رؤى

الولايات المتحدة والسعودية.. دروب متقاطعة ومسارات شائكة (5)

في مطلع أبريل عام 1981، توجه “ويليام كايسي” مدير المخابرات الأمريكية إلى الرياض؛ لمناقشة الوضع في أفغانستان بعد الاجتياح السوفييتي.. في ظل مخاوف سعودية تتعلق بشأن المخططات السوفيتية في المنطقة – رأت الإدارة الامريكية أن الفرصة سانحة لاستثمار هذه المخاوف في جعل السعودية حليفا قويا لأمريكا، مع محاولات لا تكل بالمطالبة بتخفيض سعر برميل النفط؛ بزعم أن السوفييت يعتمدون على عائداتهم من النفط في تنفيذ خططهم في المنطقة.. وأن كل دولار يزيد في سعر البرميل؛ يعني زيادة مقادرها مليار دولار سنويا تذهب إلى موسكو!

ومع تواصل الدعم السعودي الأمريكي لفصائل المقاومة في أفغانستان؛ تبين أن عدم وحدة الفصائل يبدد كثيرا من الدعم المقدم لها.. وكانت أغلب جهود المقاومة في تلك الفترة دفاعية أمام عمليات هجومية موسعة كانت تشنها القوات السوفييتية.

قبيل وصوله إلى سُدة الحكم ربيع 1982، اجتمع فهد بن عبد العزيز مع “ويليام كايسي” وتجدد الحديث عن ضرورة تخفيض أسعار النفط، ولم يقتنع الجانب السعودي بالمبررات الأمريكية التي رأى أنها لا تصب في مصلحته بأي حال.. وكان المحور الثاني للقاء هو الموقف في أفغانستان، والذي وصفته التقارير الأمريكية بالمطمئن، مع توصيات بزيادة مخصصات الدعم التي ستصل بعد عامين إلى نحوٍ من ربع المليار دولار من الطرف الأمريكي وحده.. في حين أفادت تقارير أن تكلفة الغزو السوفييتي قاربت الستة عشر مليار دولار في الأربعة أعوام الأولى.

الملك فهد وريجان في الطائف
الملك فهد وريجان في واشنطن

في أواخر صيف 1985، اتفق الطرفان الأمريكي والسعودي على خطة تقضي بخفض سعر الدولار، ما خفّض قيمة الصادرات السوفييتية بمقدار الربع، مع التزام المملكة بزيادة إنتاجها من النفط؛ حتى وصل مع حلول الخريف إلى تسعة ملايين برميل يوميا، ووصل سعر البرميل إلى ثلاثين دولارا؛ انخفضت في غضون خمسة أشهر لتصبح اثني عشر دولارا، ليضيف إلى الخسائر السوفييتية قرابة العشرة مليارات من الدولارات؛ وبحلول عام 1986، انخفضت المبيعات السوفييتية من الأسلحة بنسبة 20% لتضيف إلى خسائر موسكو ملياري دولار أخرى.. الأمر الذي دفع موسكو إلى تحذير فهد من التمادي في خفض سعر النفط، داعية إياه إلى اجتماع سري في جنيف لمناقشة وسائل تثبيت الأسعار.. وعندما حل بندر بن سلطان ضيفا على جورباتشوف في الكرملين شتاء 1988، لتأمين انسحاب مشرّف لموسكو على حد قوله؛ كانت الخسائر على كافة الأصعدة قد أجبرت السوفييت بالفعل على اتخاذ قرار الانسحاب من المستنقع الأفغاني، قبل نحو عامين.. تحديدا في نوفمبر 1986.

وبالقرب كان أتون الحرب العراقية الإيرانية قد اشتعل.. وكانت المملكة قد توقفت بصورة ما عن محاولات استرضاء النظام الإيراني الجديد، بعد توالي أزماته مع الولايات المتحدة.. وكانت أنباء قد ترددت بشأن عرض الرئيس العراقي أمر إعلان الحرب على إيران، على فهد أثناء زيارته للطائف في الخامس من أغسطس1980، ولكن الأخير نصحه بعدم الإقدام على ذلك قائلا: إذا كان قرار بدء الحرب بيدك؛ فإن قرار إنهائها لن يكون بيدك.. وكان الانقسام الإيراني آنذاك على أشده، لذا نصح فهد، صَدامًا بعدم التعويل على ذلك، لأن الإيرانيين سيصبحون يدا واحدة وسوف ينحون خلافاتهم، فور إعلانه الحرب على بلادهم.

الانسحاب السوفييتي من أفغانستان
الانسحاب السوفييتي من أفغانستان

شكلت الحرب العراقية الإيرانية للسعودية معضلة كبرى تمثلت في خطورة نجاح صدام في مخططه؛ لأن ذلك سيؤذن بتفكك إيران ما يعني المزيد من التدخل السوفييتي فيها، أما إذا ما نجحت إيران الثورة في رد الهجوم العراقي، وتحقيق انتصار خاطف؛ فهذا يعني تعاظم الخطر الإيراني على بقاء ممالك ومشيخات الخليج وعلى رأسها السعودية.. ربما رأى السعوديون والأمريكيون أن إطالة أمد الصراع بين الدولتين، مع انحساره وتقليص مساحته وآثاره هو الأفضل للحليفين.. لذلك كان الدعم السعودي للعراق بعد استيعاب إيران للهجوم الأول الذي كان على أربعة محاور حدودية، بالتزامن مع ضربة جوية سيئة لم تحقق الهدف منها – والتعامل معه والسيطرة عليه، وتحقيق بعض المكاسب على الأرض، وبعد إعلان الاتحاد السوفييتي حظر توريد أسلحته للعراق الذي تبددت آماله في تحقيق انتصار سريع في غضون أيام – كان هذا الدعم بشكل مباشر، من خلال تقديم السلاح للجيش العراقي، وبشكل غير مباشر بتشجيع كل من مصر والأردن على مساندة العراق، وتقديم كافة صور الدعم له في حربه مع “العدو الفارسي”.

رأى الطرف الأمريكي أن التدخل المباشر لصالح العراق سيؤدي إلى تدهور الوضع بصورة غير مرغوبة؛ لذلك أعلنت إدارة الرئيس كارتر أنها تقف على الحياد وتؤكد على مبدأ عدم التدخل، كما حرص وزير الخارجية الأمريكي عند لقائه بنظيره السوفييتي جروميكو على الحصول على تعهد من موسكو بالتزام الحياد تجاه هذه الحرب.

فهد وصدام الطائف أغسطس 1980
فهد وصدام الطائف أغسطس 1980

وعندما وصلت إدارة ريجان إلى البيت الأبيض، أعادت التأكيد على مبدأ الحياد، مع التشديد على أن هذا لا يعني لامبالاة أمريكا بمآلات الصراع القائم، وأعلن ألكسندر هيج وزير الخارجية أن الولايات المتحدة مصممة على حماية أصدقائها ومصالحها التي يتهددها استمرار الأعمال العدائية في الخليج.. وكان تزويد السعودية بأسلحة دفاعية متطورة بالإضافة إلى أربع طائرات “أواكس” بموافقة الكونجرس، إيذانا ببدء السعي لتكوين تحالف استراتيجي إقليمي أطلق عليه التوازن الاستراتيجي.. ويبدو أن التلميح لدور إسرائيلي في هذا التحالف، هو ما جعل السعوديين يرفضون المقترح بشدة في السر والعلن.

على عكس ريجان ووزير خارجيته، كان وزير الدفاع الأمريكي كاسبر واينبرجر يرى أدوارا متعددة من الممكن أن تلعبها السعودية ذات الثقل الكبير في محيطها العربي والإقليمي، كما أن ما تمثله المملكة من أهمية كبرى للمصالح الأمريكية في المنطقة، يفرض على الإدارة الامريكية بذل الكثير من الجهود لدفع المملكة للقيام بتلك الأدوار خاصة فيما يتعلق بإحباط محاولات التدخل السوفييتية في المنطقة.. حسب تصريحات نشرت لواينبرجر في نيويورك تايمز في سبتمبر 1981.. وكان وزير الدفاع الأمريكي ينطلق في رأيه هذا من يقين بأن تأخر الولايات المتحدة في الاستجابة لطلبات الشاه هو ما فتح الطريق أمام نظام معادٍ للولايات المتحدة للإمساك بزمام الأمور في إيران.

بندر بن سلطان وميخائيل جوربا تشوف
بندر بن سلطان وميخائيل جوربا تشوف

كانت نذر الهزيمة قد ظهرت بوضوح لصدام بعد انسحابه من المناطق التي احتلها، لكن الجيش العراقي استعاد تماسكه وارتفعت معنويات جنوده مجددا أثناء رد الهجوم الإيراني الذي استهدف الأراضي العراقية، وفشل الإيرانيون  فشلا ذريعا عند استهدافهم البصرة، ليطول أمد الحرب التي صارت حرب استنزاف.. استمر حظر السلاح السوفييتي على العراق لنحو عام ونصف، ثم كان الاجتياح الصهيوني للبنان في يونيو 1982، ضد ما كان ينتظره السوفييت الذين خشوا بعد هزيمة سلاح الجو السوري، ضياع سمعتهم نهائيا في المنطقة، لتقرر موسكو في شتاء 1982، إعادة 1200 خبير سوفييتي إلى العراق، واستئناف إرسال السلاح إلى بغداد.. فيما زودت المخابرات الأمريكية العراقيين بمعلومات وصور الأقمار الصناعية؛ محددةً بعض الأهداف الاقتصادية والمنشآت الحيوية التي على العراقيين  تدميرها في الداخل الإيراني.. وبينما كان الأمريكيون مشغولين بترجيح كفة العراق، كان الإيرانيون قد ساهموا بدور كبير في تسديد ضربة موجعة للولايات المتحدة، بتفجير سفارتها في بيروت في 18 أبريل 1983، ما أسفر عن مقتل 63 شخصا من خبراء وكالة الاستخبارات الأمريكية جمعهم اجتماع في مبنى السفارة.. ما جعل من إنهاء الحرب في الخليج رغبة أمريكية ملحة أعرب عنها وزير الخارجية الأمريكي جورج شولتزأ أثناء لقائه بنظيره العراقي طارق عزيز، عندما التقاه في باريس في العاشر من مايو  من العام نفسه.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock