رؤى

“بسنت” هذا ما كشفته عنَّا ولنَا!

أصوات:

“أصدر السيد النائب العام مساء الخميس الماضي بيانا بشأن واقعة انتحار الطالبة “بسنت شلبي” وجاء نصُّه كما يلي:

أمرت النيابة العامة بحبس متهمين اثنين احتياطيا على ذمة التحقيقات في قضية وفات “بسنت” بكفر الزيات؛ لاتهام أحدهما بهتك عرضها حال كونها طفلة-لم تبلغ ثماني عشرة سنة ميلادية- باستطالته لعموم جسدها، وتهديدها بإفشاء صور فوتوغرافية ومقطع مصوَّرٍ منسوبين لها حصل عليهما خلسة، بنشرها بمواقع التواصل الاجتماعي، واتهام الاثنين باعتدائهما على حرمة حياة المجني عليها الخاصة، وإذاعتهما علنا تلك الصور والمقطع، واستعمالهما بغير رضائها، وتعديهما بذلك على المبادئ والقيم الأسرية بالمجتمع المصري.

هذا وتوالي النيابة العامة إجراءات التحقيق في القضية استجلاء للحقيقة وإقامة الدليل قِبَلَ المتهمين، وأنه قد غُرّرَ بها باستغلال صغر عُمرها حتى وصلت لمرحلة من اليأس والخوف الشديد دفعاها إلى التخلص من حياتها…”


ولن تكفَّ “بسنت” عن أن تُطلَّ علينا بوجهها الملائكي الصبوح؛ لتمزقنا بنظرات اللوم القاتلة؛ لتفتك بمن بقيت لديه بعضُ إنسانية، وبعضُ عقل.. لكن هل ستعيد تلك النظرات ما تبدد من ملامح روحها الطاهرة؟!.

وهل نتمكَّن من أن نلملم بقايا ما تبعثرَ على طرق قرية “كفر يعقوب ” وما تناثر في دروبنا الشائكة من خجل لا يليق بقتلة؟ نعم.. قتلة.

الجميع مشارك في الجريمة.. المجتمع الذي يدفن رأسه في رمال فضيلة مزيفة وادعاء للأخلاق الحميدة.. تلك التي دفعت بشباب متهور إلى اقتراف المعصية؛ محتمين بتلك المقولة الفاسدة “لا شيء يعيب الرجل” فلا تثريب عليهم إذن ..اللهم إلا بعض العتاب وقليل من التعنيف.

بينما مصير الفتاه إن مست ملابسها المعصية أو الخطيئة أو ادعى عليها احد شيئا من قبيل ذلك –يكون القتل ليس بسيوف جماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التي تحاصرنا معنويا لكن بنظرات اللوم والمهانة والتشويه القاتلة التي تطلقها عيون الأهل والأقارب والجيران دون رحمة ودون دليل غالبا.

يكفي أنَّهم قالوا عنها بل يكفى فقط  أنَّها “أنثى” في مجتمع يرى عفَّته وشرفه فقط في أجساد النساء والفتيات بينما لا شرف ولا عفَّة في غير ذلك.

لقد فتحت واقعة انتحار “بسنت” جرحا لن يندمل أبدا،  وسيظل مثار صراع فكرى وحضاري إلى ما شاء الله.

فلم تكن “بسنت خالد شلبي” طالبة التعليم الثانوي الأزهري، والمقيمة في قرية منسيَّة في دلتا مصر مع أسرتها البسيطة في رعاية ابٍ وأمٍ من حملة الشهادات الجامعية، وقد منح الله “بسنت” جمالا رقيقا وروحا طيبة؛ لم تحتمل أن تقاوم طوفان الشر الذى يحاصرنا؛ فانحنى ظهرها من عبء ثقيل.. وانكسرت روحها أمام تعنُّتٍ وصلفٍ وتنمرٍ لا يحتمله أمثالها من الأنقياء؛ فقررت في لحظة ضعف أن تصفعنا جميعا، وأن تُعَرِّي أمامنا نقاط ضعفنا الكثيرة والفاضحة!.

من القاتل؟

انشغل الجميع بتحليل الموقف، وشنوا هجوما عنيفا على وسائل التواصل الاجتماعي، وزمن الإنترنت والتكنولوجيا المتطورة، وقذفوا بحجارة الأخلاق كل من اخترع تلك البدع التي جرفت القيم والمبادئ إلى غير رجعة.

هذا هو السائد والمنتشر مع قليل من التحليلات حول جريمة التنمر وخسة الابتزاز ورعونة الشباب الذى لم تمر عليه تربية في منزله أو مدرسته.

راحت “بسنت” ضحية هذا الجدل القديم والعقيم الذي لم يشتبك مع الأزمة الحقيقة لأنَّنا جميعا بما في ذلك معظم  النساء لا نريد أن نقترب منها؛ فهي أحد “التابوهات” الثابتة التي لا خلاف عليها، وهو أنَّ “المرأة في نظر المجتمع أو غالبيته” ماهي إلا “شيطانٌ يمشى على الأرض”.

ربما لو كشفنا عن عنصريتنا تجاه المرأة، وعالجنا أمراضنا النفسية المجتمعية ما كنَّا الآن نبكى “بسنت شلبي” أو أية “بسنت “أخرى.

بعيدا عن تفاصيل القضية الجنائية التي ما تزال محل تحقيقات؛ لكنَّ الثابت أنَّ الفتاة الصغيرة البريئة تركت رسالة ستبقى مستندَ إدانةٍ لنا جميعا.. رسالة بخط يدها وجهت فيها خطابها لوالدتها في محاولة لإثبات براءتها من جريمة نشر البعض صورا منسوبة لها بالباطل..

طعننا جميعا هذا الشاب الذى توعدها بأن يجعلها “تركع” لأنَّها لم تبادله ما أراد من مشاعر.. وكانت وسيلته للتركيع وفقا للتحقيقات هي تصميم صور حميمية “مفبركة”  لها أو شبه عارية ونشرها على أوسع نطاق بين الأهل والأصدقاء والمعارف.

هكذا ترجع بسنت!

هذه هي نظرة ذلك الشاب للعِفَّة والشرف أمَّا هو فسموح له ما أراد فلا عِفَّة ولا شرف لدى الرجال كما يتردد كثيرا “الراجل يعمل اللي هو عايزة ده في الآخر.. راجل”.

ويبدو أن “بسنت” بذلت جهدا أكبر من طاقتها المحدودة؛ لإثبات براءتها أمام أسرتها وزملائها وواجهت وحدها دون سند اجتماعي أو غطاء أخلاقي، كل ذلك الهجوم التتري من العقل المتزمت والذهنية الرجعية والمستقر العفن من أفكار بالية حول كيان المرأة وطبيعتها ومفهوم الشرف وماهية الأخلاق.

واجهت “بسنت” بقلبها الصغير وعقلها الذى مازال يتكون؛ هجوما ذكوريا متواصلا؛ للسيطرة على مقاليد الأمور في مجتمع متهالك وضعيف ويعانى من الانسحاق الحضاري أمام الغرب، فلا يجد أمامه سوى مزيدٍ من التراجع نحو الخلف والتقوقع على الذات واللجوء للماضي.

مجتمع لا يرى من الدين سوى “مثنى وثلاثة ورباع” ولا يرى من الأخلاق سوى غطاء رأس النساء وملابسهن، ويحكم على سلوكيات البشر من الشكل والهندام فقط ولا ينشغل بالعقل ولا عمق الروح ولا قيمة الإنسان بداخل المرأة.

مجتمع في حقيقته المريرة يعانى فصاما شديدا في الشخصية.. يقبل الفحشاء في الخفاء ويواجه أبسط الأمور بحدة وقسوة، وكأنَّه يبحث عن وسيلة أو طريقة للتطهر حتى وإن كانت على حساب أبرياء آخرين.

سوف يحدثني البعض عن الحرية التي تعيشها المرأة في بلادنا العربية وتوليها أرفع المناصب وأهم المواقع الرسمية والشعبية.. وسيمتد الحديث ليصل إلى المبدعات والرائدات والعالمات وسوف يستفيض البعض في تعداد مكاسب النساء في زمننا الحالي ومجتمعاتنا المعاصرة.. هذا كله وغيره لا خلاف عليه؛ لكن دعونا نطرح سؤالا أكثر صراحة، هل جاءت كل تلك المكاسب نتيجة قناعات راسخة وتوافق مجتمعي حقيقي أم أنَّها تعبير عن إرادات فوقية أو حكومية أو أممية لإظهار مجتمع متعايش غير عنصري ولا يمارس القمع على نصف سكانه.

السؤال الأكثر جرأة.. هل النساء في مصر سواء في الماضي أو الحاضر غير شريكات في حياة الأسرة بقوة وبفاعليه؟

والإجابة.. قطعا نعم شريكات وبقوة وربما أكثر من مجتمعات تدَّعِى التقدمية.

بسنت شلبي

إذن ما الخلل؟

الخلل هو ذلك الفصام الذى يتحكم في مجتمعاتنا العربية. والذى يتغذَّى على فتاوى شيوخ التعصب الذين لا تشغلهم سوى فتاوى “إرضاع الكبير” ورفض ولاية المرأة وتبربر زواج القاصرات وغيرها من الفتاوى التي لا تتسق مع روح الدين وجوهره والتي تعلى من قيمة وشأن الإنسان ذكرا كان أو أنثى.

كما يتغذَّى على إعلام وأشكال من الفنون رسَّخت منذ عقود لتسليع المرأة، وحوَّلتها إلى مجرد أداة زينة ومتعة ووسيلة تسويق منتجات في زمن هيمنة الرأسمالية وما بعدها.. تلاقى شيوخ الفضائيات الجدد مع تجار الفنون المحدثين؛ ليعززوا من أزمة الفصام المجتمعي، ليدفع ثمن ذلك كله، الفئاتُ الأكثر ضعفا وفى مقدمتهم النساء والفقراء.

ارقدي يا “بسنت” في سلام فهذا مجتمع لا يليق بك، وهذا مناخ ثقافي واجتماعي لا يرقى لوجودك بيننا.. ارقدي في سلام.. لعل الواقعة تكون كاشفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock