رؤى

الولايات المتحدة والسعودية.. دروب متقاطعة ومسارات شائكة (2)

في بداية حكمه واجه الملك سعود في ١٧ نوفمبر ١٩٥٣، إضراب عمال شركة آرامكو بسبب فشل المفاوضات مع الشركة، حول رفع رواتبهم وتلبية مطالبهم. وقد أصدر سعود أحكاما قاسية واعتقل منظمي الإضراب محاولة منه للسيطرة على الموقف، إلا أن العمال واصلوا إضرابهم وقاموا بمهاجمة الشركة وآليات القاعدة الجوية في الظهران، ولم يتم التوصل إلى تسوية إلا بعد إعلان الشركة موافقتها على التفاوض مع اللجنة العمالية، والقبول بأكثر مطالب المضربين. أُرجع السبب في هذا الإضراب إلى تسرب الأفكار الثورية إلى صفوف العمال، عن طريق اختلاطهم بالعمال العرب وخاصة المصريين والفلسطينيين المؤمنين بها.. فضلا عن دور المعلمين المصريين في إثارة مشاعرهم وبث الفكر الثوري في عقولهم.

كان ثمة فتور قد انتاب العلاقات الأمريكية السعودية منذ بداية الخمسينات، بسبب السياسات الأنجلو أمريكية التي اعتمدت تكوين الأحلاف العسكرية وسيلة للحفاظ على النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط بعيدا عن المد الشيوعي.. وقد طرحت آنذاك مجموعة من المشاريع مثل: التصريح الثلاثي عام 1950، ومشروع قيادة الشرق الأوسط ومشروع الحزام الشمالي  الذي تطور فيما بعد إلى حلف بغداد.

كان العراق هو محور مشروع “دالاس” ورأى السعوديون أن تقوية العراق عسكريا يعد بمثابة تهديد مباشر لهم، وأنه نذير بعودة العداء بين الأسرتين الهاشمية والسعودية.

كانت مصر الثورة قد رفضت كل تلك المشاريع كونها مشاريع استعمارية تحاول إحكام السيطرة على مقدرات الوطن العربي ومستقبله.. اتجهت السعودية (المهددة) نحو مصر في محاولة لإحداث حالة من توازن القوى بعد محاولات العراق ضم سوريا والأردن ولبنان إلى الحلف.. خاصة بعد تفاقم مشكلة منطقة “البريمي” الغنية بالنفط والتي ادعت بريطانيا تبعيتها لعُمان للاستيلاء عليها وانتزاعها من أيدي السعوديين.. وانتهى الأمر باحتلال بريطانيا للمنطقة، بينما غضت أمريكا الطرف تماما عن المشكلة؛ نظرا لحاجتها الماسّة للدعم البريطاني في مواجهة المد الشيوعي.

وفي محاولة منها لمناوأة المصالح الامريكية في المنطقة ردا على هذا التجاهل– عقدت السعودية اتفاقا لنقل النفط في فبراير من العام 1954، مع رجل الأعمال الشهير “أوناسيس” لكن آرامكو عارضت هذا الاتفاق، وحاولت عرقلته بشتى السبل؛ إذ عدّته مخالفة وانتهاكا واضحا لحقوقها وامتيازاتها.. تدخلت الإدارة الامريكية بشكل رسمي لحل النزاع وأرسلت مذكرة في فبراير 1955، إلى الحكومة السعودية بيّنت فيها معارضتها للاتفاقية، لخطورتها وانعكاساتها السلبية على العلاقات بين البلدين، وضرورة حل النزاع ولو باللجوء للتحكيم الدولي.. الذي حكم لصالح آرامكو التي كانت قد أجهضت المشروع فعليا بممارسة ضغوط هائلة في أسواق النفط العالمية؛ لمنع التعامل مع شركات أوناسيس العاملة في المجال.. ما اضطر السعودية في نهاية المطاف إلى التخلي عن المشروع.

الملك سعود مع الزعيم جمال عبد الناصر في القاهرة 1956
الملك سعود مع الزعيم جمال عبد الناصر في القاهرة 1956

لم يكن التقارب السعودي المصري موضع ترحيب من جانب الإدارة الأمريكية لا سيما بعد تقارب مصر مع الكتلة الاشتراكية، وتأميم عبد الناصر لقناة السويس في ٢٦ يوليو١٩٥٦، حيث بدأت تلك الإدارة العمل من أجل إبعاد الملك سعود عن الرئيس عبد الناصر. وجاءت هذه المساعي الأمريكية في وقت بدا فيه الملك سعود يشعر بالقلق من تنامي نفوذ عبد الناصر وانعكاسات ذلك على الوضع الداخلي في المملكة العربية السعودية. فقد أدى تأميم القناة إلى تزايد الدعوات العربية لتأميم شركات النفط الأجنبية في الوطن العربي، ومنها شركة نفط آرامكو في السعودية، كما ارتفعت الأصوات المطالبة بإغلاق قاعدة الظهران الجوية.. وقد رافق كل ذلك قيام المظاهرات في جدة والرياض والإحساء؛ تهتف بحياة عبد الناصر وتدعو إلى تأميم النفط السعودي، فضلا عن شعور الملك سعود بتزايد النفوذ المصري داخل جيشه الذي أشرفت على تدريبه بعثة عسكرية مصرية.

في اجتماعه الذي عُقد في ٨ يناير ١٩٥٦، ناقش مجلس الأمن القومي الأمريكي كيفية إبعاد الملك سعود عن تأثير عبد الناصر، فاقترح “ريمون هير” أحد أعضاء المجلس أن أفضل طريقة لإبعاد السعودية عن مصر هو تبصير السعوديين بما سمي آنذاك بالخطر المصري الانقلابي وبأن هذا الخطر إذا ما تُرك إلى مداه من شأنه التأثير على كل العروش في المنطقة.. بعد مضي أقل من عشرين يوما على هذا الاجتماع أرسل السفير الامريكي في المملكة رسالة إلى السيد “جورج آلان” مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون الشرق الأدنى، تضمنت نتائج المباحثات التي تمت بينه وبين الملك سعود، وقد دعا السفير حكومته إلى الوقوف إلى جانب الملك سعود في مواجهة الدعاية التي مارستها بريطانيا في بلاده بسبب مشكلة “البريمي”  بعد أن أبدى سعود استعداده لمقاومة الإغراءات السوفيتية إلى النهاية، وفي ضوء ذلك قررت الإدارة الأمريكية اتخاذ ما يلزم من الإجراءات لإعادة ثقة الملك سعود من جديد في الولايات المتحدة وحاولت إرضاء السعوديين من خلال موافقتها في ١٨ فبراير١٩٥٦، على إرسال (١٨) دبابة خفيفة امريكية من طراز ( أم – ٤١ ) إلى السعودية.. لكن الخطط الأمريكية تعطلت باندلاع العدوان الثلاثي على مصر، واضطرار سعود لمساندة مصر التي خرجت منتصرة من الحرب مخلّفة وراءها واقعا جديدا وصفته الإدارة الأمريكية بالفراغ الأمني في المنطقة الواجب ملؤه سريعا قبل أن يملأه الاتحاد السوفييتي، فسارعت إلى إصدار ما عُرف بمبدأ “أيزنهاور” والذي تضمن الأسس الامريكية الجديدة للتعامل مع منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك التدخل العسكري، واستخدام القوة لمواجهة الأخطار التي تهدد المصالح الأمريكية في المنطقة.

الرئيس الأمريكي نيكسون والملك سعود
الرئيس الأمريكي نيكسون والملك سعود

رافق إعلان هذا المبدأ الذي وافق عليه الكونجرس بعد مناقشات مطولة– نشاط دبلوماسي أمريكي واسع لإقناع دول المنطقة بقبوله.. أدركت الولايات المتحدة استحالة إقناع الأطراف العربية معا.. لذلك بدأت بالسعودية معوّلة على دور الملك سعود في تسهيل تقبل أقطار المشرق العربي لمبدأ “أيزنهاور” حيث كتب الرئيس الأمريكي في المشورة التي قدَّمها إلى الكونجرس قائلا: “إن الملك سعود هو الشخص الوحيد الذي يستطيع بنجاح أن يتحدى ناصر في قيادة الوطن العربي، ويحول حركة القومية العربية من اتجاه الاتحاد السوفييتي إلى اتجاه الغرب”.

أعقب ذلك توجيه الدعوة للملك لزيارة الولايات المتحدة، فلبى الدعوة في 30 يناير 1957، واستقبل استقبالا كبيرا أعقبته المحادثات التي تركزت حول طرق إجهاض الدور المصري في المنطقة، إلى جانب تطمينات بعدم السماح باستمرار الاعتداءات الصهيونية على الدول العربية، وأن أمريكا ستقف أمام التوسع الصهيوني في المنطقة.. في حين قدّم سعود مذكرة تفصيلية تضمنت ما دار في اجتماع القمة الرباعي الذي عُقد في القاهرة في ١٩ يناير1957، ما اعتبر خرقا واضحا لما تم الاتفاق عليه في الاجتماع.. ما أثار غضب مصر والدول المعنية.

وفور مغادرته واشنطن أصبح سعود داعية لمبدأ “أيزنهاور” مثلما أراد الأمريكان؛ فزار أثناء رحلة عودته، المغرب وتونس وليبيا والسودان والأردن والعراق في محاولة لإقناع حكامها بحسنات مبدأ “أيزنهاور” لكنه واجه في المقابل معارضة مصرية شديدة؛ الأمر الذي جعل مساعيه محدودة الأثر.. وكانت الأوضاع الإقليمية قد ألقت بظلال قاتمة على العلاقات بين البلدين بسبب الموقف الأمريكي من الملاحة في خليج العقبة، والسماح لسفن الصهاينة بعبوره، بوصفه ممرا دوليا حسب وجهة النظر الأمريكية؛ بينما رأت السعودية أنه “خليج مغلق ومياهه إقليمية”.

الملك الأردني الحسين مع الرئيس عبد الناصر بالقاهرة
الملك الأردني الحسين مع الرئيس عبد الناصر بالقاهرة

من جانب آخر طلبت الإدارة الأمريكية من سعود اتهام سوريا ومصر بالتدخل في أزمة الملك الأردني حسين وما اتخذه من إجراءات ضد حكومة النابلسي، ولم يستطع سعود إدانة الدولتين، وإن كان قد بادر بتقديم 5 ملايين دولار للحسين دعما لموقفه المنحاز للولايات المتحدة والقابل لمبدأ “أيزنهاور”.

زاد من سوء العلاقات تطور الوضع في سورية بعد إعلانها رفض مبدأ “أيزنهاور” رسميا، ما دفع الولايات المتحدة إلى افتعال الأزمات والمشكلات على الحدود السورية التركية، ومحاولة تنفيذ انقلاب عسكري أعلنت سوريا عن كشف مخططه في 13 أغسطس 1957، أعقب ذلك تحريض السعودية على الانحياز للموقف المعادي لسوريا؛ فلم يستطع الملك السعودي إعلان ذلك، وقال أن العلاقات بين بلاده والولايات المتحدة لن تكون على حساب القومية العربية.

 ومع بزوغ شمس الوحدة المصرية السورية، عاد التقارب الأمريكي السعودي من جديد لإجهاض الوحدة التي سيكون لسعود دور كبير في إنهائها في 28 سبتمبر عام 1961.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock