نقلا عن مجلة صباح الخير، لقراءة المصدر الأصلي، أضغط هنا
سنة واحدة فقط لا غير أمضاها الأستاذ الكبير «صلاح جاهين» فى رئاسة تحرير مجلة صباح الخير سنة 1966 وكان ثالث رئيس تحرير لها بعد كل من الأستاذ «أحمد بهاء الدين» والأستاذ «فتحى غانم»! كان الأستاذ صلاح جاهين قد ترك صباح الخير سنة 1962 ثم عاد ليتولى رئاسة تحريرها عام 1966 ليتركها أيضًا.
ومنذ أول عدد أصبح مسئولا عنه، كان يحلم بـ «صباح الخير» جديدة فى كل شىء، واختار أن يكتب بابًا أسبوعيًا عنوانه «فى الفاضية والمليانة» وخرج على القراء بمقال يشرح فيه حلمه الصحفى وكتب يقول:
«عوَّدتك مجلتك «صباح الخير» التى يتغنى بحبها الطير أن تخرج إليك فى كل مرة بشىء جديد: ابتسامة جديدة «تبويزة جديدة، صداقة جديدة، خناقة جديدة، وهاهى تخرج إليك الآن بهذا الثوب الجديد الذى نرجو أن يعجبك!
سهَّرنا حسن فؤاد – المشرف الفنى وقتها – وأنا فى بيته بالروضة نصنع لها هذا الثوب الجديد، وتذكرنا، تذكرنا أول ثوب صنعناه لها قبل أن تولد، كنا فى نفس الغرفة «نفس المكتب» وكنا نجلس متقابلين كل منا على نفس المقعد فى نفس الناحية.
كنا نفس «الإنسانين» بنفس الإيمان ونفس التفاهم ونفس الحماس، ولكننا لم نكن نفس العمر، فى هذه المرة كنا أكبر بأحد عشر عامًا، حسن أصبح «أسمن» قليلاً، والعبد لله أصبح «أعقل قليلا»! وشعر رأسه أصبح «أنحل» كثيرًا وأشيب كثيرًا، والحمد لله أولاً وأخيرًا.
وطال بنا السهر حتى الصباح كما حدث فى المرة الأولى، ولكن عندما هممنا بالقيام آلمتنا ظهورنا بعض الشىء! ولم نكن من قبل نألم من شىء.. كنا نتوجع ونتأوه كثيرًا أى نعم! وإنما فقط على سبيل المزاح وتمضية الوقت.. نهايته نظرنا إلى الثوب الجديد وأعجبنا بما صنعته أيدينا.. وأدركنا أن الأعوام «الأحد عشر» التى مرت، لم تكن إحدى عشرة عربة سكة حديد دهست فوقنا وفرمتنا، وإنما إحدى عشرة محطة مررنا بها فى رحلتنا نحو هدف الكمال!
أحد عشر عامًا من التجربة والخبرة بالحياة وبأذواق ورغبات القراء.. وكوينا الثوب الجديد وسلمناه لها لترتديه، وافترقنا كل إلى شأنه، المستشار الفنى دخل مرسمه، ورئيس التحرير سافر إلى يوجسلافيا.
لذلك أرجو يا عزيزى القارئ أن تتصفح المجلة بدلاً منى لأنى لن أرى هذا العدد إلا بعد عودتى، وأن تبدى ملاحظاتك على كل شىء لأنك أنت رئيس التحرير الفعلى فى غيبتى وفى حضورى».
••
ولم يكتفِ الأستاذ «صلاح جاهين» بهذه الكلمات، بل عاد فى مقال آخر يقول: «استولى الرسامون الكاريكاتوريون ومن لف لفهم على مجلة صباح الخير، وأظنك كنت ملاحظًا منذ البداية بما لديك من الفراسة والدراية أن هؤلاء الناس ناويين يعملوها.. فمنذ اللحظات الأولى لصدور «صباح الخير» بدت للعين الخبيرة «لطع» الكاريكاتير متناثرة هنا وهناك، وسرعان ما ظهر «الفقس»، وتكاثرت النكت والقصائد والأزجال والغمزات واللمزات والمناكفات والمناغشات وانتشرت انتشار النار فى الهشيم!
وقد كان أسلافى فى رئاسة تحرير هذه المجلة من الأدباء الجادين والساسة المرموقين، ولكنهم لم يبخلوا على «صبوحتهم» الحلوة القمورة بجنس شىء فى نفسها.. شجعوا فيها الكاريكاتير إلى أقصى الحدود، وأصدروا لها ما لذ وطاب من الأعداد الممتازة التى يطغى عليها هذا الفن، كما يطغى العسل الأبيض على الزلابية والكريم شانتيه على ذلك الصنف الذى رأيته فى كافيتريا الهيلتون ولا أعرف له اسمًا!
ولكن هذا لم يزدها إلا «فجعنة» و«فرعنة» وميلاً إلى أن تصبح مجلة للكاريكاتير والكتابة الخفيفة المرحة وخلاص.. وأن تنذر نفسها كليا للضحك والتنكيت والتشويح والتشليت، متطلعة إلى الأمثلة العديدة فى البلاد البعيدة، ففى إنجلترا عبر «المانش» هناك مجلة «المانش» وفى روسيا بعد الدردنيل هناك مجلة «كروكوديل» وفى أمريكا مجلة «ماد» التى يضحك لها «الجماد»، وفى إيطاليا معرفش إيه وفى فرنسا «الكانار أنشينيه»! وقد كان.. وهاودناها على مزاجها.. وتعهدنا لها بأن نحولها إلى ما نريد فى مدى أشهر تقل أو تزيد.
وينتهز الأستاذ «صلاح جاهين» فرصة الاحتفال بعيد ميلاد المجلة ليكتب: «كل سنة وأنتم طيبين يا قراء حلوين، أولاً بمناسبة عيد الفطر المبارك أعاده الله علينا وعلى أمة المسلمين بالخير والبركات، وثانياً بمناسبة عيد الميلاد الحادى عشر لمجلتكم الظريفة «صباح الخير» التى يتغنى بحبها الطير».
أحد عشر عاماً أيها القراء العزاز والمجلة تصدر كل أسبوع، لا قاطع ولا ممنوع، سواء كان الواحد منا على قيد الحياة والّا توفاه الله.. لابد أن تصدر فى موعدها كل يوم خميس، وستصدر كل خميس إن شاء الله إلى يوم القيامة حين يرث الله الأرض ومن عليها.
وأنه لشىء مسل حقاً أن يحاول الواحد منا أن يتخيل أعداد «صباح الخير» التى ستصدر فى قادم الأعوام، بعد أن يصبح لها من العمر لا أحد عشر عاماً فقط وإنما ألف عام مثلاً، سيكون العدد الممتاز الذى يصدر من مجلة صباح الخير بمناسبة مرور ألف عام على إنشائها عدداً عجيباً جداً، وربما كان بلغة عربية غير هذه التى نستعملها، بل إنه لمن المؤكد أن اللغة العربية التى سيستهلها محررو وقراء صباح الخير بعد ألف عام ستكون مختلفة تمام الاختلاف عن اللغة العربية التى نستعملها الآن!
والدليل على ذلك أننا الآن عندما نقرأ «الجبرتى» تجد عنده لغة تختلف فى مفرداتها واستعمالاتها عن اللغة المعاصرة، خذ مثلاً كلمة «نكتة» هذه الكلمة كان الجبرتى يقصد بها كل حادثة خارقة للعادة سواء كانت مضحكة أو محزنة، وبينما نحن نقصد بها الآن القصة الفكاهية القصيرة جداً، أو الصورة الكاريكاتورية التى تشترك مع التعليق عليها فى التعبير عن موقف فكاهى بقصد انتقاد شيء أو الضحك عليه فقط لا غير!
وليس بعيداً يا أعزائى القراء أن تكون كلمة «الضحك» معناها «البكاء» فى تلك الأيام العجيبة القادمة، وكلمة «انتقاد» معناها «مدح» وكلمة «تعليق» معناها حل مسألة حسابية، وكلمة تعبير معناها.. وإلا بلاش أحسن تكون معناها كلمة عيب واللا حاجة!!!
