ربما لم يُخطئ يوسف إدريس عندما وصف الصحافة المصرية اليوم، بأنها “مهنة مَن لا مهنة له”!
ويبدو أن ذلك الوصف ليس جديدا في عالم الصحافة، فقد سُئل الأستاذ محمد حسنين هيكل ذات يوم عن حال الصحافة فأجاب ساخرا: “في كل صباح اقرأ الصور، وأتفرج عَلى المقالات”!
ويبدو أن تلك الحالة مُزمنة في تاريخ الصحافة المصرية، فقد سبق الجميع الأستاذ العميد طه حسين بأن “الصحافة اليومية يكتبها الجهلة ويقرأها الأميون”!
ربما يكون الأمر فيه قدر من المُبالغة، قالها إدريس اتساقا مع شخصيته الذاتية والحادة، وذكرها هيكل بهذا الوصف الساخر لأنه حريص أن تكون المهنية الحالية على القدر نفسه الذي جعل من صحيفة الأهرام في عصره على أعلى درجة من الاحترافية، الى الدرجة التي منع على صحافييها وكُتابها العمل الإضافي أو الكتابة خارج مؤسسة الأهرام، فقد منحهم من الامتيازات ما يكفيهم، ولا يجعلهم ينظرون إلى الصحافة البيروتي والخليجية ذات المكافآت المُجزية.
وربما تكون كلمات طه حسين تجاه صحافة حزب الوفد في زمن سعد زغلول تعبيرا عن غضب حقيقي، عندما خذلته أثناء معركة كتابه الشهير والخطير “في الشعر الجاهلي” فلم يُنصفه سعد باشا، ولم تُدافع عنه صحف حزبه!
ولكن الأستاذ العزبي يأتي على وقائع مثيرة، في كتابه الجديد “هل يدخل الصحفيون الجنة؟”
وقائع منسوبة إلى الحياة الصحفية والسياسية في مصر خلال عقد الستينيات من القرن الماضي، ووفق رواية أصحابها من صحافيي هذا الزمان، وهم صحفيون كبار بكل معنى الكلمة، وفي ظني أن تلك الكتابات لهؤلاء الكبار، كانت سببا قويا لاتخاذ الرئيس جمال عبدالناصر قراراه بتأميم الصحف الخاصة، ولأسباب أُخرى سوف أذكُرها لاحقا، ذلك القرار الذي عُرف وقتها بقانون تنظيم الصحافة.
يروي الصحفي والكاتب والروائي فتحي غانم صاحب “زينب والعرش” و”الرجل الذي فقد ظله” في كتابه “معركة بين الدولة والمثقفين” الذي صدر منذ فترة، ورغم لغته السهلة والبسيطة، إلا أن ملاحظتي عليه أنه غير موضوعي في بعض جوانبه، لأنه جرّد الوقائع من إطارها التاريخي، حتى وصل به الأمر إلى وصف عملية “تنظيم الصحافة المصرية” في ذلك الوقت بأنها قتل لحرية الصحافة!
ولذلك سوف أعتمد عَلى ذلك النص المنشور في كتاب الأستاذ العزبي.
يقول غانم: “دخلت القاعة في مقر مجلس الوزراء بحي مصر الجديدة يوم 24 مايو 1960، لأجد كبار الصحفيين مثل علي أمين ومصطفى أمين وفكري أباظة وإحسان عبدالقدوس وأنيس منصور بجانب سيد أبو النجا، خبير إدارة الصحف، كأنهم يجلسون في سُرادق عزاء؛ ولكنهم لا يعرفون ما الأسباب التي أدت الى وفاة الفقيد.. كان الفقيد بالقطع حرية الصحافة التي جرى تأميمها في هذا الاجتماع”. ويضيف الأستاذ العزبي نقلا عن ذكريات فتحي غانم بقوله: “حاول إحسان عبدالقدوس أن يتحدث عن فن الصحافة وخشيته أن يحوّل القانون الجديد الصحف إلى نشرات غير مقروءة، فغضب عبدالناصر قائلا: “وهل فن الصحافة يعني الدعارة؟!” واتجه ناحيتي مُضيفا: “إن مجلة صباح الخير تنشر رسوما كاريكاتيرية، للرسام حجازي يظهر فيها الزوج مخدوعا والزوجة تُخبئ عشيقها تحت السرير.. وكنت أنا، أي فتحي غانم، في ذلك الوقت رئيس تحرير صباح الخير واصل عبدالناصر حديثه مُحتداً بلهجة لا تخلو من وعيد قائلا: “إن مصر ليست النساء المُطلقات في نادي الجزيرة، مصر هي كفر البطيخ”.
هرولت كل الصحف المصرية لزيارة القرية الصغيرة القريبة من دمياط التي ذكرها عشوائيا جمال عبدالناصر، فأصبحت صورا ومقالات مُقررة على كل القراء، وأسرع الكاتب المسرحي سعدالدين وهبة بتأليف مسرحيته، كفر البطيخ، التي عُرضت فورا عَلى مسارح الدولة”.
وقائع كثيرة، وانتقادات واضحة ولاذعة وجهها عبدالناصر إلى الصحافة المصرية في ذلك الاجتماع لم يذكرها فتحي غانم في كتابه، وأتذكر البعض منها، وأنا في سنوات الصبا، منها نقد الرئيس عبدالناصر للصحفي أنيس منصور لتغطيته عرضا لأزياء النساء في القاهرة؛ واصفاً بكلمات تخدش الحياء، جسد واحدة من العارضات.. ما أثار غضب الرئيس.
ويأتي الأستاذ العزبي على رواية مثيرة للكاتب الصحفي الراحل عباس الطرابيلي الذي يصفه بأنه كان يعرف المثير والكثير من خبايا الصحافة والسياسة منذ أكثر من ستين عاما، فهو يرى أن عبدالناصر استغل قضية الشيخ سيف والشيخ الفيل، لإلغاء نظام المحاكم الشرعية، بل ووضع يد الدولة عَلى الأوقاف ومُمتلكاتها، وهي قضية استُغل فيها الشيخان لابتزاز المُطلقات أو الساعيات للطلاق.
لكن الأكثر إثارة هو ما يتعلق بحكاية “تاتا زكي” وهي سيدة أرمنية فائقة الجمال، وذات شخصية ساحرة وتتمتع بجاذبية طاغية.
فقد وجّهت دار أخبار اليوم إصدارتها اليومية للحديث عن هذه السيدة المتزوجة التي تنتمي إلى عائلة كبيرة، بينما كان يحبها ويعشقها أحد أقرباء شخصية صحفية كبيرة بدار أخبار اليوم، ويحلم بالزوج منها بعد تطليقها، وتم الاتفاق بمحض إرادتها عَلى إخفائها –إخفاء تاتا زكي– في أحد الفنادق الكُبرى المُطلة على نيل القاهرة، ويتم تسريب بعض المعلومات يوميا عنها وعن محاولات زوجها العثور عليها وإعادتها الى عِش الزوجية.
وأصبحت حكاية “تاتا زكي” هي حديث كل المصريين، وقد دخلت هنا عملية الإثارة الصحفية إلى أقصى ظروفها، وجذبت الحكاية قطاعات كبيرة من القُراء، وشدتهم حتى عن أهم القضايا الحيوية التي كانت تمر بها البلاد في هذه الظروف الدقيقة، وقد أثار هذا سخط عبدالناصر عندما تواصلت الحكاية لفترة كثيرة.. تُنشر خلالها يوميا على صدر صحيفة الأخبار.
ويرى الأستاذ العزبي أن حكاية “تاتا زكي” واهتمام الصحف بها وراء تفكير، ثم قرار الرئيس بتأميم الصحف المصرية كلها في مايو 1960، وهي دار أخبار اليوم والأهرام ودار الهلال وروز اليوسف، أما دار التحرير التي كانت تُصدر جريدة الجمهورية، فكانت بالفعل تحت إدارة الثورة، بل أن ترخيص إصدار الجمهورية صدر باسم عبدالناصر.
ويرى الأستاذ العزبي أن الشقيقين على ومصطفى أمين، اهتما بحكاية “تاتا زكي” ليعوّضا انفراد محمد حسنين هيكل بنشر الأخبار السياسية المُهمة.
وكذلك لم يكن النشر اليومي لحكاية السفّاح محمود أمين سليمان وفق ما جاء في كتاب “مجتمع جمال عبدالناصر” للأستاذ أحمد حمروش وهو الجزء الثاني من موسوعته التاريخية عن ثورة يوليو، سوى أنها تسير بنفس النهج وتلك الغاية، أي تأميم الصحف.. فقد جاء “مانشيت” الأخبار الشهير “مصرع السفّاح” وتحته مباشرة “عبدالناصر في باكستان” سوى الذريعة الأخيرة لقرار عبدالناصر بتأميم الصحافة المصرية.
ويؤكد هذا الرأي أن عبدالناصر، بحسب رؤية الأستاذ العزبي تحدث في خطاب عام عن تأميم الصحافة، ولو حتى تحت اسم تنظيم الصحافة، قد أشار الى هاتين القضيتين:
“الشيخان، سيف والفيل وتاتا زكي” ولكنني أرى، والكلام للأستاذ العزبي أن هذا ولو كان من أسباب قرار التأميم، فإن عبدالناصر كان يُخطط، ومنذ سنوات قبلها لهذا القرار، وربما كان من دوافع ذلك، الدفع بعدد من الضباط الأحرار للدراسة بقسم الصحافة بالجامعات المصرية؛ ليكونوا مؤهلين للقيام بمهمة هذا التأميم، ومنهم محمد علي بشير وسمير زهران وغيرهما”.
من المُهم هنا، الإشارة إلى جانب ما تفضل به الأستاذ العزبي دليلا عملياً لصحة ما ذهب اليه، وهو أن محمد علي بشير، كان العضو المنتدب في مجلس إدارة مؤسسة التحرير التي يصدر عنها العديد من المطبوعات، ومن بينها جريدة الجمهورية، وظل في موقعه هذا لفترة طويلة من الزمن، أقول هذا من واقع معرفتي بتلك الشخصية القوية والحازمة، فقد كان الأمين العام للاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الوحيد آنذاك، بمحافظة الشرقية.. محافظتي.
أتفق مع ما ذهب اليه الأستاذان العزبي وحمروش من ذرائع وأسباب، ولكني أرى أن هذا القرار –قرار تأميم الصحف المصرية– كان حتميا في ذلك الوقت، ففي عام 1960، كانت الثورة قد بدأت التحضير لإطلاق الخُطة الخمسية، وهي الخُطة الأولى للتنمية في تاريخ مصر، والتي تبدأ بسنة 1960، وتنتهي في سنة 1965، فكان من المنطقي أن تكون الصحافة المصرية في يد الدولة، وكانت تجربة عبدالناصر الفاشلة مع الرأسمالية المصرية تدفعه دفعاً لاتخاذ قراره، لا بتأميم الصحف فقط، ولكن تأميم غالبية المؤسسات والشركات التي رفض أصحابها المُساهمة في عملية التنمية غداة الثورة، وبقيت عازفة عن المُشاركة لنحوٍ من سبع سنوات أو أكثر؛ بل رافضة دعوة الرئيس للمساهمة في هذه الخطة، رغم التعديلات الجوهرية في قوانين الاستثمار، التي كانت تصب جميعها لصالحها، بما فيها المُشاركة في إدارة تلك المؤسسات الغربية البريطانية والفرنسية وغيرها، التي تم تمصيرها في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر، في سنة 1956.
من الصعب أن أأتي عَلى كل ما جاء في كتاب الأستاذ العزبي ففيه العشرات من الموضوعات الكثيرة والمُثيرة والجديدة، فضلا عن طريقة الكتابة التي يتميز بها أستاذي دون المئات من الصحفيين، والعشرات من المُبدعين، فهو أقرب إلى الفراشة الذكية والبهية، والتي تكتفي بلمساتها النقية الحنونة، ولكنك تُفاجأ بأنها تركت على يديك عسلا طبيعيا رغم أنها ليست نحلة!
وبرغم هذا الحب الذي أحمله لأستاذي، فأنني أأخذ عليه هذا الأسلوب الجميل، فهو يفترض أن من يقرأ له “فاهم كل حاجة” ولذلك تأتي كلمات الأستاذ سريعة وخاطفة، حتى أنني أقول في سري، “يا ريت كان تفضل عليّ بالمزيد من الحكي والقّصْ والسرد”.
على أي الأحوال، لا أجد ما أختم به سوى حديث الأستاذ العزبي عن اثنين من الرجال، أحبهما شديد الحب، وكانا زميلي عمل له في جريدة الجمهورية لسنوات طويلة، وهما الأستاذين مصطفى بهجت بدوي وصلاح عيسى الأول كنت أتمنى أن أتشرف بمعرفته، أما الثاني فقد أكرمني الله بصداقته ومحبته، وكان حزب التجمع بيتنا وأملنا، رحمهما الله، وبارك الله في عمر أستاذي، الذي قال عنهما أصدق الكلمات وأطيب المشاعر.
“لم أجد أفضل من الكاتب الصحفي المؤرخ صلاح عيسى لِيَدلني على كتاب “حكايات سبتمبر 1942” للضابط الأديب الشاعر مصطفى بهجت بدوي، فقد عملا معا وأحب كل منهما الآخر وأحترمه، وأشهد أنه في أيام مطاردة البوليس السياسي لصلاح وما أكثرها، كان مصطفى بهجت بدوي رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير الجمهورية يستكتب صلاح عمودا يوميا بتوقيع “المقريزي” ذلك أن اسمه كان ممنوعا من النشر، وعندما كان صلاح يضطر للاختفاء كان مصطفى بهجت يكتب العمود حتى لا يختفي يوما، وأصبحت مقالات “المقريزي” في كتاب، عندما توقفت مباحث أمن الدولة عن ملاحقة صلاح عيسى، ظهرت في كتاب تحت عنوان “هوامش المقريزي”.
يستكمل الأستاذ العزبي الحديث عن صديقيه: “يقول صلاح عيسى أنه لم يندهش عندما وجد اسم مصطفى بهجت بدوي في طليعة أسماء الصحفيين الذين نقلهم السادات في إعصار سبتمبر 1981، إلى العمل في وظائف غير صحفية، رغم أنه كان من طليعة الضباط الأحرار، وكان منطقيا تماما أن يقول الثائر القديم لزوجته “لو خلت القوائم من اسمي كنت سأشعر بالمهانة”.
وقتها، في سبتمبر 1981، كان صلاح عيسى من المُعتقلين، ومصطفى بهجت بدوي من المنقولين، وأستاذي محمد العزبي بارك الله في عمره، ممن يمثلون الضمير الوطني في أجمل وأكرم تجلياته.