“إنَّ الإنسان يحلو له أن يرى سقوط الرجل الصالح وتلطُّخ شرفه بالعار”. دوستويفسكي
مع وضع ألف خط تحت لفظة الصالح.. وكأنَّ البياض لون مزعج، ولابد من تلطيخه بالسواد كي يقنعنا بواقع أننا مجبولون على الخطأ.. افتراض البراءة درب من السذاجة والأولى البحث عن دليل دامغ للإدانة.. فإن لم نجده اخترعناه! ثم جوَّدناه وأخيرا ومع لعنة “السوشيال ميديا” نشرناه.. بات “تريند” وبمجرد أن تكتب اسم الضحية على محرك البحث تنهال روابط مواقع الصحف والصفحات الشخصية وقنوات اليوتيوب.. المقروء موجود والمرئي موجود.. وكيل النيابة حاضر والقاضي حاضر بينما الغائب الوحيد هو المتهم.
“هنالك أمر واحد أخشاه.. وهو ألا أكون جديرا بمعاناتي”. دوستويفسكي
“روث” التي اتخذت قرارها بمواجهة الوحش.. المجتمع المتأهب ليغرز أظافره وينهش بأنيابه تلك التي تستطيل وتتسنن حين تشتم رائحة فريسة على وشك الوقوع بحبائله.. صار لديه ما يبدد ملله من الروتين اليومي.. والفتاة الشابة لابد وأنها على يقين مما هي مقبلة عليه.. لكنها بالنظر إلى الطفلة ذات الخمس سنوات خوفها وارتعاشتها وإنكارها.. تستمد صلابتها.
“روث” تقفز في أتونٍ كلما خبت نيرانه تبرَّع الملايين بإزكائها.. العقوبة في الظاهر محددة بمدة خاضعة لقواعد مبنية على أسس قوامها العدالة.. العقوبة في الواقع إعدام للغد.. وجملة “ولكن الحياة تستمر” التي ألقتها على ابن القتيل هي أول من تجزم ببطلانها.. وتعود مؤخرا للاعتراف بأنَّ لا شيء بعد الإدانة إلا مزيد منها.. خزى وعار يلفك للأبد.. يلاحقك يسبقك في تقديم سيرتك الذاتية.. سيرتك الملطخة وكل منظفات العالم عاجزة عن تنظيفها.
كيف ابتلعت قهرها ولسانها؟ تشبيك الذراعين خلف الرأس والانبطاح أرضا.. بلا مقاومة وبتعاون فائق منها لإنهاء صلاحيتها للحياة نزلت بزنزانة مساحتها تقارب مساحة خزانة ملابس.. عشرون عاما تآكلت من شبابها.. سبع وثمانين ألف وستمائة ساعة، وهى تجتهد لتثبت حسن السير والسلوك وحين تخرج تكتشف أنَّ لا فرق.. كلاهما زنزانة أسقطت كل حق لها في الحب في العمل في الاطمئنان حتى ولو من بعيد على من عانت كل هذا لأجلها.
مشهد وحيد تهتم فيه لمظهرها حين يبلغها “كروس” المسئول عن إطلاق سراحها المشروط أنَّها بصدد مقابلة مع والدي شقيقتها بالتبني.. حينها تنظر في المرآة تجتهد لمداراة آثار ضربها على إثر انكشاف سرها في محل عملها.. هي التي لم تفعلها من قبل لتتحسس مثلا تجاعيد شقت طريقها بوجهها.
“أصررت على الصمت سنين طويلة، لم أفتح فمي بكلمة لإنسان، ثم ها أنا ذا أخرج جميع تلك السخافات دفعة واحدة”. دوستويفسكي
في اللقاء المرتب بينهم انفتح الصمام.. تدافعت تساؤلات حُبست عشرين عاما.. مصير خطابات ترسلها إلى شقيقتها وفق نصوص القانون.. خطاب تلو خطاب ولا رد ولا يأس ولا توقف.. ربما كان زادها في وحدتها ومعينها على شقائها الحكي مع الشخص الأقرب إليها.. شخص لأجله تغلق فمها أو تفتحه مطلقة العنان لغضبها حتى يتهمها الوالدين بعدم الاحترام ومن ثم ينسحبان من الجلسة.
“لم يكن مجنوناً كان إنسانا يتألم ألما رهيبا” دوستويفسكي
“روث” تفرغ ألمها ووجعها وغضبها في ذلك المأوى الخشبي للمشردين والذى تعكف على صنعه يوميا بعد انتهائها من دوام عملها الأول.. طاقة رهيبة بقدر المعاناة المكتومة.. طاقة بخروجها في تلك اللحظة تحطم كل الأشياء من حولها أو تحت اعتبارات واجهتنا يتم كبحها وحينها نختار تدمير ذواتنا.. وهو الجنون بعينه.
“على الإنسان أن يميز بين الخير والشر بنفسه، مستلهماً حكم قلبه”. دوستويفسكي
“جون” ورغم كونه يمتهن المحاماة.. أدواته الأدلة المادية والبراهين المنطقية.. بمجرد لقائه “روث” ترحيبه بإلقائها نظرة على منزله توصيلها بسيارته ألهمه قلبه أنها تكذب في كل ما ساقته.. الأشخاص أمثال “جون” ينتمون إلى مستوى آخر من الإنسانية.. يستفسرون يتبينون يلتمسون وبالنهاية لابد وأن يتعاطفوا وكأنَّهم مخوَّلين بدعم التائهين.. ثمة مسئولية بمرافقتهم طريقهم. “جون” منحها بلا أدنى تردد البيزنس كارد خاصته كي تتصل به.. حتى بعدما اكتشف إخفاءها ماضيها هو الوحيد الذى غفر.. كان مستعدا لقبول تبريرها كي يستمر في مساعدتها ودعمها.
ليز زوجة “جون” أسقطت جريمة “روث” على ابنائها والتغاضي عن حقهم بسبب بشرتهم الملونة.. الأحكام القاسية دائمة البحث عن مسكنات للضمير كي يواصل سباته.. وإبعاد ضحية كبرنا وعنادنا الوسيلة الأنجح لنضمن الاستمرار في غينا.. الإحساس بأننا أطهر أرفع درجة.. طواويس مختالة ببراءتها المزعومة.
“كان علي أن أحمل سري معي إلى قبري”. دوستويفسكي
“ليز” وتعنتها الذى قد يُذهب تضحية “روث” هباء هو وحده ما جعلها تبوح.. وحتى هذا البوح لم يتعد التلميح وكانت المتلقية من الذكاء بحيث التقطت المعنى على الفور.. وأقسى عقاب قد يوقعه إنسان بنفسه هو الكتمان.. يعيش حاملا قبرا داخل قفصه الصدري.. يضيق يختنق يُنعت بالعصبية وفى حقيقة الأمر هو يتعذب بنبله.
النبل لا يتخلى عن صاحبه مهما تعرض لضغط لذلك كان من الصعب التصديق بأن مثل “روث” قد تقتل وبدم بارد وبلا دافع متفق عليه.. نبرتها المرتعشة وهى تهدد بإطلاق النار وتصريحها الساذج والطفولي بأنَّ لديها بندقية.. “روث” الناضحة بالأمومة تتلقى السهم عن شقيقتها مرتين.. مرة حين تعترف بأنَّها من ضغطت الزناد.. وأخرى برسوخ فكرة أنَّها من أوحت للصغيرة بالجريمة، وتتمادى فتشفق عليها من تأثير الواقعة متجاهلة ما ينتظرها من سجن أو مهانة.
“إنّ من الصعب على شخص آخر غيرى أن يعرف عمق الألم الذى أعانيه، وذلك لسبب بسيط هو أنَّه ليس أنا بل آخر”. دوستويفسكي
“مايكل” و”راشيل” والدى “كاثرين” شقيقة “روث”.. تبنياها وكان من الضروري أن يعملا على طمس ذكرياتها فهي لن تمنحها سوى المعاناة بل وقد تدمر حياتها.. وضعا خطتهما على أساس من محو أي آثار لـ”روث” غير مدركين لحجم الألم الذى يعرضونها له من جراء فعلتهم.. مثل هذه الآلام لا تخضع لقانون عقوبات لأنَّها لم تُصنف كجريمة من الأساس.. الألم هنا أمر شخصي وعلى صاحبه التعامل معه بمفرده بلا حتى مسكنات.
“كيتي” ابنتهما وربما لحداثة سنها كان سلوكها غير خاضع لحسابات العقل.. قادتها مشاعرها بعدما قرأت خطابات “روث” إلى “كاثرين”.. الخبرات الحياتية تمنح صلابة ولذلك فغيابها جعل الفتاة برقة قطرة ندى في صباح بكر لم تلوثها قسوة بعد.. “كيتى” تجاوزت مرحلة المسكن إلى مرحلة العلاج، فهي بصدد امرأة قاست ألم الانتظار عشرين عاما.
“فرحة الحب عظيمة لكن المعاناة فظيعة، والأفضل للإنسان أن لا يحب أبدا”. دوستويفسكي
“بليك” يشبه زهرة نبتت في صخرة.. الاهتمام في مقابل سيل الإقصاء الذى تتعرض له “روث”.. البائسة استبعدت فكرة أن تصالحها الحياة فتهديها حبيب.. ولذلك أول بادرة منه باتجاهها لاقتها بالعنف ثم مع استيعابها للموقف ترتد طفلة في فرحتها بهديته.. تتوهج شعلة الحب وعلى الفور تلسع الآخرين ليتباروا بإطفائها.. دموع “روث” بعد الهجران لم تكن إلا لوم لنفسها التي غافلتها فمنتها بالأمل.
“يسعى الإنسام دائما إلى الانتقام، لأنَّه يرى أنَّ ذلك من باب العدل والإنصاف”. دوستويفسكي
“كيث” و”ستيف” أبناء الشرطي القتيل وبالطبع عقوبة وصمت “روث” حتى آخر عمرها ونزعهما كل حقوقها لم يكن ليكفيهما.. القانون وحده لا يكفى لتحقيق العدالة، ولابد من تدخل صاحب الحق والثأر على النحو الذى يرضيه.. الانتقام كائن يُولد ضخما لأنَّه يبدأ من لحظة الذروة وكسرا للقواعد فإنَّ هذه اللحظة لا يفتأ أحدهم يعمل على تجديدها لتستمر بذات الغضب والغشم.
تعاطى المشاعر السيئة بجرعات زائدة ولفترات طويلة على رأس مسببات التشوه النفسي.. فتغذية صغير على الثأر مع رفضه لأيٍ من أشكال القانون ينوب عنه في القصاص –أنتج “كيث” وما عليه من تلعثم وتوتر وغضب دائم.. وربما خيانته لـ”ستيف” وإغوائه لزوجته لم يكن مرجعه سوى غيظه من محاولة شقيقه للتخطي والانخراط في حياة طبيعية قوامها أسرة منوط به حمايتها لا تدميرها.
بعض المعادن لا يصدأ حتى مع استفزاز “ستيف” بمرأى الخيانة وتخمر خطة الانتقام من “روث” على نفس طريقتها.. واختطافه من ظنَّ أنَّها شقيقتها فهو بالنهاية لا يستطيع.. يتراجع أمام روح مصقولة لم تتأثر بالغمر في مستنقع حقدٍ وكراهية.. روح تميِّز صدق تضحية هذه المرأة بما تبقَّى لها.. أعتقد أنَّه في تلك اللحظة أدرك أنَّ ثمة تشابه بينهما.. ربما قُدَّا من ذات المعدن، وبرغم طلاء الحياة لهما بالقار ظلت أعماقهما على حالها.
“من بيت طفولتي لم أحضر أي شيء سوى ذكريات ثمينة”. دوستويفسكي
كاثرين أحضرت ذكريات مشوشة حرمتها نوما هادئا بلا رؤى غامضة.. ولعل غالبية من يعانون لديهم نزعة فنية.. يتعافون بموهبتهم.. هم بشر أكثر رهافة لا الكتمان يحتملونه ولا البوح يستطيعون.. الموسيقى بمثابة المنقذ لـ “كاثرين” من هشاشتها.. فحتى مع تعرضها لحادث تصادم لا تتوقف عن التمرين استعدادا لحفلتها الموسيقية المنتظرة.. الحادث الذى وقع إثر التفاتةٍ منها إلى الماضي.
“الصمت دائما جميل، والشخص الصامت دائما أجمل من الشخص الذى يتحدث”. دوستويفسكي
هكذا جاء مشهد اللقاء.. “كاثرين” تأخذ المبادرة.. تتجه إلى “روث” فتحتضنها لتفك كل الطلاسم التي طالما أرقتها.. بينما “روث” تحتاج لبرهة كي تستوعب أن ذنبها قد غُفر من الشخص الوحيد الذى يعنيها.