وفى نفس المقال يتحدث عن المكتب والغرفة التى يعمل بها فيقول:
أجلس الآن وأكتب على مكتب فخم جداً، مكتب مثل الذى يرسمه «حجازى» عندما يريد أن يشد السلخ على المديرين، ولكن شكلى وأنا جالس على هذا المكتب يبدو غير متناسق على الإطلاق! فأنا دائماً دقنى طويلة وقالع جاكتتى ومشمر أكمامى ولا يغركم أننى تخين، فتخين ليس من نوع تخن المديرين والرأسماليين وإنما من نوع تخن الجزمجية والفرانين.. ومن حولى تتناثر مقاعد مثيرة من نفس الطراز ذات كساء نبيتى سميك منقوش عليه حلية فارسية والأرض مفروشة بسجادة تبدو كما لو كانت فارسية، ولا أعرف إن كانت كذلك حقاً أم لا؟ ثم دولابين للكتب من الخشب الداكن الثمين منحوت عليهما نفس النحوت التى على المكتب والمقاعد وهى التى سبق أن شبهتها لحضراتكم بما يرسمه «حجازى» فى كاريكاتيراته التى بيتريق فيها على ثراء وإسراف المديرين»!
ولكن لماذا أجلس أنا فى هذه الغرفة؟! هل ضاقت الدنيا عليك يا بعيد فلم تجد إلا هذه الغرفة ذات النهايل الخشبية لتجلس فيها ثم تقول أنا شكلى غير متناسق معها؟ ولا أجد رداً إلا فى قيمتها المعنوية بالنسبة لأسرتنا الصحفية.
إن لهذه الغرفة أهمية خاصة بالنسبة لنا فى مجلة صباح الخير التى يتغنى بحبها الطير، فمن قبلى كان يجلس فيها «فتحى غانم» ذلك الأديب الفنان الخجول الضخم ذو الجبهة البارزة والبسمة الحانية، وعلى هذا المكتب بالذات أنتج لقراء العربية أجمل كتاباته وقصصه التى ترجمت فيما بعد إلى لغات العالم، ومنه خرج إلى وكالة أنباء الشرق الأوسط رئيساً لمجلس إدارتها ثم إلى دار التحرير ورئاسة تحرير جريدة الجمهورية.
ومن قبله كان يجلس «أحمد بهاءالدين» رقيقاً دقيقاً. حازماً. حاسماً فاهماً لكل صغيرة وكبيرة، لماحاً لكل ما يبشر بخير، ولازلت أذكر نفسى واقفاً أمامه فى عام 1959 أقول له وأنا أدور على كعبى واضعاً كفوفى فى جيوبي:
– اسمع يا بهاء: أنا عملت حاجة كده وأنا ماشى فى الشارع شكلها زى الرباعيات بقول: مع أن كل الخلق من أصل طين.. وكلهم بينزلوا مغمضين.. بعد الدقايق والشهور والسنين.. تلاقى ناس، أشرار وناس طيبين.. عجبى».
وأنصت بهاء باهتمام معتدل فهو لا يظهر الاهتمام الشديد ولا العكس وقال لي:
– كويسة.. تقدر كل أسبوع تنزل واحدة زى دى تحت عنوان «رباعيات»!
ومن قبل «بهاء» كانت هذه الغرفة «للست» ذات نفسها السيدة «فاطمة اليوسف» وكنت كثيراً ما أدخل عليها فى هذه الغرفة، فقد كنا أول من يصل إلى الدار، ولم أكن أتبادل معها كلاماً كثيراً، كنت أسلم عليها وخلاص، ثم أنصرف إلى حال سبيلى أرسم أو أنزل المطبعة أو أبص من البلكونة على البنات اللى رايحين المدرسة، ولم أتناقش معها مرة واحدة فيما أصنع فى المجلة ولكن إحسان عبدالقدوس – الله يصبحه بالخير – هو الذى يقول لي: الست مبسوطة منك!