ولد أبو علي بن يعقوب المُلقب بمسكويه في الرِّي ومات في أصفهان (عام 421 هـ/ 1030 م). وقد زعم “ياقوت” في “معجم الأدباء” أنه كان مجوسيا ثم اعتنق الإسلام، ولكن هذا يعد أمرًا بعيد الاحتمال. إذ إن في وصايا “مسكويه” الخلقية، ما يدلنا على تمسكه بالشريعة الإسلامية، كما أن تعمّقه بمجال الإسلام وشريعته لا يتناسب مع هذا الاحتمال.
على أية حال، فقد عاش مسكويه في ظل الدولة البويهية، وانتقل إلى بغداد، واتصل بالحسن بن محمد الأزدري الوزير المهلبي، وعمل كاتمًا لسر الوزير معز الدولة بن بويه. وعند عودته إلى “الري” أصبح أمينًا لخزانة كتب الوزير ابن العميد ولابنه أبي الفاتح؛ كما أنه اتصل بعضد الدولة بن بويه، حيث عمل خازنًا لكتبه، وكان مأمونًا لديه أثيرًا عنده كما يقول “القفطي”.
النفس والأخلاق
وقد ترك لنا مسكويه كتبًا كثيرة، تشير إلى تنوع مجالات الكتابة لديه، بين الفلسفة والتاريخ والكيمياء والطب واللغة؛ منها: “تجارب الأمم في التاريخ” و”السعادة” و”الفوز الأكبر” و”الفوز الأصغر”.. ثم كتابه “تهذيب الأخلاق” الذي يُعد من أهم كتبه في مجال الفلسفة الخلقية.
وإذا كنا نجد في هذا الكتاب بعض الموضوعات التي قد تكون بعيدة عن مجال الفلسفة الخلقية، إلا أن الموضوعات الرئيسة فيه هي الموضوعات الخاصة بمسألة الأخلاق، ويتضح هذا حين يحدد “مسكويه” الغرض من تأليفه هذا الكتاب.
يقول “مسكويه”: “إن غرضنا أن نحصل لأنفسنا خلقًا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة، ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي. والطريق في ذلك أن نعرف أولًا نفوسنا ما هي؟ وأي شيء هي؟ ولأي شيء أوجدت فينا؟ أعني كمالها وغايتها وما قوّاها وملكاتها التي إذا استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرتبة العليا؟ وما الأشياء العائقة لنا عنها؟ وما الذي يزكيها فتفلح، وما الذي يدسيها فتخيب؟ فإنه عز من قائل يقول: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا • فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا • قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا • وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا” [الشمس: 7 – 10]…”.
وقد أشار مسكويه، إلى أن الفلاسفة والعلماء قد اختلفوا حول مفهوم النفس، فمنهم من قال: “أن النفس واحدة ولها قوى كثيرة” وقال آخرون: “بل هي واحدة بالذات كثيرة بالعرض والموضوع”. أما في رؤيته فإن “جوهر النفس هو ذات الإنسان ولبه وخلاصته” وإن هذا الجوهر “ليس بجسم ولا يلزمه شيء من أعراض الجسم، أي لا يتزاحم في المكان لأنه لا يحتاج إلى مكان، ولا يحرص على البقاء الزماني لاستغنائه عن الزمان، وإنما استفاد بالحواس، فإذا كمل بها ثم خلص منها، صار إلى عالمه الشريف القريب إلى بارئه”.
وعليه فالكمال الذي يحققه اشتباك النفس بالبدن، هو كمال نسبي في نظر “مسكويه” ولا يتم الكمال للإنسان إلا بعد تحرر النفس من البدن والتحاقها بالرفيق الأعلى. والواقع فإن قراءة أفكار “مسكويه” لا تُبين أنه يُطلق هذا الحكم، أي كمال الإنسان بعد الموت بدون شرط؛ بل يُقيده بالالتزام بالفضيلة والحكمة والشريعة.
تهذيب الأخلاق
ورغم التزام مسكويه في كتابه “تهذيب الأخلاق” بالشريعة الإسلامية، حيث يشير إلى ذلك مرارًا؛ إلا أنه –في ما يبدو– قد تأثّر كثيرًا بأفكار أفلاطون وأرسطو في تحديد النفس وتقسيمها؛ حيث بيَّن أن للنفس قوى، وأن لهذه القوى مراتب، وأن مراتب الناس بحسب هذه القوى.
وحول التساؤل: ما هو آخر الأفق الإنساني؟ يُجيب “مسكويه”: “فإذا صار إلى آخر أفقه اتصل بأول أفق الملائكة، وهذا أعلى مرتبة للإنسان. وعندها تتأحد (تتناهى) الموجودات ويتصل أولها بآخرها وآخرها بأولها؛ وهو الذي يُسمى دائرة الوجود، لأن الدائرة هي التي قيل في حدها إنها خط واحد يبتدئ بالحركة من نقطة وينتهي بعينها”.. وقد واصل مسكويه شارحًا دائرة الوجود بقوله: “ودائرة الوجود هي المتأحدة (المتناهية) التي جعلت الكثرة وحدة، وهي التي تدل دلالة صادقة برهانية على وحدانية موجدها وحكمته وقدرته، تبارك اسمه وتعالى”.
ولعل أهم ما يمكن ملاحظته في شأن “تهذيب الأخلاق” عند “مسكويه” هو الربط بين الجوانب الخلقية والجوانب النفسية. ورغم أن هذا نجده عند كثير من مفكري الإسلام الذين اهتموا بالدراسات الخلقية، ومنهم المتصوفة إلا أن “مسكويه” يغلب عليه الجانب الفلسفي أساسًا، حين يربط بين المجال الخلقي والمجال النفسي.
وهذا هو ما يتبدّى بوضوح من مقالات الكتاب التي يبحث فيها عن النفس، وكيف أنها تعد جوهرًا له طبيعة، غير طبيعة الجسم. كما يفرق بين الخير والسعادة. ويبين كيف يحتاج الناس إلى “الاتحاد”.
ويظهر الجانب الفلسفي عند “مسكويه” في رؤيته لضرورة التفرقة بين إدراك الحواس وإدراك العقل.. فالحواس لا تدرك إلا المحسوسات، أما النفس فإنها تدرك المعقولات وتدرك أسباب الاتفاق والاختلاف. كما أن لديها بعض المبادئ العليا التي لم تستفدها من مجال الحس، بل إنها تصحح كثيرًا من أخطاء الحواس.
والقارئ لهذا الجانب من فلسفة “مسكويه” يلاحظ –ليس فقط– أنه يربط بين حديثه هذا عن المعرفة وبين دراسته للأخلاق؛ بل أيضًا أنه لا يقف عند حدود المحسوسات، حتى لا يؤدي به ذلك إلى الاقتصار على الذات الحسية، ولكنه يريد الصعود من المحسوس الجسماني إلى الجانب النفسي أو العقلي، حتى يكون بإمكانه التحدث عن الفضائل النفسية المعنوية، والقيم العليا الخلقية التي يطلب منا الالتزام بها.
الاجتماع والأخلاق
ولعل ما يوضح تفضيل “مسكويه” للنفس على الجسم (البدن) أو العقل على الحس، هو تقسيمه لقوى النفس (القوة الناطقة والقوة الغضبية والقوة الشهوانية) وتحديده لكل منها فضيلة (الحكمة، وتأتي عن العلم.. الشجاعة، وتنتج عن الحلم.. العفة). ثم في حديثه عن فضيلة رابعة، هي “العدل” يشير إلى أن “أجناس الفضائل أربعة: الحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة”.
وقد أقام “مسكويه” علاقة وثيقة بين الجانب الوجداني كالشعور باللذة، والجانب العقلي كالتحلي بالحكمة من جهة؛ وبين هذين الجانبين والجانب السلوكي من جهة أخرى. وبالتالي ربط بين الفضيلة واللذة، وبين السعادة واللذة القصوى؛ حيث يقول: “فالأفعال الفاضلة والغايات التي ينتهي إليها بالفضائل لذيذة محبوبة، فالسعادة ألذ من كل شيء”.
بيد أن الأمر الجدير بالتأمل هنا، أن “مسكويه” في معرض دراسته للفضائل، يذهب إلى أن الإنسان لا يمكنه تحقيق الفضائل والوصول إلى السعادة إذا عاش وحده؛ فهو يحتاج إلى معاونة الآخرين له. بمعنى “إن الإنسان اجتماعي بطبيعته”. وهذا ما أدى بمسكويه إلى نقد مسلك الزهاد الذين يفضلون الحياة في العزلة بحيث يبتعدون عن غيرهم من الناس.
إذ إن “مسكويه” يرى أن الزاهد يعد جائرًا على غيره، لأنه يعتمد على الناس حتى في حاجاته الضرورية، ويطلب منهم أن يعاونوه في الوقت الذي لا يقدم فيه معونة لهم. وهذا يعد جورًا وعدوانًا، فالإنسان “كما يأخذ لابد أن يعطي”.
وهكذا يدعو “مسكويه” إلى أخلاق تقوم على الاجتماع لا الانعزال، بحيث تكون أولى الواجبات محبة الإنسان لكل الناس، فبدونها لا تقوم أية جماعة إطلاقًا.