انقلبت الإسكندرية -حرفيا- بعد العثور على الجثة، في غرفة “سكينة” ببيت “الجمَّال” وكانت تلك الجثة هي الثانية التي يُعثَر عليها في دائرة قسم شرطة اللبان، في أقل من شهرين، كانت الأولى لضحية من ضحايا العصابة -أيضا- اضطرتهم الظروف لإلقائها في خرابة بشارع “الواسطي” بعدما امتلأت غرفتهم بالجثث، وتعثَّر فيها أحدهم وهو يقضي حاجته، لكن التحقيقات حولها لم تسفر عن شيء.
جمع البوليس كل سُكَّان بيت “الجمَّال” ومعهم “سكينة” وبدأ التحقيق، لكن ضابط القسم وقعَ في خطأ كبير، وحبس المشتبه بهم في مكان واحد، وهو ما أتاح لـ “سكينة” التأثير على الأخرين، بطريقة غير مباشرة، لتحدث تضاربا في الأقوال، وتفلت من الجريمة، وكانت على وشك أن تنجح في ذلك.
عرفت “ريَّا” وباقي العصابة في الخارج بما حدث لـ”سكينة” ووصلهم من الجيران أنَّ البوليس فتَّش غرفتها بعد القبض عليها، وختمها بالشمع الأحمر، وهنا تسلَّل الرعب للجميع، فكانت ثقتهم في قدرة “سكينة” على الصمود تكاد تكون منعدمة، لذا؛ اتخذت العصابة قرارا بتفتيش غرفة المقبرة الرئيسة، للتخلص من كل أثر قد يدفع الشرطة للشك في أمرهم، وتعطير جوها بالبخور للتغلب على أي رائحة قد تدعو للحفر في أرضها.
تفقَّدَ “حسب الله” المقبرة، التي كان مدخلها تحت “السَّنْدَرَة” بالغرفة الواسعة، وقام بتثبيت البلاطات المخلخلة بالجبس لتبدو مستوية مع باقي الأرض، ولا تظهر آثار الحفر كي لا تثير ريبة أحد.
في نفس اللحظة بقسم اللبان، الذي اختارته النيابة مقرا للتحقيقات، كانت “سكينة” قد تورَّطت في قضية أخرى -إلى جانب مسألة الجثة- تتعلق بسيدة تُدعى فردوس -إحدى الضحايا- اختفت منذ فترة، وكشفت التحقيقات أنَّها كانت بصحبة “سكينة” قبل اختفائها، ثم عثروا على ملابسها في غرفة “سكينة” لكن رغم ذلك، كانت “سكينة” شديدة التماسك، ونجحت في مراوغة المحققين، ودرء الشبهات عنها، وكادت أن تنجح في الإفلات من الجريمة الثانية أيضا.
“حسب الله” كان يتوقع أنَّ “سكينة” سوف تعترف عليهم في أي لحظة، سواء بسبب الضغط الشديد الذي يمارس عليها داخل القسم، أو الضغط النفسي الناتج عن حرمانها من الخمر التي أدمنتها، ونقل تقديراته تلك للموقف إلى “ريَّا” التي كانت أكثر الجميع إحساسا بالخطر، فاستقبلت شكوك زوجها كحقيقة لا تقبل المراجعة، وأصبحت من لحظتها تعتبر السقوط في قبضة الأمن مسألة وقت.
لعل ذاك الشعور الذي سيطر على “ريَّا كان السبب الحقيقي في السقوط، وليس “سكينة” كما توقع الجميع، والتي لم تشر أبدا إلى اسم “ريَّا” أو “حسب الله” خلال التحقيق معها في قسم اللبان.
دفع اكتشاف الجثة في بيت “الجمَّال” كثيرين وكثيرات ممن يعرفون “ريَّا” و”سكينة” إلى تذكر وقائع اختفاء النساء اللواتي كُنَّ على علاقة بهما، ووصلت المناقشات والتكهنات للمخبرين والعسس في الحي، ونقلوها كما هي لـ “الأومباشي” أحمد البرقي، فقرر فتح قضايا النساء اللواتي تقدم أقاربهن ببلاغات عن غيابهن؛ لتحديد صاحبة الجثة التي عثر عليها بغرفة “سكينة” ولمعرفة مصير الأخريات.
بدأ “الأومباشي” تحرياته بملف اختفاء “نظلة أبو الليل”، وقادته ظروف اختفائها إلى “ريَّا” شقيقة “سكينة” وآخر من كان بصحبة “نظلة” وفق شهود العيان، فذهب إلى غرفة “ريَّا” وأدهشته في البداية رائحة البخور، وبمجرد أن سألها عن “نظلة أبو الليل” أيقنت أنَّ “سكينة” قد اعترفت عليها، فبدأت تكرر الأسطوانة التي حفَّظها إياها “حسب الله” الذي كان في ذلك الوقت في بيت زوجته الجديدة.
- “أنا معرفش حاجة.. الرجالة اللي كانوا بيأجروا الأوضة كانوا بيجيبوا نسوانهم معاهم.. وبعدين يختفوا”.
ظل “الأومباشي” للخامسة مساء يفتش الغرفة لكن لم يعثر على شيء، وانضم إليه فيما بعد “اليوزباشي” إبراهيم حمدي.
- “مين الرجالة دول”؟
- “عرابي حسان” و”أحمد الجدر”.
كان “حسب الله” قد أوصاها أن تقول هذين الاسمين تحديدًا في حال مَارَسَ الضابط ضغوطه عليها.
أمر “اليوزباشي” بالقبض على “عرابي” و”الجدر” وكاد أن يرحل ومعه “الأومباشي” أحمد.. لكنَّه قرَّر على ما يبدو أن يحاول مرة أخرى وأخيرة.
نظر في عيناها بحزم وصرامة، قبل أن يسألها:
- “فين نظلة يا ريا”؟
بهدوء وثبات شديدين وبلهجة أقرب للفحيح وبنظرة أرعبت الضابط، قالت:
- عندك تحت “السندرة”.
لم يصدق “إبراهيم حمدي” ما قالته، ظنَّها تسخر منه، وتتحداه، لكنه ما كاد ينحني ليلقي نظرة على ما يقع أسفل “السندرة” حتى شم رائحة عفونة تغلبت على رائحة البخور، ولاحظ البلاط المثبت حديثًا، فخلعه، لتتكثف رائحة العفونة، وما كاد نائب المأمور ينبش في التراب أسفل البلاط بقطعة خشب، حتى ظهر جزء من جلباب، أعقبه ظهور جثة.
في أقل من نصف ساعة، كان الخبر قد طار إلى المحافظة، ثم “الحكمدارية” وازدحمت باحة البيت بالضباط الكبار، وجاء “مستر وايت” رئيس قلم الضبط شخصيا، وبدأ الحفر، وتوالى إخراج الجثث.
لكن لماذا اعترفت “ريَّا” بمكان الجثة بكل هذا الهدوء والثبات للضابط الذي كان على وشك الرحيل؟ ما سر لهجتها الغريبة ونظرتها الأغرب؟
لا أحد يعرف على الإطلاق.
(—)
كانت التحقيقات مع العصابة مرهقة للغاية، وأخذت وقتًا طويلًا أكثر من المعتاد، ذلك لأنَّ دائرة الاشتباه اتسعت جدا في البداية، وقُبض على (30) شخص وردت أسماؤهم في التحقيق الأولي بطريقة أو بأخري، ما أدى لتشعُّب التحقيقات.
كما أنَّ الستة اتفقوا من البداية على الإنكار وذكر روايات متناقضة لتضليل المحققين، ونجحوا في ذلك بالفعل لفترة من الزمن، قبل أن تعترف “ريَّا” بكل شيء، لتتوالى الاعترافات الأخرى.
كانت جهات التحقيق، ثم المحكمة فيما بعد، في مأزق حرج وصعب للغاية، أوراق القضية وصلت إلى 1500 صفحة، بينما الضغوط من كل اتجاه، الدولة تريد للقصة أن تنتهي بأسرع وقت، الغليان في الشارع يتصاعد مع مطالبات شعبية بالإعدام، ليرتدع كل ما تسول له نفسه فعل ذلك مجددا.
لم تهدأ الأمور نسبيا إلا في مايو 1921، عندما أصدرت المحكمة حكم أول درجة بالإعدام للستة متهمين الرئيسيين، وحبس الصائغ الذي اشترى منهم مجوهرات الضحايا ست سنوات، وبراءة باقي المتهمين.
لكن سرعان ما زاد الغليان في الشارع مرة أخرى بعد تأخر تنفيذ الحكم (7) أشهر بسبب إجراءات الاستئناف على الحكم وما إلى ذلك.
كانت صور “ريَّا و”سكينة” خلال تلك الشهور، تطبع بعشرات الآلاف وتباع في الشوارع للجمهور المتعطش لرؤيتهما في جميع أنحاء السلطنة آنذاك.
أمَّا الصحافة فلا شغل لها ولا شاغل إلا “ريَّا” و”سكينة” وأنبائهما، وقصص القاصي والداني عنهما، بل وخصصت كل صحيفة زاوية يومية ثابتة في مكان بارز لتلك الأنباء على امتداد شهرين كاملين، نشرت فيهما العديد من الأخبار المغلوطة عن “ريَّا” و”سكينة”.
الغريب أنَّ النقص أو الخطأ الذي شاب الأنباء التي نشرتها الصحف -كان مقصودا على ما يبدو، وكأنَّ النية كانت مبيتة لتزييف وتحوير بعض الأحداث والوقائع في قضية “ريَّا” و”سكينة”.
فلم يكن القتل يتم بمصاحبة دفوف زار تغطي على أصوات الاستغاثة، كما أُشيع، ولم يكن القتل يتم بواسطة الخنق، كما لم يكن هناك تمزيق للجثث.
أمَّا حرق الجثث في الفرن بعد تقطيعها، كان أكثر ما نشر عن الأختين كذبا وتزييفا، ومن ألصق هذه التهمة بهما اقتبسها حرفيا من سفاح فرنسي شهير اسمه “هنري لاندرو”، قبض عليه قبل القبض على عصابة “ريَّا” و”سكينة” بشهور.
يقول الراحل صلاح عيسى في كتابه “رجال ريَّا وسكينة”: إنَّ ما فعلته الصحافة وقتها كان جزءا من اتفاق ضمني شارك فيه المجتمع المصري بأكمله، لتحويل “ريا” و”سكينة” إلى رمز أسطوري للشر، لا صلة له بدوافع ما فعلتاه، وأغمض الجميع عيونه عمدا عن كل ما عدا ذلك، لأنَّهم كانوا بحاجة وقتها إلى رمز للشيطان، وصورة تجسِّد الشر المطلق الطليق فوجدوها.
السبب في ذلك أنَّ قضية “ريَّا” و”سكينة” كانت تضرب مسألة الرقي الاجتماعي للمصريين في مقتل، وتؤكد على نقصه، لذا فرواية الوقائع حول “ريَّا” و”سكينة” كما هي، بدوافعها وأسبابها، ربما يستغل للتدليل على عدم كفاءة المصريين لحكم أنفسهم بأنفسهم.
كما أنَّ القضية تزامنت مع المفاوضات بين الحكومة المصرية والتيار الوطني من جانب، والاستعمار البريطاني من جانب آخر، حول إلغاء الحماية البريطانية على البلاد، وكان المستعمر يرفض ويسوِّف ويسوِّق مبررات كثيرة لرفض الجلاء، أهمها أنَّ المصريين ناقصو رُقِيٍ، وغير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم، وكان المصريون يرفضون هذه المبررات ويكذِّبونها، إلى أن ظهرت قضية “ريَّا” و”سكينة” وأصبحت ملء السمع والبصر، وطار صيتها إلى الدول والأقطار المجاورة، ليتلقفها المستعمر ويعاير بها المصريين.
هكذا تواطأ الجميع بالصمت أو بالجهل أو بسبب الإحساس العميق بالعار، في محاولة لحفظ ماء وجه الوطن، في ظروف تاريخية غاية في التعقيد، وقبلوا جميعا أن ينسجوا قصصا وأساطيرَ مرعبةً حول الأختين، متجاهلين تماما دوافعهما، وما وصل بهما إلى عتبة أسوأ وأحط أبواب التاريخ. ومتجاهلين -أيضا- المجرم والمدان الرئيس في قضية “ريَّا” و”سكينة” والذي أفلت بجريمته دون عقاب!.
يتبع