، كشفت بريطانيا عن وجهها الحقيقي، وفرضت حمايتها على البلاد رسميا، وأنهت تبعية مصر للخلافة العثمانية.
حَطَّ الركود على أسواق القطن في مصر؛ نتيجة للارتباك الذي أعقبَ الإعلان عن الحرب في الطرق البحرية التي كانت تنقله للسوق العالمية.. كان القطن آنذاك هو المحصول الرئيس الذي يعتمد عليه الاقتصاد المصري، وترتبط به أمور وأوضاع داخلية كثيرة، من فرص العمل إلى الدخل القومي للبلاد، وجاءت ضربة الحرب لِتَهُزَّ القطن هزَّة اقتصادية عنيفة، أدَّت إلى ركود شامل في الأسواق، وسحب الودائع من البنوك، وتوقف قروض المزارعين تماما، بالإضافة إلى تبعاتٍ أخرى لا تقل خطورةً.
أدَّت الحرب -أيضا- إلى اضطراب كبير في المواصلات، وتوقف وصول المواد الغذائية؛ التي كانت مصر تستوردها من الخارج مقابل تصدير قطنها، كما توقفت واردات مصر من الدول التي كانت بريطانيا العظمى تعاديها في الحرب، فاختفت في النهاية أكثر من (20) سلعةٍ ضروريةٍ من الأسواق، وكذلك اختفت بدائلها المحلية الأقل جودة، التي أصبحت في متناول الأغنياء فقط، ولعب التجار الأجانب دورا قذرا في تخزين السلع واحتكار بيعها.. فكانت المجاعة، ووَقْفُ الحال، وانهيار الفقراء تحت وطأة الجوع، حتى المستورين لم يسلموا، وتهددوا بشكل كبير.
ورغم أنَّ الأوضاع في مصر قبل الحرب العالمية الأولى لم تكن على ما يرام، وكان الفقر والفقراء في اِطِّرادٍ مستمر، والنهب والسلب لخير البلاد لا يتوقف منذ الاحتلال البريطاني عام 1882، إلا أنَّ سنوات الحرب كانت الأشد والأكثر قسوة على الإطلاق.
فقبل الحرب كانت البلاد على حافة المجاعة، وبعدها سقطت في هاوية الجوع لمدة 4 أو 5 سنوات متتالية، ولم تنكشف الغُمَّة نوعا ما، إلا عندما وضعت الحرب أوزارها في 1918، وقامت ثورة الكرامة في 1919، لتبث الروح من جديد في مجتمع كان قد تفكَّك وتحللَّ طوال 37 عاما.
لم يكن الارتباك الذي حدث في أوضاع مصر الداخلية، أثناء الحرب العالمية الأولى وما بعدها؛ مقصورا على الظروف الاقتصادية فقط، بل امتد إلى وضعها الدولي ونظامها السياسي، الذي تحوَّل من “خديوية” ذات استقلال ذاتي يحكمها الخديوي عباس حلمي الثاني؛ نيابة عن السلطان العثماني، إلى سلطنة تحت الحماية البريطانية يحكمها عمه السلطان حسين كامل.
على إثر ذلك، واجهت الحركة الوطنية حصارا كاملا، وخَفُتَ صوتها الذي كان يطالب- قبل الحرب- بجلاء الاحتلال، وبإصدار دستور يتيح للأمة أن تحكمَ نفسها بنفسها، فهاجر معظم زعماء الحزب الوطني إلى تركيا أو أوروبا، وحالت الأحكام العرفية والمعتقلات المفتوحة بين الذين ظلوا منهم داخل البلاد وأي نشاط وطني، وتوقفت معظم الصحف الوطنية عن الصدور، بعد تبينها أنَّ الموضوع الوحيد المسموح لها نشره أو الكتابة عنه من قبل الرقابة العسكرية البريطانية هو التنويه والاحتفاء بانتصارات الحلفاء والحطُّ من شأن أعدائهم.
لم يواجه المصريون وقتها الجوع والقمع والاعتقال فقط، بل سُرِقَت محاصيلهم ومواشيهم وممتلكاتهم لتموين الجيش البريطاني أثناء الحرب، واختطفوا من البيوت في القرى؛ لجمع الأنفار المطلوبين لـ “فيلق” الشغل في السلطة، أي العمل لدى الجيش البريطاني، وخدمة الجنود في مناطق الحرب، ومن ذهبوا قسرا لم يعودوا، ومن عاد منهم صار مسخًا يتنفس حقدا ووحشية.
أصبح المصريون بلا قادةٍ أو زعماءَ، بلا أملٍ، بلا حقوقٍ، بلا صحفٍ، بلا وطنٍ تقريبا، بجانب هذا كله، أفقدهم الجوع توازنهم، ونهشت الأوبئة -التي انتشرت وقتها- أجسادهم.
استسلم المصريون لإحساسهم بأنَّهم يعيشون في بلد لا حول له ولا قوة، وهبط إحساسهم بكرامتهم القومية والشخصية إلى حدوده الدنيا؛ فتفككت اللُّحْمَة التي كانت تربط كيان المجتمع وتعطيه شيئا من التماسك، وتحلَّل نظامه الخلقي، وأصبح الهم الأساسي لكل فرد أن يحافظ على حياته، وحياة من يمتون له بصلة، وأن يدبر لهم بأية وسيلة، مشروعة أو غير مشروعة، احتياجاتهم الأساسية، فوصل الانحلال الخلقي إلى مداه، وطفت على السطح في سنوات الحرب وأعقابها ظواهر اجتماعية وإجرامية لم تكن معروفة من قبل، على نطاق واسع، كالتجارة في أعراض الغِلْمَان، واستغلالهم في السرقة والجنس، وانتشرت مظاهر العنف والفساد والجريمة بكافَّة أنواعها، وفقدت الضوابط الأخلاقية العامة تأثيرها، فانهار المجتمع كليا.
من رحم تلك الظروف المرعبة، خرجت أكثر قصص الجريمة رعبا ووحشية وشهرة أيضا، في تاريخ مصر الحديث، أو ربما في تاريخها كله.
قضية ريا وسكينة.
(3)
في بيت فقير يملكه المدعو “علي ابن همام” بقرية “الكلح” في أقصى الصعيد، ولدت “ريَّا” سنة 1875، على وجه التقريب؛ بعد عامين بالضبط من ميلاد شقيقها الأكبر “أبو العلا”.
في غضون سنوات قليلة، رحلت الأسرة إلى سوهاج بوسط الصعيد؛ هربا من الفقر والجوع الذي ضرب العديد من المحافظات المصرية بعد الاحتلال البريطاني، وأمضت “ريَّا” هناك جانبا من طفولتها، ثم انتقلت الأسرة مرة أخرى -في تاريخ غير معروف- إلى مسقط رأس الأم في بني سويف، وهناك وُلدت “سكينة” عام 1885.
لم يترك الفقر أو سوء الحظ، أو بالأحرى الاثنين معا، الأسرة في حالها، بل لاحقهم مجددا في بني سويف، ومات الأب، ليترك الأم وحيدة بثلاثة أبناء، قبل أن تقفز بهم -في تاريخ غير محدد- من شمال الصعيد إلى كفر الزيات في وسط الدلتا، حيث محالج القطن وفرص العمل؛ ليقيموا بها سنواتٍ طويلة.
في كفر الزيات، تزوجت “ريَّا” من زوجها الأول، وحملت منه ثم ترمَّلت، قبل أن تضع مولودها، وعندما جاء “حسب الله” الشقيق الأصغر لزوجها الأول، من الإسكندرية، حيث يعمل بوابا و”جناينيا” في حديقة الخواجة “إستاورو”، ليواسيها ويهتم بشئونها خلال إجازته الربع سنوية، أقنعه المقربون بالزواج منها؛ ليراعيها وابنها الرضيع إكراما لأخيه المُتَوفَّى، فتزوجها في عام 1909، وكان في العشرين من عمره بينما هي تكبره بـ (14) سنة على الأقل.
بعد عام واحد فقط مات ابنها الأول من زوجها الأول، وفي نهاية 1910، أنجبت من حسب الله ابنتهما الوحيدة “بديعة”.
في كفر الزيات -أيضا- تزوَّجت “سكينة” أول مرة وطُلِّقت، ثم أحبَّت وهربت مع حبيبها إلى الإسكندرية عام 1913، ثم تبعتها “ريَّا” بعدها بثلاث سنوات إلى الإسكندرية، بينما ظلَّت الأم والشقيق الأكبر “أبو العلا” في كفر الزيات.
لم يمر عام على وصول “ريَّا” وزوجها “حسب الله” إلى الإسكندرية، حتى جاءت الأم والشقيق “أبو العلا” من كفر الزيات للإسكندرية، هربا من الجوع مجددا، واجتمعوا جميعا في بيت “سكينة” التي كانت قد احترفت البغاء، وصارت تتحصل على أموال معقولة من عملها؛ لتنفق الأخت الصغرى على الجميع، بما فيهم “حسب الله” زوج أختها، الذي فشل كأخيها في العثور على وظيفة براتب يكفي الطعام والشراب على الأقل.
بعد قليل، كانت كل السُّبُل إلى عمل مُجْزٍ ومنتظم قد سُدَّت في وجهي رَجُلَي الأسرة “حسب الله” و”أبو العلا” وتزامن ذلك مع تمرد “سكينة” وتخليها عن المسئولية الثقيلة الملقاة على عاتقها، ورفضها الإنفاق على باقي أفراد العائلة، فاتخذ الجميع قرارا بالسير في طريق العنف والبغاء كي لا يموتوا جوعا… وتلك كانت بداية النهاية.