رؤى

البروفيسور والمجنون.. عن قاموس أكسفورد ومعاناة البشر

تبدأ مشاهد الفيلم بمطاردة في شوارع مظلمة.. المُطَارد يحاول الوصول إلى منزله؛ لكن مُطَارِدَه يلحق به على باب المنزل، ويرديه قتيلا أمام زوجته.. في جلسة المحاكمة نتعرف على هوية القاتل.. إنه دكتور “وليام تشيستر مينور”.. جرّاح أمريكي قاتلَ في الحرب الأهلية، ونتيجة لما عاينه من فظائع، شارك في بعضها يصاب الرجل بجنون الاضطهاد، وفي إحدى نوباته يتعقب الرجل الخطأ وينهي حياته.. لذلك يحكم عليه بالاحتجاز في مصحة نفسية.

على الجانب الآخر نرى “جيمس موراي” عالم اللغة الذي يسند إليه إنجاز قاموس “أكسفورد” الإنجليزي بعد أن أوشك المشروع على الفشل.. يرى “موراي” أن المشاركة الشعبية عن طريق إرسال الرسائل المتضمنة للكلمات ومعانيها وأصولها إلى فريق العمل؛ سيكون هو السبيل الأفضل لإنقاذ المشروع الضخم من الانهيار.. ليس لدى “موراي” شهادات أكاديمية مرموقة؛ لكنه مثقف موسوعي، وعالم لغوي فذ، وهو ما أهله لتلك الوظيفة التي ستثير حسد علماء “أكسفورد” الذين سيحاولون بشكل أو بآخر عرقلة جهوده.

البروفيسور والرجل المجنون

يجتمع مصير “مينور” و”موراي” عندما يبدأ الأول في إرسال مساهماته العلمية الدقيقة التي ستصل إلى عشرة آلاف كلمة بأصولها واستخداماتها في اللهجات الإنجليزية المختلفة وشواهد صحة استدلالاته عليها- من محبسه الذي يعاني فيه أشد المعاناة بسبب مرضه العقلي، وما ينتابه من نوبات الشعور المرير بالذنب.. يحاول الجرّاح “مينور” التنازل عن معاشه الشهري الضخم لصالح أرملة القتيل وأطفالها الستة، لكن المرأة ترفض طلبه، قبل أن تتطور العلاقة بينهما إلى الحب!

يُستغل أمرُ إسهامِ قاتلٍ مختلٍ عقليا في إنجاز القاموس؛ بصورة انتقامية من جانب علماء “أكسفورد” الناقمين على “موراي” ما يدفعه إلى مواصلة التحدي، وتبرئة ساحته والحصول على ثقة المسئولين عن المشروع بعد تلك الهزة الشديدة التي أحدثتها تلك الوشاية؛ كما يقرر زيارة “مينور” في محبسه والتعرف عليه، ومحاولة تقديم العون له.

يتعاطف السجّان “مونسي” مع دكتور “مينور” الذي أنقذ حياة أحد الحراس ببتر ساقه عند سقوط البوابة الحديدة عليها. يحاول السجّان مساعدته، فيذهب لمنزل الأرملة لأكثر من مرة محاولا إقناعها بقبول معاش “مينور” بعد ذلك يدبر أمر لقائه بالمرأة، ويخفف عنه معاناته ذات الأوجه المتعددة.

البروفيسور والرجل المجنون

بعد اللقاء الأول بين “موراي” و”مينور” تنشأ بينهما علاقة صداقة وطيدة، يستمر “مينور” في العمل على حل المعضلات التي تواجه فريق العمل في القاموس، ويعرب لصديقه من خلال رسائله عن ضعف قدرته على الصمود، أمام ما يعانيه من آلام نفسية رهيبة، ويسعى “موراي” من خلال زياراته المتكررة له في محبسه إلى إخراجه من حالة اليأس التام التي وقع فيها.

يفلح البروفسير في النهاية في استصدار قرار من رئيس الوزراء بإعادة دكتور “مينور” إلى الولايات المتحدة بوصفه شخصا غير مرغوب في بقائه بإنجلترا.

بعد رحيل دكتور “مينور” يواصل “موراي” العمل بكفاءة ونجاح، حتى يُنجز الأجزاء التي كُلِّف بإنجازها من القاموس الذي استمر العمل فيه نحوا من سبعة عقود قبل أن يُنجز بشكل نهائي.

لعب “ميل جبسون” دور العالم “جيمس موراي” باقتدار واستطاع استعادة أمجاده التمثيلية؛ فجاء أداؤه منضبطا ومناسبا جدا للشخصية الرصينة، أما “شين بين” فقد تألق بشكل لافت في أداء دور دكتور “مينور” وقد رسمت شخصية المحارب القديم المحطم بطريقة معقدة وممتعة لرجل مثقف وجراح ماهر، ولكنه أيضا روح معذب يائس وواقع في أسر هواجسه.. استطاع “بين” الوصول إلى حد إبهار المشاهدين في العديد من المشاهد، حين كانت تنتاب “مينور” نوبات اليأس القاتل مع الشعور بالذنب، وانعدام الأمل في الخلاص، خاصة بعد تفاقم الإحساس لديه بحجم الجرم الذي ارتكبه بعد أن بدأ يميل عاطفيا لأرملة القتيل التي أدت دورها بتميز واضح وأداء شديد العمق الممثلة “ناتالي دوريمر”.

البروفيسور والرجل المجنون

نجح المخرج الإيراني “فرهاد سافينيا” في إدراك الأجواء الخاصة بتلك الفترة الزمنية، وإن بدا التباين واضحا بين المشاهد الداخلية والخارجية بسبب الصورة الضبابية التي غلفت معظم المشاهد الخارجية، لإضفاء الأجواء التاريخية لحقبة القرن التاسع عشر في إنجلترا.. كذلك كانت الملابس في الفيلم على درجة كبيرة من الإتقان والملاءمة، مع الموسيقى الرائعة لـ “بير ماكريري”.

مما يؤخذ على العمل أن بعض مشاهد الحوار بين “موراي” وأبنائه بدت مقحمة، وليست على مستوى ضخامة العمل الذي يعكف عليه الأب، كما بدا إظهار النزعة الدينية لدى الأب مفتعلا في أكثر من مشهد، لكن ذلك لا ينتقص من جودة العمل.. وربما كان من الأفضل إبراز بعض الجوانب اللغوية بشكل أدق وأعمق بوصف الفيلم يتناول قصة وضع أشهر القواميس في العالم.

من المؤسف أن الخلاف قد دبّ أثناء تصوير الفيلم بين المخرج و”جبسون” من جهة والشركة المنتجة من جهة أخرى، بسبب تجاوز الميزانية المقررة للفيلم، ومطالبة المخرج والبطل بأيام إضافية للتصوير في جامعة أكسفورد.. تطور الأمر بعد ذلك لنزاع قضائي حُسم لصالح الشركة.. ما جعل “جبسون” يقرر مقاطعة الفيلم، وعدم الحديث عنه نهائيا؛ لعدم رضائه عن الصورة النهائية للفيلم.

لكن الفيلم يعتبر دراما تاريخية أكثر من جيدة، فيما يخص العمل بالقاموس الشهير، أما بالنسبة للجانب المظلم من الفيلم، وهو مأساة دكتور “مينور” فكانت أحد نقاط القوة في العمل دون شك، ويرجع ذلك لبراعة “شين بين” في أداء الدور، وتمكنه في إبراز الحالات النفسية المتباينة للشخصية.

من المعروف أن “ميل جبسون” قد عمل لأكثر من ثمانية عشر عاما على هذا الفيلم، منذ نجح في شراء القصة من المؤلف “سيمون وينشستر” في نهاية التسعينات، وكانت بصماته واضحة على العمل، الذي استدعى أداءات “جبسون” الخالدة في العديد من الأدوار، وكذلك دوره في الإخراج الذي لا يستطيع أحد إنكاره، رغم تفوّق رؤية المخرج الإيراني “فرهاد سافينيا” الذي شارك في كتابة السيناريو أيضا.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock