إثر اجتماع القوتلي وعبد الناصر بالقاهرة في الأول من فبراير 1958، أعلن اتحاد القطرين، وحُدد يوم الحادي والعشرين من نفس الشهر للاستفتاء على الوحدة.. تحرَّكَ سعود سريعا بإيعاز أمريكي لإجهاض المشروع؛ فدفع مبالغ مالية كبيرة لبعض الضباط بالجيش السوري لتنفيذ انقلاب عسكري، وضرب الطائرة المقلَّة للرئيس عبد الناصر في الجو.. لكن المخطط باء بالفشل، وقد ذكر الرئيس عبد الناصر تفاصيل تلك المؤامرة في الخطاب الذي وجّهه إلى الشعب السوري في الخامس والعشرين من نفس الشهر.. ما جعل الملك السعودي في أسوأ وضع داخليا وخارجيا.. الأمر الذي فرض عليه القبول بفيصل رئيسا للوزراء ذي سلطات موسَّعة.. ثم كانت ثورة الرابع عشر من تموز من نفس العام في العراق، لتؤجج المخاوف السعودية من انهيار الأنظمة الملكية تباعا في المنطقة، وتحاول أمريكا ومعها بريطانيا تغيير الوضع على الأرض بإنزال المارينز في بيروت في اليوم التالي للثورة بحجة حماية نظام الرئيس كميل شمعون، بينما أنزلت بريطانيا قوات في الأردن بطلب من الملك الحسين قبل أن تعقد البلدان اجتماعا في السابع عشر من يوليو إلى الحادي والعشرين من نفس الشهر بواشنطن لبحث الصيغة الملائمة للتعامل مع النظام العراقي الجديد.
بعد فشل ثورة الشواف في الموصل وكركوك في مارس 1959، وتنفيذ ما عُرف بمذبحة الدملماجة التي أعدم فيها سبعة عشر شخصا من خيرة رجالات الموصل، تزايدت مخاوف سعود مجددا؛ ما دفعه لمطالبة أمريكا بالتدخل العسكري في العراق، ورُفض الطلب الذي كان تنفيذه غير مطروح في اتفاق واشنطن الذي سبقت الإشارة إليه.
بدا الأمر مقلقا للسعوديين ليس من ناحية العراق ونظامه الجديد فقط، إذ كان اليمن يغلي بالثورة ومحاولات الانقلاب على حكم الأئمة، إلى أن نجح الضباط الأحرار اليمنيون في الإطاحة بنظام الإمام في السادس والعشرين من أيلول سبتمبر من عام 1962، بدعم من مصر عبد الناصر.
في تلك الآونة شهدت العلاقات الامريكية السعودية توترا ملحوظا؛ وذلك بسبب المحاولات الأمريكية للتقرب من الرئيس عبد الناصر، كانت السعودية قد اعتبرت نظام عبد الناصر معاديا لها بعد الدور المصري في اليمن، واعتبار عبد الناصر نظام آل سعود نظاما رجعيا مواليا للقوى الاستعمارية؛ يشكل أحد أهم أدواتها في المنظفة التي كانت تشهد مدا ثوريا تقدميا اشتراكيا، ودعما مباشرا من الاتحاد السوفييتي للعديد من الأنظمة الثورية في المنطقة. وكان النظام المصري قد حمَّل الملك سعود مسئولية الفشل في دفع الولايات المتحدة لدعم المطالب العربية باعتبار خليج العقبة مياه إقليمية عربية مغلقة أمام سفن العدو الصهيوني، وسارعت مصر بالاعتراف بالجمهورية اليمنية بعد قيامها بيومين فقط في سبتمبر1962، وكان مما فسرته السعودية بالانحياز الأمريكي لنظام عبد الناصر على حساب العلاقات الأمريكية السعودية.. اعتراف الولايات المتحدة بالجمهورية اليمنية في التاسع عشر من نوفمبر من العام 1963، قبل اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي بثلاثة أيام.
وبالرغم من أن السعودية قد احتجت بشدة على هذا الاعتراف إلا أن ذلك لم يؤثر واقعيا على التعاون العسكري بين البلدين، كما أكدت الولايات المتحدة مجددا على التزامها الكامل بالحفاظ على أمن المملكة، وسيادتها على كامل أراضيها، والدفاع عنها طوال فترة الحرب في اليمن التي امتدت لأوائل عام1967.
كان الرئيس كينيدي قد أعاد المعونة لمصر وأضاف إليها مساعدة مالية بعد أن أوقفها الرئيس أيزنهاور على خلفية حرب العدوان الثلاثي، كينيدي أيضا لم يخفِ إعجابه بالرئيس عبد الناصر، وكان يتفهم النزعة الاستقلالية لديه؛ مقتنعا بأن ناصر يبقى الزعيم الأقوى نفوذا في المنطقة، والقادر على تحريك الجماهير العربية على امتداد الوطن العربي، بل كان يرى أنه من المتوجب على أمريكا أن تتعايش مع ناصر، بدلا من محاولات التآمر عليه لإسقاط نظامه، ولم تكن تلك الآراء بالطبع لتروق للنظام السعودي.. تغير الأمر تماما بعد اغتيال كينيدي في دالاس بتكساس، وتولي ليندون جونسون مهام الرئاسة!
شهدت الفترة التي بدأت بتولي الملك فيصل مقاليد الحكم في البلاد عام 1964، تقاربا شديدا مع الولايات المتحدة التي استعادت نهجها الأول تجاه المنطقة العربية بتولي الرئيس ليندون جونسون خلفا لكينيدي، من ناحية كانت السعودية قد عرفت الاستقرار المادي بشكل واضح بعد تزايد عائدات النفط، ما جعلها غير محتاجة للدعم المالي الأمريكي، تسبب هذا في تطلع السعوديين للعب دور أكبر وأكثر تأثيرا في المنطقة، وكان الملك فيصل قد قام ببعض الإصلاحات الإدارية داخل المملكة كانت الولايات المتحدة قد طالبت بها غير مرة، كما أن تعاظم الاهتمام الأمريكي بالنفط السعودي، وتقديم المملكة لكافة الضمانات لتدفق النفط للطرف الأمريكي ساهم بشكل كبير في تحسن العلاقات بعد حالة الفتور النسبي التي شهدتها خلال فترة كينيدي القصيرة التي امتدت لأقل من ثلاث سنوات.
حرص الملك فيصل في كل مناسبة على إظهار دعمه الكامل للحق الفلسطيني بشكل دعائي، وظل على عدائه للقاهرة التي كانت أكبر الداعمين والمؤيدين والمدافعين الفعليين عن الحقوق الفلسطينية؛ ورغم ذلك فإن التحريض على نظام الرئيس عبد الناصر من الجانب السعودي لم يهدأ، وهناك ما يشير إلى أن خطابا – لم يتم التأكد من صحته- وجهه العاهل السعودي إلى الرئيس الأمريكي يحوي طلبا مباشرا بضرورة التخلص من عبد الناصر قبل انقضاء عقد الستينات؛ لأنه بات مهددا للمصالح الأمريكية في المنطقة، بأكثر مما يهدد الأنظمة الملكية وعلى رأسها النظام السعودي.
عقب حرب يونيو 1967، قدمت الولايات المتحدة ما عرف باسم مشروع روجرز للسلام في الشرق الأوسط، وكان من ضمن المساعي الأمريكية لدعم تلك المبادرة، زيارة وزير الخارجية الأمريكي وليام روجرز للسعودية ولقائه بالملك فيصل، الذي ربط وقتها بين قبول السعودية للمبادرة وقبول الفلسطينيين لها.
شكّل إعلان الانسحاب البريطاني من الخليج في العام1968، نقطة مهمة في مسار العلاقات الأمريكية السعودية، فقد بدت الطريق ممهدة أمام الأمريكان لأخذ زمام المبادرة للسيطرة على المنطقة التي كانت أحلام السيطرة عليها ما زالت تراود الخيال السوفييتي، خصوصا بعد الاندحار الأمريكي المذل في فيتنام؛ لذلك اعتمد الرئيس الأمريكي نيكسون استراتيجية تقوم على أساس دعم عسكري قوي لإيران والسعودية في نفس الوقت، ولم يكن الرأي العام الامريكي يقبل بتدخل خارجي جديد لذلك رأت الإدارة الأمريكية ضرورة تأهيل إيران والسعودية عسكريا للقيام بمهام الدفاع عن الخليج مع استعداد الولايات المتحدة لتقديم المساندة البحرية والجوية إذا لزم الأمر.
في ذلك الوقت كانت إيران التي يحكمها نظام الشاه أكثر قربا للولايات المتحدة من السعودية، وكانت لدى إيران دوافع قوية للعب دور شرطي الخليج، وقد أراد نظام الشاه أن يتقاسم ذلك الدور مع المملكة التي لم تبد ارتياحا إزاء ذلك، فكان أن احتلت إيران الجزر العربية الثلاثة ( طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى) ما أثار غضب السعودية، إلا أن الولايات المتحدة تفهمت الدوافع الإيرانية، وقد شرح وجهة النظر الأمريكية وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جوزيف سيسكو في أغسطس1972، أمام الكونجرس وحدد اسباب الدعم الأمريكي في نقاط أهمها دعم التطور السياسي في المنطقة، وتشجيع الدول المقربة على التعاون الإقليمي فيما بينها، والاهتمام بتحديث الجيشين الإيراني والسعودي، مع تكثيف الوجود الدبلوماسي الأمريكي في المنطقة.
في أعقاب حرب أكتوبر عام 1973 قامت المملكة العربية السعودية بتوجيه دول أوبك إلى ضرورة خفض الإنتاج، وبالتالي تقليص كميات النفط العربي المصدرة لأمريكا والدول الغربية الداعمة للكيان الصهيوني، وكان الملك السعودي قد عقد اجتماعا لسفراء المملكة في نفس العام صرح فيه أن الانحياز الأمريكي لإسرائيل قد بات يهدد المصالح المشتركة بين البلدين، وأن على الإدارة الأمريكية الحالية أن تدرك أنها تسير في الطريق الخطأ حين لا تكترث لصداقتها مع العرب، وتتحالف بهذا الشكل مع إسرائيل.. ولم يستمر الأمر على هذا النحو سوى أربعة أشهر إذ تم إلغاء قرار الحظر (التخفيض) في مارس 1974، وأعقب ذلك زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون للرياض في نفس العام، وكان الملك فيصل يؤكد دوما على الدور الأهم للولايات المتحدة في المساعدة على حل مشكلة الصراع العربي الصهيوني، وفي القلب منه القضية الفلسطينية.
وفي الخامس والعشرين من مارس عام 1975، اغتيل الملك فيصل على يد الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز، ابن أخيه.. وقد ذكرت العديد من الأسباب في هذا الصدد منها أن الملك فيصل قد أمر بقتل أخيه الأكبر الأمير خالد بن مساعد الذي قاد المظاهرات والإضرابات في أواسط الستينات، وحاول اقتحام التليفزيون السعودي بقوة السلاح، كما أكدت بعض المصادر أن الاغتيال كان بتحريض من آل رشيد، أهل والدة القاتل الذين نازعوا آل سعود السيطرة على نجد، كما ذكر أن التحريض كان من أبناء الملك سعود الذي خلعه الملك فيصل، وهناك من أشار إلى وجود أصابع لجهات أجنبية في عملية الاغتيال.. باغتيال الملك فيصل انقضت فترة ثرية من العلاقات الأمريكية السعودية حفلت بكثير من التناقضات؛ لتبدأ بعد ذلك فترة جديدة بتولي الملك الجديد خالد بن عبد العزيز.
لقراءة باقي السلسلة: