رؤى

“رودولف بيترز”.. كيف أسكت الغرب بالشريعة والقانون؟

يرقد الآن في حالة حرجة متأثرا بمضاعفات سرطان الرئة؛ في غرفة العناية المركزة بأحد مشافي “أمستر دام” دكتور “رودولف بيترز” وهو رجل قدّم الكثير من العمل الدَّءوب المخلص، والجهد العلمي المتجرد في دراسة الشريعة الإسلامية، وتدريسها في جامعات أوروبا وأمريكا؛ حتى صار من أفضل من طرقوا هذا المجال عبر تاريخه الطويل، وقد تجاوزت مؤلفات “عالِم الإسلام” كما يطلقون عليه في هولندا-المئة كتابٍ وبحثٍ علمي حول الشريعة الإسلامية وتاريخها، وتحليل مضامينها ومناقشة قضاياها، وتفنيد دعاوى المنتقصين من قدرها، ومن ألحقوا بها ما ليس منها؛ سواء أكان ذلك بسبب الجهل وقلة الدراية أو كان لغرض التماهي مع موجة “الإسلاموفوبيا” التي اجتاحت الغرب، وجرفت معها الكثيرين من الأكاديميين، في الشرق والغرب.

“بيترز” الذي اعتبره البعض رائدا للشريعة والقانون في مصر التي أُغْرِم بها؛ بالإضافة إلى محبة عميقة يُكنُّها الرجل للعرب والمسلمين –لم يتردد يوما في الدفاع عما يعتقد بصحته، من براءة الإسلام وشريعته من كل الجرائم التي وقعت، ونسبتها الآلة الإعلامية الغربية للدين الحنيف.. ولأنَّه يتمتع بمصداقية كبيرة في العديد من الدوائر الأكاديمية في أوروبا وأمريكا.. فقد مَثُل الرجل؛ بوصفه خبيرا في الشريعة الإسلامية أمام المحاكم في عدد من قضايا الإرهاب.. منها قضية تفجيرات نيويورك كـ “خبير شاهد” للدفاع عن المتهم “عمر عبد الرحمن”.

“أريد أن أكونَ صوتا مضادا لهذا الذُّعر الذي يحاولون نشره في المجتمع”. قالها “رودوف” ذاتَ يومٍ عندما اتَّهمه البعض بأنَّ رؤيته للدين الإسلامي تؤسس لـ “دجمائية” تحول بينه والخضوع للجدل العقلي، إلا أنَّه رد بأنَّ الأمر ليس كذلك، فمعظم ما يُطرح بهذا الشأن ليس إلا جدالاتٍ عقيمة لا نصيب لها من القيمة العلمية، وهو أمر يجب التوقف عنه لمصلحة كل الأطراف.

عودة إلى البدايات

لقد انجذب “رودولف” طفل العاشرة بشكل كبير للغة العربية، فور أن وقعت عيناه الصغيرتان على أحد الكتب العربية.. وبمجرد أن خرج من المدرسة بعد انقضاء اليوم الدراسي؛ كان “رودولف” يبحث في كل المكتبات التي يعرفها عن كتاب قواعد لتعلم الأبجدية العربية.. وجد الطفل كنزه، بعد لأيٍ فانكبَّ عليه يدرسه بكل ما يستطيع أن يتصور المرء من شغف.

في السادسة عشرة من عمره؛ كان “بيترز” يهبط سُلم الطائرة في مطار “كازبلانكا” في المغرب بمفرده. عند عودته إلى موطنه في نهاية الإجازة، قرر “رودولف” أن يجوب الشرق الأوسط في الصيف المقبل، جمع من أجل هذه المهمة (300) “جيلدر” لم ينفقها كلها خلال ثلاثة أشهر قضاها بين طهران ودمشق.. كان صارما مع نفسه. “جيلدر” ونصف فقط لليوم الواحد بما في ذلك أجرة الفندق!.

عندما عاد الشاب النابه إلى “أمستردام” كان لديه الكثير من الحكايات؛ لكنه لم يبح إلا بالقليل جدا.. هكذا أخبر أخوه “ألفونس” الجميع: “تحدَّث “رودولف” بالكاد عن بعض أسفاره في المنزل.. ثم غلبته انطوائيته، وانشغاله الفكري الدائم، فلاذ بالصمت، ونَأَى بنفسه، كما كان يفعل دائما حين تحدث الجدالات بين الإخوة.. في هذه الحالة يصير “رودولف” بعيد المنال”.

لم يكن هناك ثمة شك أنَّ الفتى سيتجه لدراسة اللغة العربية وثقافاتها في جامعة “أمستردام”. رفض الوالدان بشدة، وتوتَّر الموقف.. المحبة العميقة التي كان “رودولف” يكنُّها لوالديه حالت دون تحقيق رغبته؛ فاختار دراسة القانون؛ عازما على المٌضي قدما في طريقه عبر هذا السبيل الأطول؛ إرضاء لوالديه.

مكانة “رودولف” الابن الأكبر في الأسرة ارتكزت على سمات شخصية ربما تبدو متناقضة، فهو جاد ويُعتمد عليه ويتحمل المسئولية مع والديه، وهو في نفس الوقت انطوائي يفضل العُزلة، ويقضي الساعات الطوال في غرفته قارئا وباحثا ومتأملا.. له قلب يفيض بالمحبة والعطف والحنان على الجميع دون أن تلحظ ذلك في حديثه، أو أن ترى شبح دمعة يخايل عينيه.. يقول ألفونس:” لم أرَ دموع أخي إلا بعد وفاة ابنته “ساندرين” بسبب “اللوكيميا” بعد وفاة والدتها بسرطان الثدي بوقت قليل”.. سقطت الدموع بغزارة، تعلنُ عن قلب منفطر بالحزن، اختبأ في عقل العالِم المدقق لسنين.. “ربما كان هناك تلازما ما بين الحكمة وإخفاء المشاعر” هكذا أضاف “ألفونس”.

رودولف بيترز
رودولف بيترز

في عام 1979، تقدم “بيترز” لمناقشة أطروحته للدكتوراه التي ترجمها إلى العربية، ونُشرت في كتاب بعنوان “الإسلام والاستعمار: عقيدة الجهاد في التاريخ الحديث” في القاهرة عام 1985.  وفيها طرح “رودولف” رؤيته حول الجهاد الذي وصل -حسب رأيه- إلى طريق مسدود، وأنَّه على المجتمعات العربية إيجاد صيغة لاستيعاب كل أطيافها، بعيدا عن أوهام الديمقراطية الغربية، إذ يرى أنَّ إنتاج نسخة عربية من الديمقراطية، وفقَ شروط ومحددات خاصة سيكون أكثر نجاعة.

هجوم ضار وردود مبتكرة

لم ينكر “بيترز” مخاطر الإرهاب المرتكز على منظومة من التأويلات والأفكار الدينية الإسلامية؛ لكنَّه يرى أنَّ الطريقة التي يتعامل بها السياسيون والسلطات مع التطرف؛ لا تقلل من الخطر بل تزيده، لذلك يرى أن من واجبه إعطاء بيان دقيق عن الإسلام.. تلك الآراء وغيرها جعلته هدفا للهجوم الدائم من قبل البعض في وسائل الإعلام؛ وفق تفسيرات شتَّى.. يقول خبير الشرق الأوسط “بيرتوس هندريكس” وهو قريب من “رودولف” منذ أربعة عقود في برنامج يبث من إذاعة هولندا العالمية: “إنَّ “رودولف بيترز” لديه معرفة كبيرة بالإسلام والعالم العربي؛ لدرجة أنَّه لا يبكي مع البقية!”.. ويضيف “لقد تشاركنا معا في إنشاء لجنة فلسطين.. ومازال “بيترز” رغم كل ذلك يحافظ على مسافة حاسمة مع العرب ونظامهم القانوني، كما أنَّه علماني للغاية، ويحب الحياة الجيدة كثيرا.. لذلك هو لا يتعاطف مع المذهب “الكالفيني” في الإسلام.. وأحيانا يلقي النكات عن الكل بما فيهم العرب”.

ويرد “بيترز” على الهجوم المستمر عليه بطرق مبتكرة ولطيفة.. فعندما يروَّج اليمين الهولندي لوجوب التحدث باللغة الهولندية فقط في الشارع؛ فإنَّ الرجل يختار هو وزميله في القسم “ويرجانج” أن يتحدثا بالعربية في الشارع وفي الأماكن العامة.

وفي معرض تشريحه لواقع المسلمين في هولندا يقول “رودولف بيترز”: “إنَّ مشاكل الهوية بين الشباب المسلم هنا، يزيدها “الهجوم على دينهم” فتسرع بذلك وتيرة أسلمتهم. ثم يتخذون من الحجاب والنقاب واللحى الطويلة والسراويل القصيرة دروعا وأسلحة.. الأسلمة إذن هي رد فعل مضاد للاستقطاب في المجتمع، بالإضافة إلى اللهجة القاسية في النقاش. يصعب على الأقلية الاندماج مع الأغلبية دون التنازل عن هويتها. وهذا بدوره يثير مقاومة من “السكان الأصليين” وتؤدي مقاومتهم لاحقا إلى رد فعل مضاد. لا أقصد أنَّ الحجاب هو تعبير-فقط- عن رد فعل مضاد، لكنه دليل على الاستقطاب.. ثم يتساءل لماذا لا توجَّه هذه الدعاية للأصول الإثنية لهؤلاء مثلا.. لماذا يستهدف الإسلام دائما؟ أنا أقول لك أنَّه من أجل ذلك يصبح الإسلام -وفق تصورات معينة- هو ملجأ هؤلاء الشباب الوحيد”.

هوامش:

1- ولد “رودولف بيترز” في 16 سبتمبر 1943 في مدينة “لاهاي” بهولاندا.

2- درس القانون واللغة العربية واللغة التركية في جامعتي “أمستردام” و”ليدين”.

3- نال درجة الدكتوراه عن أطروحته “الإسلام والاستعمار: عقيدة الجهاد في التاريخ الحديث” عام 1979.

4- عمل مديرا للمعهد الهولندي للآثار والدراسات العربية بالقاهرة، في الفترة من1987:1982.

5- عُيِّن أستاذا مساعدا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في الفترة من1987:1983.

6- عُيِّن أستاذا للشريعة الإسلامية، بجامعة ولاية أوهايو من 1992 حتى الآن.

7- يتقن “بيترز” ثمان لغات، وله أكثر من مئة مؤلف.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock