فن

عن “داود عبد السيد”.. تُرى مَنْ “سارق الفرح”؟

وكأنَّه دون أن يقصد عرَى أحوالنا، ونكأ جراحنا الفنية.. ولأنَّه فيلسوف السينما، فقد حلَّق بعيدا؛ كي ينظر بدقةٍ ويفحص بدأبٍ تفاصيل المشهد المرتبك، وإلى أي حال قد وصلنا في مرحلة من مراحل التردي والتراجع.

عندما أعلن المخرج الكبير “داوود عبد السيد” اعتزاله الفن –تحركت مياهٌ راكدة ومستقرة وساكنة؛ بسبب هذا القرار الذي يُعبِّر عن أمرٍ واقع.. ألا وهو غياب العشرات من رموز الإبداع وأيقونات السينما في مجالاتها المتعددة عن المشهد الفني الحالي

فهل أراد “عبد السيد” أن يلقى بحجر في مياه فننا الراكد.. ويصرخ في وجه صُنَّاعه أم أنَّه بالفعل اكتفى؟ وهل للمبدع أن يكتفي؛ خاصَّة إذا كان بقدر وحجم “دواد عبد السيد”؟.

الميلاد والبدايات

في 23 نوفمبر عام 1946، ولد “داود عبد السيد”. كانت مصر ملتهبة بنيران الحركة الوطنية المناهضة للاحتلال، وكنا على بُعد أشهر قليلة من التظاهرات العارمة التي شهدتها مصر في فبراير من نفس العام، والتي قادتها اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وعُرفت بأحداث “كوبرى عباس”.

كان حلم الفتى الصغير “داود” أن يعمل صحفيا، فقد كان يهوى الكتابة والبحث واستقصاء الحقيقة.. وظلَّ ولعُه بالحروف حاضرا؛ حتى دفعته الصدفة لدخول المجال السينمائي، وهذا ما أكده في تصريحات صحفيه قال فيها: “الصدفة وابن خالتي هما اللذان دفعاني لدخول مجال السينما؛ فابن خالتي كان يعشق مشاهدة الرسوم المتحركة؛ تعلَّق بالتصوير شيئا فشيئا؛ حتى اشترى كاميرا.. ونفَّذ بعض المحاولات في المنزل. تدريجيا تعدَّدت علاقاته بالعاملين في مجال السينما، وأخذني لأستوديو جلال، وكانوا يصورون فيلما من إخراج أحمد ضياء الدين، الذي كنت أعرفه بحكم زمالتي بابنه في المدرسة؛ فانبهرت بالسينما بصورة مذهلة؛ فقررت بعدها دخول معهد السينما” هي الصدفة التي ساقت لنا أجمل هداياها ومنحتنا أحد عباقرة الإخراج السينمائي المعاصر.

الناس هي المُلهِمَة

في عام 1967، تخرَّج “عبد السيد” من معهد السينما، وانطلق ليخوض تجربة العمل كمساعد مخرج في عددٍ من الأعمال منها “الرجل الذى فقد ظله” عام 1968، مع المخرج “كمال الشيخ” وفيلم “أوهام الحب” عام 1970، للمخرج ممدوح شكري، ثم رائعة يوسف شاهين “الأرض” عام 1970.

 لم يجد “داود” نفسه في هذه النوعية من الأعمال، فهو الذى يرى منذ البداية أنَّه “صانع أفلام” وليس مخرجا مساعدا؛ لذلك حمل الكاميرا على كتفه، وصار يجوب شوارع مصر، بحثا عن وشوش الناس وروح المكان، فقدَّم عددا من الأفلام التسجيلية، في مناخٍ لا تجد تلك النوعية من الأفلام مكانا لائقا للعرض والانتشار فيه.

كانت أفلام مثل “وصية رجل حكيم في شئون القرية والتعليم” (1976). “العمل في الحقل” (1979). “عن الناس والأنبياء والفنانين” (1980). قادرة على منح “عبد السيد” قدرة على التجريب والتأمل والغوص في بحار البشر بغرض التعلم أولا، وصناعة السينما التي يريدها ثانيا.

سينما المؤلف

وعن السينما التي يريدها نجد أنَّنا أمام ما يعرف بـ “سينما المؤلف” تلك الأفلام التي تُنسب للمخرج بشكل كامل، وخلال مسيرة مخرجنا الكبير التي تميزت بقلة الأعمال بالقياس بالفترة الزمنية التي عمل خلالها، وأيضا بالمقارنة بأبناء جيله من مخرجي السينما العربية؛ نجد أنَّ حصيلته لا تتجاوز(9) أفلام روائية طويلة معظمها من تأليفه هو.. وحتى أعماله التي تعود قصصها لروايات شهيرة مثل “سارق الفرح” و”الكيت كات” كان داود هو صاحب السيناريو والمعالجة الفنية.

في عام 1985، كانت مصر قد عرفت جيدا مصطلح “سينما المقاولات” وساد السوق الفني قدرٌ من الارتباك، كانت ملامحه قد بدأت منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، عقب تراجع الدولة عن دعم صناعة السينما، وما شهده المجتمع من تغيرات اجتماعية واقتصادية شكَّلت تغيرا ثقافيا ملحوظا على الحالة المصرية بكل تفاصيلها.

هو والواقع

كان “داود” قد أتمَّ كتابة وصناعة عمله الروائي الأول “الصعاليك” والذى شارك في بطولته كل من “نور الشريف” و”محمود عبد العزيز” و”يسرا”. تعرَّض “داود” من خلال هذا العمل لأبعاد الصعود الاجتماعي الذى أصبحت غايته الأولى هي الثروة بغض النظر عن مصدرها، كما كشف عن واقع تجارة المخدرات في مصر في ظل انفتاح “السداح مداح” والأسواق المفتوحة بلا حساب.

وفى العام 1990 أي بعد خمس سنوات يواصل “داود” تشريح المجتمع المصري الذى تغيّر من خلال فيلم “البحث عن سيد مرزوق” الذي واصل من خلاله التعاون مع “نور الشريف”. يحمل الفيلم نقدا قاسيا للسلطة لكن تلك التجربة بكل تجريدها وتجريبها لم تحقق نجاحا جماهيريا على الإطلاق رغم إشادة الأوساط النقدية به.

وبعد أقل من عام كانت السينما المصرية والمشاهد العربي على موعد مع أحد أيقونات السينما المصرية وواحد من أعظم الأعمال التي حققت ما يطلق عليه “المعادلة الصعبة” وهى الجمع بين نجاح جماهيري واسع، وإشادة نقدية كبيرة ومتواصلة.. “الكيت كات”

“الكيت كات”.. يتحدى الزمن

استعان “داود” برواية الراحل “إبراهيم أصلان” “مالك الحزين” لكنَّه منح نفسه حق التصرف في النص الأدبي بشكل غير مسبوق في السينما المصرية، ومنذ هذا العمل وحتى آخر أعماله وقف المخرج على ناصية “سينما الشخصيات” مميزا ومالكا لأدواته ومحلِّقا بها بعيدا في سماء الإبداع البصرى.

تعتمد سينما الشخصيات التي أتقنها “داود” على اقتدار المبدع في رسم الشخصيات بدقة متناهية فنراها على الشاشة على نحو مليء بالتفاصيل، وسرعان ما نجد أنفسنها نتحاور معها، وتتحول إلى واقع في حياتنا لا يمكن الفصل معه بين سحرها الفني وحياتنا اليومية.. وربما تبقى شخصيات “داود” مدينة بقوة لتجربته في السينما التسجيلية ومعايشته للبشر في الواقع.

بعد النجاح الكبير لـ “الكيت كات” واصل داود رحلته في عوالم الشخصيات مستعينا بنص أدبى للكاتب “خيرى شلبي” في فيلم “سارق الفرح” الذى قدَّمه عام 1995، واختار لبطولته كلا من القدير “حسن حسني” و”ماجد المصري” و”لوسى”.. ويغوص “داود” مجددا من خلال الفيلم في عالم المهمشين، ويكشف عن صراعات نفسيه معقَّدة من خلال قصة حب لا تعرف النجاح.

وفى عام 2000، كان التعاون الأول –والذى تعثر منذ فيلم الصعاليك– بين “داود” و”أحمد زكى” في فيلم “أرض الخوف” والذى يُمثِّل أحد أهم الأفلام العربية على الإطلاق، وقد كان المخرج والممثل في قمة تألقهما وألقهما الفني.

تمكَّن “داود” من التفوق على نفسه في كل تفاصيل العمل.. ساعده على ذلك استعانته بعدد من أفضل السينمائيين في التصوير والموسيقى والديكور.. وغيرها من مكونات العمل، ليصنعوا جميعا لوحة مبهرة وعملا استثنائيا سيبقى قادرا على الحضور.

ولم يتراجع إبداع “داود” وتجلى الفيلسوف الكامن في أعماق المخرج حين قدَّم عام 2001، فيلم من تأليفه هو “مواطن ومخبر وحرامي” ليفتح الأبواب على مصراعيها نحو التأويل المتعدد لأبعاد العمل السينمائي.. هذه هي روعة “داود” وقمة نضجه الفكري والفني.

في عام 2010، كان يتلقَّى معنا “رسائل البحر” من خلال دور متميز للفنان “آسر ياسين” وجرأة إخراجية منه ومن بطلة العمل “بسمة” التي قدمت أروع أعمالها حتى الآن.

كان “قدرات غير عادية” عام 2014 هو آخر أعمال “داود” في السينما لتبعده آليات الإنتاج التي سيطر عليها مناخ رديء وسوق سيئ للصناعة، أدى إلى غياب عدد كبير من رموزنا الفنية وتصدر المشهد عدد من أنصاف الموهوبين ومحدودي الرؤية.

من سرق الفرح؟

هكذا رمى “داود” حجرا في المياه الراكدة، وكشف لنا عن عوراتنا الفنية، وجعلنا نطرح السؤال صارخين.. من سارق الفرح؟ من ذا الذى يخطف روحنا بمتطلبات السوق والتسليع وتغييب القيمة الفنية؛ لنصبح أسرى لأنواع رديئة لا تجد من يواجهها بحسم؛ فيُحصِّن ذائقتنا الفنية المستباحة؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock