رؤى

محب الدين الخطيب.. وجوه متعددة وأدوار مريبة

عاد الفتى محب إلى دمشق بعد نجاحه في السنة الثالثة بكلية الحقوق بالأستانة.. كان قد بدأ دراسته الجامعية في كلية الآداب؛ ثم جمع إليها دراسة الحقوق.. قبل أن يكتفي بالحقوق؛ لعدم قدرته على التوفيق بين الدراستين كان رفيق دربه “سليم الجزائري” قد عرَّفه بـ”فارس الخوري” الذي كان يبحث عن شاب ذي مواصفات خاصة؛ ليعمل بالقنصلية البريطانية بـ “الحُدَيِّدة غرب اليمن.. فإذا بـ” محب الدين” يعرض نفسه على الرجل راغبا في تلك الوظيفة!.

تعجَّب “سليم” أشد العجب من رغبة صديقه في تلك الوظيفة، وسأله عن أسبابه؛ فساق له “محب الدين” أسبابا واهية تتعلق برغبته في الابتعاد عن الأستانة لنحو عام، بسبب ما يلقاه هناك من التضييق والرقابة لنشاطه السياسي بعد تأسيسه لجمعية النهضة العربية، والتي تكونت من مجموعة من الطلاب العرب الغيورين على لغتهم وثقافتهم، والمناهضين لسياسة التتريك المُتَّبعة في عهد السلطان عبد الحميد.. والواضح أنَّ الجمعية كانت قومية صرفة، وليست دينية يجتمع أفرادها في غرفهم وفي المقاهي، ويستمتعون بالاستماع إلى الغناء والموسيقى العربية!.

العمل لدى البريطانيين للأسباب لا تقنع أحدا، ربما يكون سبيلا لسبر أغوار شخصية الرجل الذي أتى من الأفعال المتناقضة، والمواقف العصية على الفهم ما لا حصر له.. فلقد بدأ الشيخ مسيرته داعيا إلى القومية العربية؛ مناهضا لسياسة التتريك التي حاولت فرضها الدولة العثمانية؛ لكنه انتهى إلى صيغة “إسلامية” اختلطت فيها الأفكار والآراء والرؤى التي تحمل فيما بينها عديدا من التناقضات.. لنجده بعد ذلك منضما إلى جمعية الشورى العثمانية؛ استجابة لدعوة الشيخ “محمد رشيد رضا” الذي كان أستاذا لمحب أو في منزلة الأستاذ.. وكان الهدف المعلن للجمعية هو السعي إلى إصلاح الدولة العثمانية بدعوة السلطان إلى الشورى ونبذ الاستبداد!!.

جمعية النهضة العربية

في فترة ما كان “الخطيب” بمثابة أستاذ لـ “حسن البنا” وصاحب تأثير كبير عليه، لدرجة جعلت البعض يذهب إلى أنَّ إعطاءَ الجماعة سماتِ التنظيم شبه العسكري، كانت من أفكار “الخطيب” بالأساس.. لم يكن البنا عالما متبحرا ولا فقيها مبرزا.. كان مدرسا للخط العربي، توقَّف تعليمه عند تجهيزية دار العلوم.. أمَّا محب الدين الخطيب فقد كان كاتبا وصحفيا وأديبا وداعية وسياسيا أسس التنظيمات، وكوّن الجمعيات.. خبر العمل السري، والتقى الشخصيات الهامة وخالطهم ومنهم الأمراء والسلاطين كما عمل مع البريطانيين في السر والعلن.. وهذا يؤكد التأثير الكبير الذي تركه الرجل على شخصية “البنا” وأفكاره.. ما يجعلنا موقنين أنَّ مجيء الرجل إلى القاهرة كان مخططا له، وذا أهدافٍ عمل “الخطيب” على تحقيقها بوسائل شتى.. وهذا ما يفسر لنا كثيرا من مواقفه المتناقضة، وعدم تصديه بشكل مباشر للمهام الجسيمة والخطرة.. لنرى “البنا” هو الذي يؤسس لجماعة الإخوان في الإسماعيلية، بدعم مباشر من الاستخبارات البريطانية، دون أن يظهر “الخطيب” في الصورة، .. ثم نرصد إنشاء جمعية أنصار السنة المحمدية “السلفية” علي يد “محمد حامد الفقي” ويد الخطيب من خلف الستار، كما كانت تلك اليد حاضرة في تأسيس جمعية “الشبان المسلمين”.

ليس من  العجيب إذن أن تنقلب علاقة الرجلين (الخطيب والبنا) بعد ذلك ليصبح الأستاذ تلميذا لتلميذه، وعاملا لديه في رئاسة تحرير مجلة الإخوان المسلمين.. قبل أن ينقلب عليه الخطيب؛ بعد سعي البنا للتقريب بين السنة والشيعة، مع الشيخ “القُمِّي” فأقاما دارا لذلك بحي الزمالك بالقاهرة أسمياها دار التقريب، وقد شن “الخطيب” في مجلة الفتح التي كان يرأس تحريرها حملة على الدار و”القُمِّي” و”البنا” وأطلق على الدار اسم دار “التخريب” قبل أن يؤلف كتابا يقدح في عقائد الشيعة أسماه “الخطوط العريضة” ومن عجب أن يكون الشيخ حادا قاطعا في رفض التقريب، وهو الذي جمع المتناقضات إلى حدٍ مُحيِّر!.

” …أنَّ دولة بريطانيا العظمى عزمت عزما نهائيا على مؤازرة العرب فيما يطلبون من تحسين أحوالهم، وجمع شملهم وخلاصهم من الإدارة التركية…”.

حسن البنا
حسن البنا

كتب “الخطيب” هذه العبارة ضمن التماس قّدَّمه للإفراج عنه بعد اعتقاله في البصرة عام 1914، أوضح الرجل وقتها أنه موفد من جمعية الجامعة العربية للقاء السيد ” النقيب” أحد منسقي الحركة العربية، وكان مزمعا أن يغادر الخطيب البصرة بعد ذلك للقاء “ابن سعود” بينما يتوجه آخرون للقاء الإمام “يحيى” في اليمن و”الإدريس” في عسير بهدف توحيد كلمة العرب بشأن الموقف الذي سيتأسس بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى التي أصبحت الدولة العثمانية طرفا فيه.

وتبذل المساعي للإفراج عن الخطيب لكن الموقف كان يزداد صعوبة، ليضطر الإنجليز للكشف عن حقيقة تلك الزيارة، وهي أن محب الدين كان مهمة خاصة لمقابلة موظفين بريطانيين سياسيين، وأن سفره كان بتصريح من قائد القوات البريطانية في مصر، وكانت هذه المعلومات قد وردت في وثيقة قُدمت للسير “مكماهون” لحثِّه على التدخل للإفراج عن الخطيب!.

وعندما اندلعت أحداث الثورة العربية بقيادة الشريف حسين في يونيو1916، بدعم مباشر من الإنجليز وبدور واضح لضابط المخابرات البريطاني “كولونيل لورانس” يسارع الخطيب للالتحاق بالشريف حسين، ليؤسس مطبعة أميرية لحكومة الحجاز؛ وليصدر صحيفة “القبلة” لتكون الجريدة الرسمية للحكومة، وكان الهجوم في الصحيفة مُرَكَّزا على الأتراك الطورانيين الذين صار إسقاط دولتهم أمرا لا مفر منه.

ومن الغريب أيضا أنَّ الخطيب أدان موقف الحسين من وزير الحربية الحجازية آنذاك “عزيز المصري” الذي اختلف مع الشريف وغادر إلى القاهرة، وكتب محب الدين عن إخلاص المصري ورغبته في العمل على إنجاح الثورة ودحر الترك، بينما في موضع آخر يذكر أنه قال للحسين أنَّ رحيل المصري سيكون مفيدا على نحو ما!

وعندما يسقط الشريف حسين عن عرشه، ويعود الخطيب إلى القاهرة؛ ليستعرض بعد ذلك في مذكراته ثلاث سنوات قضاها إلى جوار الملك مبديا عديدا من التحفظات على تصرفاته، وقراراته التي أدت إلى سقوطه في النهاية، مع العلم أنَّه كان منه بمثابة المستشار المقرب.

الثورة العربية الكبرى
الثورة العربية الكبرى

وبعد دخول الجيش العربي إلى دمشق عام 1919، يُعيَّن الخطيب مديرا للمطبوعات، ويصدر صحيفة “العاصمة” في مارس1920، وبعد اتفاق فيصل “كلمنصو” تعم الاضطرابات الشام، ولم تفلح محاولات الخطيب في توحيد الصف في مواجهة الفرنسيين؛ فاضطر إلى المغادرة متنكرا في زي تاجر جِمَال، إلى طبرية ثم صفد حتى وصل يافا ومنها استقل القطار إلى القاهرة بعد أن استخرج جواز سفر باسم مستعار.

ويعود الخطيب إلى القاهرة ليعمل محررا بالأهرام، ويصدر صحيفتي الفتح والزهراء ويرأس تحريرهما، كما رأس تحرير مجلة الإخوان، كما أشرنا سلفا.. ويستمر في العمل بالكتابة والتأليف، كما في السياسة ومؤامراتها.. وتمضي به مسيرة الحياة عبر مواقف لا تخلو من الغموض والاضطراب والتناقض.. إلى أن يلقى ربه نهاية ديسمبر من العام1969، إثر عملية جراحية غير موفقة عن عمر ناهز الثالثة والثمانين.

من خلال هذه الوقائع وغيرها يمكننا أن نتصور حجم الدور الذي لعبه “الخطيب” في كل تلك الأحداث الهامة والخطيرة التي كان لها أكبر الأثر فيما وصلت إليه الأمة العربية من تفرق وضعف وانقسام أدى إلى العديد من الانكسارات الكبرى والهزائم المريرة التي أدت إلى احتلال فلسطين، وزرع ذلك الكيان السرطاني في خاصرة الأمة العربية.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker