رؤى

“برتراند راسل” طفولة موحشة وعبقرية فذة

مقدمة:

يعتبر “برتراند آرثر وليام راسل” واحدًا من أشهر الفلاسفة في القرن العشرين، وقد أبدع الكثير من المؤلفات والكتب التي تركت بصمة واضحة على الذين جاءوا من بعده من الفلاسفة. ولقد تعددت مواهب “راسل” فهو فيلسوف وعالم منطق ورياضي وناقد اجتماعي. ويعد أيضا أحد مؤسسي الفلسفة التحليلية إلى جانب سلفه “جوتليب فريجه” وتلميذه “لودفيج فتجنشتين”.

برع “راسل” في علم المنطق والرياضيات وألّف مع “الفريد نورث وايتهد” كتابا ذائع الصيت هو “مبادئ الرياضيات” وقد حاول في هذا الكتاب شرح الرياضيات بالمنطق. وتعد مقالته الفلسفية عن “التدليل” نموذجا فكريا في الفلسفة، وما تزال لها أثرها الواضح على المنطق والرياضيات ونظرية المجموعات واللغويات وفلسفة اللغة. وكان “راسل” إلى جانب اهتماماته الفلسفية والمنطقية ناشطا بارزًا في مناهضة الحرب. وقد سُجِنَ بسبب نشاطه الداعي إلى السلام، وخسر جرَّاء ذلك منصبه كأستاذ في جامعة كمبريدج. قام بحملات ضد نهج “هتلر” وانتقد شمولية “ستالين”. كما كان من أنصار نزع الأسلحة النووية؛ فوقَّع مع “ألبرت أينشتاين” بيانا ندد فيه بالآثار المدمرة لتلك الأسلحة. وقد حصل في عام 1950 على جائزة “نوبل” في الآداب تقديرا لكتاباته المتنوعة التي دافع فيها عن المثل العليا وحرية الفكر والتعبير. وعلى الرغم من النشأة الارستقراطية المترفة، إلا أن “راسل” عانى الوحدة والعزلة الاجتماعية كما سوف نرى؛ لأن تلك النشأة الارستقراطية فرضت عليه قيودا وعادات وتقاليد متزمتة؛ ألقت بظلالها على شخصية “راسل” وجعلته شخصية منعزلة، وغير مندمج اجتماعيا يميل إلى الوحدة ويعتريه الخجل، ما جعله يبذل كل طاقته في العمل والتأليف الفلسفي، فأبدع الكثير من المؤلفات التي تركت آثارا واضحة على الفلاسفة بوجه عام والإنجليز منهم بوجه خاص.

نشأة ارستقراطية وعزلة اجتماعية:

ولد “راسل” في 18 مايو عام1872، في أسرة أرستقراطية من نبلاء مدينة “بيدفورد” في إنجلترا، وكان جده لأبيه هو اللورد “جون راسل” الشهير الذي تقلَّد منصب رئيس وزراء إنجلترا فيما بعد. وكان والدا “راسل” زوجين غير عاديين ومثيرين للجدل، إذ كانا ملتزمين بالقضايا التقدمية مثل تنظيم الأسرة وحق التصويت للمرأة.

فقد “راسل” والديه وشقيقته “راشيل” التي أصيبت بمرض الدفتريا في يناير عام 1876، ووضع “برتراند” وأخيه “فرانك” تحت وصاية جدهم لأبيهم، وعاشا فترة في مدينة “بيدمبردك لودج”. لكن لسوء الحظ توفى جدهما في عام 1878.

عند بلوغ “برتراند” سن التعليم خصص له جده لأمه معلمين؛ لتعليمه في المنزل، ونتيجة لذلك قضى “راسل” طفولته محروما من صحبة أطفال آخرين. ما كان له بالغ الأثر في ميله إلى العزلة والوحدة.

كان الجو العام في المنزل جوا من التقوى والتقشف المتزمت، وكان الطعام في بساطة الطعام “الإسبرطي” طعام بسيط لا تكلف فيه ولا إسراف. من هنا اتسمت طفولة “راسل بالوحدة والعزلة والخجل، فلم يُجرِّب متع الطفولة الاجتماعية. ولعلنا نشير هنا إلى ملاحظة مهمة وهي أن طفولة “راسل” كانت موحشة لكنها لم تكن تعيسة. ومع دخوله مرحلة البلوغ أخذت عزلته الفكرية والعاطفية تزداد ألما؛ لأنه كان وحيدا بين أسرة من كبار السن متباعدين عنه من كل النواحي. وكان الرابط الوحيد الذي يربطه بالعالم الخارجي هو مجموعة متعاقبة من المعلمين الخصوصيين. ولعل “راسل” وجد العزاء والسلوى فيما بعد للخروج من تلك العزلة الموحشة في الطبيعة من حوله، حيث كانت توجد مساحات شاسعة من الأراضي الخضراء والحدائق تحيط بالمنزل. وكذلك وجد في عشقه للرياضيات ملاذا وخلاصا من الإحساس بالوحدة والعزلة. ولعل حبه للرياضيات جاء مع أول إهداء كتاب للرياضيات من جدته. ومن هنا استطاع “راسل” تجاوز الإحساس بالعزلة الاجتماعية عن طريق الانغماس في القراءة والتأليف.

الفلسفة التحليلية وابداعات رسل:

يعتبر “راسل” من أهم رواد الفلسفة التحليلية المعاصرة مع “جورج مور” و”فتجنشتين”. ولقد أكد “راسل” أكثر من مرة على انتمائه إلى التحليلية. والتحليل عند “راسل” هو التحليل المنطقي، والنتائج التي يتوصل إليها بواسطة التحليل هي نتائج منطقية (ذرات منطقية) وليست فيزيائية. وبناء على ذلك حدد “راسل” لنفسه منهجا فلسفيا كان يسميه بأسماء متعددة منها التحليل –التحليل المنطقي- التحليل الفلسفي. فهو على سبيل المثال يقابل بين التحليل ((analysis والتركيب ((synthesis وترتبط مقابلته بينهما بثورته على المذاهب المثالية. ويعتقد راسل أن من خصائص التحليل هو تقسيم المشكلات الفلسفية التقليدية إلى عدد من المشكلات الجزئية. ولقد اعتبر “راسل” المنطق صميم ماهية الفلسفة، لأنه قد فطن إلى أن التحليل والفلسفة التحليلية هي الكفيلة بإظهار أن المشكلة فلسفية أو ليست فلسفية على الإطلاق.

فالتحليل عند “راسل” هو عملية ذهنية نقوم بها حينما نحاول توضيح التصورات  والعبارات سواء في ميدان الفلسفة أم في ميدان الحس المشترك. ويقسم “راسل” التحليل إلى ثلاثة أقسام: أولها التحليل باعتباره تعريف، فالتحليل هنا يستخدم على أنه صورة من صور التعريف. ثانيها التحليل باعتباره تبريرا، أي تبرير ما نعتقده من مبادئ وقضايا. ثالثها التحليل باعتباره نوعا من الاختزال أو الرد سواء كان هذا الرد فيزيائيا أو لغويا أو رياضيا. ولعلنا هنا نلفت الانتباه إلى أن طبيعة التحليل عند “راسل” هو الاهتمام بالصور المنطقية وخاصة نظرية العلاقات الخارجية. ولقد كان “راسل” في فلسفته ينشد الدقة واليقين العلميين، ومن هنا رأى أن للغة تأثيرا على الحس المشترك. وفي هذا السياق نشير إلى أن “راسل” طبق منهج التحليل المنطقي على الكثير من المشكلات الفلسفية، استخدمه مثلا في تحليل الموضوعات المادية إلى المعطيات الحسية. كما استخدم نظرية الأوصاف لتحليل القضايا والعبارات اللغوية والرياضية. وتهدف نظرية الأوصاف عند “راسل” إلى استبعاد الجمل التي ليست بأسماء حقيقية، وبالتالي استبعاد الكائنات غير الواقعية. ومن هنا نستطيع القول أن التحليل عند “راسل” هو منهج منطقي عام، يهدف إلى إقامة صرح الفلسفة العلمية. ولعلنا نشير هنا إلى أن من أهم أهداف التحليل عند “راسل” ازدياد المعرفة، فالتحليل يمدنا بمعرفة جديدة. وخلاصة القول لقد أراد “راسل” لفلسفته أن تكون تحليلية الطابع.

إبداع وتميز:

لعل من أبرز لحظات الإبداع والتفوق في مسيرة “راسل” العلمية والفلسفية هي التحاقه بجامعة كمبريدج في الثامنة عشرة من عمره، حيث شعر بالارتياح، ووجد نفسه بين قوم يتكلمون نوعا من اللغة الرصينة والأحاديث العلمية التي كان يعشقها “راسل” فإذا أخذ في التفلسف لم يحملقوا فيه كأنه مجنون. ووجد نفسه في عالم يقدر الذكاء، ويحترم الموهوبين. وفي الجامعة كوَّن صداقات، ولم يعد مضطرا لاحتمال الوحشة التي عانى منها في سنوات المراهقة. وعندما انتهى من دراسته الجامعية كان عليه أن يقرر إن كان سيهب حياته للفلسفة أم السياسة. فاختار الفلسفة وأبدع فيها، وبدأت رحلة التفوق والتميز في مسيرته العلمية والفلسفية، عندما تفوّق في الاختبارات المؤهلة لمنحة للالتحاق بكلية “ترينتي” والتحق بها في عام 1890. ونجح “راسل” وصنف بين المتفوقين في امتحانات درجة الشرف بجامعة كمبريدج  في الرياضيات، وكان ترتيبه من الأوائل في تلك المنحة. كما صنف من المتفوقين مع مرتبة الشرف في امتحانات العلوم الأخلاقية في العام التالي. ثم بدأ يكتب أطروحة الزمالة الجامعية في الهندسة. وذلك على خطى “كانط” الذي كان له التأثير الأكبر في آرائه في ذلك الوقت. ووصلت مؤلفات “راسل” الإبداعية الى 71 كتابا ومؤلفا لعل أولها كتاب الديمقراطية الاجتماعية الألمانية أثناء إقامته في برلين. كما خطرت له فكرة إنشاء مشروع بحثي كبير يضم خطين للبحث أحدهما يتناول العلوم الطبيعية والآخر يتناول المسائل الاجتماعية. ولعل من أبرز نجاحات “راسل” هو إلقاء محاضرات في جامعة هارفارد الأمريكية التي أحدثت شهرة عالمية، ونشرت تلك المحاضرات في كتاب “معرفتنا بالعالم الخارجي” وأيضا من الكتب الرائجة التي حقق فيها “راسل” إبداعا ملحوظا كتاب “ألف باء النسبية” و”كتاب الأخلاق والزواج” و”الفوز بالسعادة”. أيضا كتاب “تحليل العقل” ومن خلاله وجهت له الدعوة لإلقاء محاضرات في جامعة كمبريدج عام 1925. وفي عام 1936، ألَّف كتاب “أين الطريق الى السلام” وتم اختياره للحصول على الزمالة الشرفية للأكاديمية البريطانية. كما منح وسام الاستحقاق من الملك جورج الخامس، ثم جائزة “نوبل” في الآداب عن كتابه “الأخلاق والزواج”. وظل “راسل” يخط لنفسه طريقا مميزا، ويحتل مكانة فلسفية وعلمية بين أبناء جيله، حتى سجل بأحرف من نور ملحمة علمية وفلسفية مميزة، جعلته يحتل مكانة سامية وسامقة في سجل الخالدين. وظل حتى وفاته يناضل ضد الأسلحة النووية والحروب التي تفتك بالأخضر واليابس. ويلقي المسئولية على كل الدول التي تقوم بتلك الحروب.. حتى توفي في فبراير عام 1970.

صفوة القول:

أن راسل كان فيلسوفا مميزا، وصاحب عقلية فذة، ترك بصمات واضحة على من جاء بعده من الفلاسفة. ولم تَحُلْ طفولته الموحشة دون تقدمه، وتحقيقه لنجاحات ملحوظة. والإبداع في ميادين الفكر والفلسفة والعلم والثقافة، وأن يحصل على أعلى الجوائز والأوسمة. إنها رحلة تفوق وإبداع تستحق التسجيل، وتستحق الإشارة إليها. إن راسل سجل اسمه بأحرف من نور في سجل التاريخ. على أنه شخصية اجتازت كل العقبات، ولم يلق بالا لأي عقبة اعترضت مسيرته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock