“ما لم يتوقف الهجوم على مصر بسرعة؛ فلن يكون هناك قوة في الأرض قادرة على حماية نظام نورى السعيد في بغداد، لأن مشاعر الشعب العراقي كلها في حالة نقمة ضد بريطانيا”.
بهذه الكلمات عبّر السفير البريطاني في بغداد “مايكل رايت” في رسالة إلى حكومة بلاده عام ١٩٥٦، عن حالة السخط العارم التي اجتاحت العراق ضد العدوان الثلاثي على مصر في ذلك العام.
لم تصدر كلمات السفير البريطاني من فراغ، فبمجرد بداية العدوان على مصر في أكتوبر من عام ١٩٥٦، انطلقت التظاهرات الحاشدة في العراق؛ منددة بالدول المشاركة في العدوان وحكومة نوري السعيد المتحالفة مع بريطانيا في تلك الآونة.
ويشير دكتور عبدالله فوزي الجنايني في كتابه “ثورة يوليو والمشرق العربي” إلى أن العراق شهد في نوفمبر من ذلك العام مظاهرة حاشدة في العاصمة بغداد، طالبت الحكومة بفتح الباب للمتطوعين للانضمام إلى الجيش المصري والانسحاب من حلف بغداد الاستعماري وقطع النفط عن دول العدوان.
ومن اللافت أن التظاهرات التي حملت طابعا قوميا عربيا؛ تجاوزت الاختلافات المذهبية حيث شهدت مدينة النجف ذات المكانة الرفيعة لدى الطائفة الشيعية؛ سلسلة من التظاهرات والاضرابات المناصرة لمصر، واستخدمت قوات الأمن أقصى درجات العنف لقمع المتظاهرين فيها، وبلغ عدد ضحايا العنف في هذه المدينة وحدها وفقا للجنايني ١٤٠ شخصا.
ولم يختلف الوضع كثيرا في جارة العراق سوريا، فما أن قصفت طائرات العدوان الثلاثي أجهزة الإرسال الخاصة بالإذاعة المصرية؛ حتى انطلق صوت الإذاعي السوري عبد الهادي البكار من إذاعة دمشق ليقول “من دمشق هنا القاهرة”.
كما شارك جول جمال الضابط السوري المنحدر من مدينة اللاذقية، والذي كان طالبًا في الكلية البحرية في مصر، بنسف بارجة فرنسية، واستشهد خلال العملية في نوفمبر 1956، وقام ضابط سوري آخر هو عبد الحميد السراج بتفجير خط أنابيب البترول الذى ينقل النفط العراقي عبر سوريا إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، كشكل من أشكال التضامن مع مصر.
أما في دول الخليج العربي، فقد اتخذت الفعاليات المناصرة لمصر طابع التحدي أيضا لرموز الاستعمار البريطاني في تلك البلدان.
ففي السعودية وكما يذكر نور الدين الحجلاوي في كتابه “تأثير الفكر الناصري على الخليج” خرج العمال والجماهير في التاسع والعشرين من أكتوبر عام ١٩٥٦، وهو أول أيام العدوان في تظاهرة حاشدة من أجل مصر، وطالبوا فيها بقطع النفط عن كل من بريطانيا وفرنسا.
ومع تطور العدوان، أخذت الأحداث طابعا أكثر عنفا في السعودية؛ حيث نسف مناصرون لمصر معامل الأسلحة الفرنسية في منطقة الخرج، وقامت مجموعة من العناصر البعثية بجمع مبالغ نقدية لمصر عبر حملة تبرع وإرسالها إلى الجيش المصري.
أما في الكويت.. فقد اجتمعت لجنة الأندية التي تُمثل المعلمين والخريجين والنادي الثقافي والنادي القومي في الثاني من نوفمبر ١٩٥٦، ودعت إلى الاضراب احتجاجا على العدوان على مصر.
واجتمعت الفئات المختلفة في مسجد السوق الرئيسي في الكويت بعد غلق جميع المحلات والمدارس، وألقى الخطباء كلمات مؤيدة لمصر ولقرار التأميم ومعادية لما أسموه “الإمبريالية”.
وبحلول الثامن من نوفمبر بدأت حملة مقاطعة واسعة للبريطانيين ومؤسساتهم الاقتصادية في الكويت، وتحويل الأموال من بنوكهم إلى بنوك وطنية، وتم إنشاء صندوق تبرعات لإعادة إعمار مدينة بورسعيد.
وفي البحرين شهدت العاصمة المنامة تظاهرات في الأول من نوفمبر، استهدفت المصالح الإنجليزية في البلاد مثل “المستشارية” البريطانية وشركة الخطوط الجوية البريطانية.
وكما في السعودية.. تطورت التظاهرات التي بدأت سلمية إلى شكل أكثر عنفا، حيث شهدت رشقا للمصالح الإنجليزية بالحجارة وإحراق عددٍ من محطات الوقود، ما دعا القوات البريطانية للتدخل بشكل مباشر والتمركز في شوارع المنامة لإخلائها من المتظاهرين.
إلا أن هذا التدخل لم يوقف المظاهر التضامنية مع مصر، مثل المنشورات الداعية إلى مقاطعة السلع البريطانية والفرنسية والامتناع عن تزويد سفن تلك الدول بخدمات الشحن والتفريغ في موانئ البحرين والامتناع أيضا عن تموين طائراتها بالوقود والقوات البريطانية بالمؤن.
أما في قطر.. فأغلق الأهالي الأسواق والمتاجر في العاصمة الدوحة صباح الأول من نوفمبر، وقطعوا أنابيب النفط الواقعة شرقي منطقة أم باب الصناعية.
وفي الثالث من نوفمبر اُعلن إضرابٌ عام، وتزايدت موجة الإضرابات بحلول السادس من نوفمبر في صفوف العمال والطلبة؛ احتجاجا على الإنزال البريطاني الفرنسي المشترك في منطقة القناة.
ولدى خروج مصر منتصرة من أتون العدوان عليها في أواخر شهر ديسمبر عام ١٩٥٦، كان من المنطقي أن يمتد تأثير انتصارها هذا إلى الدول التي تضامنت معها؛ فرحل المستشار البريطاني من البحرين عام ١٩٥٧، وسقط النظام الملكي في العراق عام ١٩٥٨، وسقط معه حلف بغداد الاستعماري.. وبحلول شهر نوفمبر من عام ١٩٦٧، انسحبت القوات البريطانية تحت وطأة الثورة اليمنية من عدن أولى مستعمراتها في المنطقة العربية.