مقدمة:
يعتبر “أورتيجا إي جاسِّيت“ أحد أبرز الفلاسفة الإسبان في القرن العشرين (1883-1955) وأحد أعلام النهضة الإسبانية المعاصرة، وينتمي إلى ما يُسمَّى بجيل 1914. كان أورتيجا صاحب رؤية فلسفية واجتماعية عميقة؛ انعكست في تحليله لـ “أدواء” المجتمع الإسباني ومشاكله. فقد حلَّل “أورتيجا“ الموقف في إسبانيا، ورأى ضرورة وجود الصَّفوة التي تستطيع أن تضعَ المعايير والأفكار الحقيقية التي يجب أن تسيرَ على هُداها الأجيال اللاحقة. وقد تبنَّى الفلسفة الوجودية، واستخدم منهجه الفلسفي في إلقاءالضوء على المشكلات التي يُعاني منها المجتمع الاسباني؛أسس “إي جاسِّيت” مجلة “الغرب“ لنشر أفكاره.. ولم يحصر نفسه وأفكاره في مدرسة فكرية، أو انتماءات ضيقة. وإن كان يميل إلى القول بأنَّ الفيلسوف يجب أن ترتكزأفكاره على التقاليد الفلسفية الراسخة. ومن ثم فقد أثرتفيه “الكانطية“ الجديدة أثناء دراسته في “ماربورج“بألمانيا، كما تأثَّر بفلسفة الحياة عند “دلتاي“، وبفلسفة“هرمن كوهن“.
ويُعتبر كتابه “تمرد الجماهير” أحد أهم كُتبه وأكثرها شهرة وذيوعا، وقد تُرجم إلى عدد من اللغات.. وفيه يُلقي الفيلسوف الضوء على ثورة وتمرد الجماهير أو ما يُعرف بالكتل البشرية، وسُبل وصولها إلى سدة السلطة الاجتماعية. يُصوِّر لنا “أورتيجا” في مؤلفه مشهد الحشود، وهي تستولى على الأماكن والأدوات التي صنعتها الحضارة.ويحلل طريقة استيلاء الجمهور على كل شيء في جميع المجالات.. وهذا ما سوف نتناوله من خلال المقال.
مفهوم الجيل:
الجيل عند “أورتيجا” ليس زُمرةً أو مجموعةً من الناس المتميزين أو الممتازين، وليس –أيضا– جمهورا؛ بل يُمثِّل بنية اجتماعية مغلقة على نفسها فيها أقلية “خليلية“وجمهور، وتسير في دائرة الوجود في اتجاه وسرعة حيوية محددة من قبل. والجيل هو المعنى الأهم في التاريخ عند “أورتيجا“، كما أنَّه هو المحور الذي يدور حوله. والجيل الثاني يجد الصور التي عاشها الجيل السالف، لكن الحياة بالنسبة لكل منهما مناسبة ذات بعدين، فالجيل يتلقى من الماضي كل الأفكار والقيم، وفي الوقت نفسه يمارس قوة الإبداع الكامنة فيه.
وبرؤية الفيلسوف الثاقبة يرى “أورتيجا“ أنَّ المشكلات الكبرى أمام كل جيل جديد هي أيُّ مقدارٍ يأخذ مما تلقَّى وأيُّ مقدارٍ يدع؟ أيُّ مجال يتركه لقوته المبدعة؟ وأي مجال يحتفظ به لقوى الماضي الذي وصل إليه؟ والأجيال تتفاوت في طريقة الإجابة عن هذا السؤال. فهناك أجيال تُفني روحها في الماضي، وأخرى تثور عليه وتتنكر له، الأولى هي أجيال الشيخوخة، والثانية هي أجيال الثورة على الماضي. وهي أجيال الشباب التي ترى أنَّ واجبها ليس في المحافظة أو الاتباع أو العود إلى الأصل، بل واجبها أن تنبذ الماضي وتطرحه جانبا. وتبدع كل ما هو جديد، وتمارس قوة الإبداعبأقصى ما تستطيع. وقد يقع الجيل الواحد في صراع بين هاتين النزعتين، لكن كما يقول اورتيجا لكل جيل رسالته الخاصة به وواجبه التاريخي المفروض عليه.
إنسان الحشود (إنسان الكتل البشرية) مفهوم الكتلة البشرية:
هي كل شخص لا يقيس نفسه بمقياس خاص، ليس في الخير ولا في الشر فقط، ولكنَّه يشعر بنفس الشعور مثل أي شخص، ويعرف أنَّه راضٍ عن عدم تميزه.. فإنسان الكتل البشرية هو الذي يسير مع التيار، ويخلو من أية معالم،لذلك لا يخالف الإنسان الجماعي، حتى لو كانت فرصه وصلاحياته كبيرة. في نفس الوقت يعارض “أورتيجا“ الأقليةالمختارة على الجماهير المختارين.. هؤلاء –بحسب رأي “أورتيجا“– ليسوا من وضعوا أنفسهم بغطرسة أعلى، بل أولئك الذين يطلبون المزيد من أنفسهم، حتى لو كان الطلب على أنفسهم لايطاق. إنَّ تلك الجماهير تظل كتلةً، ولا تريد الانسجام إلا مع نفسها. في هذا السياق نشير إلى أنَّسلوك الأفراد وتفاعلهم مع العالم الاجتماعي بالنسبة لـ”أورتيجا“ يُشكِّل حقيقة قابلة للتحليل الموضوعي باعتباره المجال الذي نتصور فيه الوظائف الملموسة للتفاعلات البشرية ويقرها إنسان الحشد، ومجتمع الحشود.. ذلك الإنسان الذي يُمثِّل تجليا للظواهر الاجتماعية والتاريخية،يمكن إدراكها جزئيا من خلال أعدادها وحجمها الهائل في العالم الاجتماعي. ويجب أن نلفتَ الانتباه إلى حقيقة مهمةهي أنَّ التركيز على الصفات الجوهرية لإنسان الحشد، من شأنه أن يقودَنا إلى فهم مظاهره من حيث العدد والتكتل..لذا يجب أن نركزَ في مقاربتنا الفلسفية لإنسان الحشد ومجتمع الحشود والنخبة كمفاهيم اجتماعية على خصائصها النوعية أكثر من خصائصها الكمية. وفي هذا السياق نشير إلى أنَّ تحديد الصفات النوعية لما يُشكِّل الحشود والنخبة يكون أكثر أهمية لفهم –ليس فقط– الأفرادالمتميزين في المجتمع، ولكن –أيضا– للوقوف عند إمكانيةالاستمرار لهؤلاء الأشخاص الفريدين كوحدة دينامية. من هنا يرى “أورتيجا“ أنَّ مفهوم التعدد هو كمِّي بصري، وفكرة الكتل الاجتماعية هي دائما وحدة دينامية.
تمرد الجماهير (الجماهير الفظة) :
يشير “أورتيجا“ إلى أنَّ الجماهير وصلت في عصره إلى مستوى معيشة؛ كانت تملكه قلةٌ قليلةٌ من الجيل السابق،ومن هنا خرجت الجماهير عن السيطرة، تريد أن تزيح الأقلية من مكانها، لكنَّهم في نفس الوقت يظلون كتلة، كما أنَّهم لا يريدون الانسجام إلا مع أنفسهم.. فالجماهير عندما تتمرَّد تكون غير قادرةٍ على القيام بأدوارها، إنَّهابحاجة إلى اتباع شيء أعلى.. قادة من الأقليات الممتازة!.الجمهور استقر في الأماكن المفضلة في المجتمع. لم يعد هناك الشخص الرئيس بل جوقة من الناس فقط، إنَّها الكتل البشرية. الجمهور الحاشد “واقعة نفسية“ من غير حاجة إلى ظهور الأفراد في تجمع. وبناء على ذلك يرفض “أورتيجا“ كل تفسير لزماننا لا يكتشف المعنى الحقيقي المخفي تحت جناح سيطرة الجماهير الراهنة، والتي ترضى بهذه السيطرة بسعادة من غير أن ترتعد ذعرا. فالعنصر الرهيب في مصيرنا يُمثِّله تمرد الجماهير المقتحم العنيف والمهيب والعصي. كما يشك “أورتيجا“ في وجود عصور أخرى في التاريخ وصل فيها الجمهور إلىالحكم المباشر مثلما هو الحال في زماننا. والأمر ذاته يحدث في المجالات الأخرى من سيطرة الجماهير مثل المجال الفكري. مثلما يكتب كاتب ما موضوعا فإنَّه يفكر في القارئ العادي هل سيفهم أم لا؟ فالجمهور يهاجم كل ماهو مختلف وجليل وفردي ونوعي ونخبوي، نحن نعيش تحت هيمنة الجماهير الفظة. وفي هذا السياق نشير إلى أنَّالواقعة التي نحتاج إلى إخضاعها للتشريح يمكن أن تصاغ تحت عنوانين:–
أولا: أنَّ الجماهير تمارس اليوم جملةَ أعمالٍ حيوية تتطابق في جانب كبير منها مع ما كان يبدو أنَّه كان مكرسا منقبل للأقليات حصرا.
ثانيا: أنَّ الجماهير أصبحت عصية على الأقليات، فهي لا تطيعها ولا تتبعها ولا تحترمها، إنِّما على العكس من ذلك تُعرض عنها وتحل محلها في آن.
صفوة القول:
لقد حلَّل “أورتيجا“ ببصيرةٍ نافذةٍ ورؤيةٍ ثاقبةٍ ما نعاني منه في عصرنا الحاضر، من تمرُّدِ الجماهير، وسيطرة الكتل البشرية على المشهد، في جميع المجالات. كُتلٌ بشريةٌ تتقدمُالمشهدَ الفكريَّ والثقافيَّ والاجتماعيَّ.. بلا تنظيم.. دون رؤية.. وبدون تخطيط.
بطاقة تعريف:
ولد “خوسِّيه أورتيجا إي جاسِّيت” عام 1883، في مدريدلأسرة تعمل في الصحافة.. وحصل على إِجازة في الفلسفةعام 1902، ثم الدكتوراه عام 1904، ثم رحل بعد ذلك إلىألمانيا، وحضر هناك المحاضرات التي كانت تلقى في ليبزجوبرلين وماربورج عام 1907.
درس “إي جاسِّيت” على يد “دلتاي“ و“دريش“ صاحبيالمذهب الحيوي في الفلسفة. كما تلقَّي محاضرات فيالفلسفة على يد “هرمان كوهن“ و“إرنست كاسيرر” و“ناتورب“ ممثلي النزعة “الكانطية“ الجديدة.
عاد “إي جاسيت” إلى وطنه إسبانيا وتحديدا مدريد؛ حيث شغل كرسي “ما بعد الطبيعة“ في جامعة مدريد في الفترة من (1915-1936).
دخل الفيلسوف ميدان السياسة في عهد ديكتاتورية “بريمودي ريفيرا“ (1923-1930) مكافحا ومناضلا ضد هذهالديكتاتورية، وداعيا في نفس الوقت في مجلته إلى الحرياتوعودة الحياة النيابية وإقامة الجمهورية.
عندما نشبت الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، غادرإسبانيا إلى فرنسا ثم هولندا والأرجنتين، ثم عاد إلىإسبانيا وتوفى بها عام 1955.
أشهر مؤلفاته:
“إسبانيا اللافقارية” و”تمرد الجماهير” و”موضوع عصرنا” و”الرجل المفرد” و”انحطاط الفن” و”دروس في الميتافيزيقا“وغيرها.