مقدمة:
يعد المفكر المغربي محمد عزيز الحبابي(1922-1993 ) أحد أعلام الفكر المغربي المعاصر، وقامة فلسفية وأدبية أثرت الحياة الفكرية والأدبية في المغرب والعالم العربي. فهو مفكر تنويري عقلاني، وفيلسوف صاحب مشروع فكري متعدد الجوانب والأبعاد، امتزجت فيه الفلسفة بالرواية والقصة والشعر، بأفق إنساني وتحرري، عمل فيه الحبابي على إعادة تأسيس قواعد جديدة للتضامن الإنساني بمعايير اجتماعية وأخلاقية. من منظور تحرري وذلك من خلال الاعتماد على معطيات نفسية ووجودية، ومن هنا طور مذهبا فلسفيا انطلاقا من ربطه بتطلعات العالم الثالث وطموحاته في الاستقلال والنهضة والتقدم.
لقد مزج الحبابي بين الفكر الفلسفي والأدب، ووصل إلى اللائحة القصيرة لجائزة نوبل حيث كان قاب قوسين أو أدنى من الفوز بجائزة نوبل في الأدب عام 1987. وفي هذا السياق نشير إلى تأثر الحبابي في مشروعه الفلسفي بالفكر الفرنسي، فهو خريج جامعة السوربون، لكنه لم يكن أبدا الابن البار للمدرسة الفرنسية، حيث انتقد مفهوم الحرية عند برجسون وسجّل ملاحظات على وجودية سارتر.
ورغم ذلك فقد تأثر بمذهب الفيلسوف الفرنسي إيمانويل مونييه في الشخصانية، وأسس مذهب الشخصانية الإسلامية، الذي من خلاله استثمر إرث الفلسفة الإسلامية عند الفلاسفة ابن رشد والغزالي وابن خلدون، فطوّر على هذا الأساس، مفاهيم الكائن والشخص بوصفه ذاتا فردية مندمجة في المجتمع، كما بلور أفكاره حول حرية الشخص ومسئوليته. ولعل مؤلفات الحبابي تكشف بوضوح ارتباط الفلسفة بالأدب، فإذا نظرنا إلى مؤلفاته الفلسفية نجدها تغوص بعمق وتحلل مفاهيم الإنسان والفرد والشخص والكائن بنظرة إسلامية منطلقة من الكتاب والسنة، وبصبغة أدبية بليغة. ومن أهم تلك المؤلفات الفلسفية (الشخصانية الإسلامية) من الكائن إلى الشخص، ومن الحريات إلى التحرر، ومدخل إلى الغدية. أما المؤلفات الأدبية فهي: “بؤس وضياء” “يتيم تحت الصفر” “جيل الظمأ” “إكسير الحياة” و”العض على الحديد”.
ويكتشف قارئ الحبابي أنه كان مؤمنا بفكرة طالما رددها كثيرا، وهي أن الفيلسوف الحق هو الذي يتفاعل مع ظروف وواقع حياته. وهذا ما نراه في رائعته الأدبية “العض على الحديد” حيث عَدَّ المثقف الحق هو الذي يعيش لعصره، ومجتمعه وأن “العض على الحديد” ليس إلا عض على الواقع. وفي هذا الإطار نشير إلى أن أطروحته الفلسفية المشهورة الشخصانية الإسلامية مشدودة إلى الواقع والثقافة العربية الإسلامية التي ينتمي إليها. أيضا لا يفوتنا الإشارة الى عشق الحبابي للأدب جعله يؤسس اتحاد الكتاب المغربي وينتخبه الأعضاء رئيسا له عام 1961.
الشخصانية الإسلامية وأفق الغدية
بداية نشير إلى أن مذهب الشخصانية الإسلامية عند الحبابي؛ يعد محاولة جادة من جانب الحبابي لتجاوز أصول الشخصانية المسيحية، والشخصانية ذات النزعة الفردية من أجل بناء منظور شخصاني؛ ينطلق من استثمار بعض مكونات المرجعية الثقافية الإسلامية، بهدف بلورة ما يمكن من محاورة الفلسفة الغربية وإعادة إنتاج مفاهيمها في ضوء أسئلة الثقافة الإسلامية المعاصرة ومعطيات التراث الإسلامي. وبلور في خضم الشخصانية الإسلامية رؤية غدية للمجتمع المأمول بشروط التحرر والديمقراطية. ومن هنا كانت أفكاره متزنة وموضوعية، فهو لم يتحمس للنظريات التي كانت شائعة في تصوراتها المثالية، بل جاءت فلسفته كرؤية تنطلق من الشخصانية العقلانية إلى الشخصانية الإسلامية في أفق الغدية. وفي هذا السياق بدا الحبابي في مشروعه الشخصانية الإسلامية بالحث عن أصل كلمة شخص في التراث الإسلامي. من خلال ألفاظ تفيد نفس معناها، وقد استخدمت كلمات أخرى للدلالة على هذا المفهوم أو بعض جوانبه ومن بين هذه الكلمات إلى جانب وجود جذر شخص، فرد، إنسان وكلمة وجه، التي تدل على المنظور الخارجي للإنسان واستخدمت لتدل على الإنسان بكل كيانه. ويشير الحبابي إلى أن من أبرز الأمور للدلالة على الشخص كذات مستقلة فعل الشهادة، إذ على كل مسلم أن يشهد بوحدانية الله، وبتصديقه لنبي الإسلام.
من هنا يصبح كل شخص بمقتضى هذه الشهادة موضوعا للأحكام الشرعية بصفته كائن مسئول.. كما حاول في الشخصانية الإسلامية التأكيد على عدم وجود أي تناقض بين مبادئ الفلسفة الشخصانية ومبادئ العقيدة الإسلامية، ذلك أن الإسلام من خلال نصوص الوحي، جعل الإنسان حرا منذ البداية وغير خاضع لأي إرادة توجه اختياره. ومن هنا يشير الحبابي إلى أن الإسلام يمثل مجموعة أنماط مختلفة لكينونة الشخص.
لذا يحيا المسلم من وجهة نظر الحبابي حياة إسلامية حقيقية، عندما يعي ذاته كشعور متجسم في العالم. ولعلنا في هذا السياق نلفت الانتباه إلى حقيقة مهمة، وهي أن الحبابي حمل مشعل الشخصانية الإسلامية في العالم العربي دفعا للعديد من المفاهيم الخاطئة عن الإسلام. أيضا للرد عن بعض الشبهات المرتبطة بالإسلام مثل قضايا تعدد الزوجات والمساواة بين الرجل والمرأة والرق.
لقد اعتمد الحبابي في التنظير للشخصانية الإسلامية على النصوص التوفيقية دون الاستناد أو الاعتماد على الأفكار النظرية. ولعلنا هنا نشير إلى أن الشخصانية عند الحبابي تبدأ حين يرفض الشخص قيم الخضوع والطاعة ويعترف بالعقل والروح كقيمة أعلى من غيرها. ومن أهم الأسباب الدافعة إلى تحليل الحبابي عملية التشخصن هي أزمة الهوية التي عاشتها شعوب المستعمرات وخصوصا مثقفي هذه الشعوب. ولقد ربط الحبابي الشخصانية الإسلامية بفلسفة غدية تتطلع إلى المستقبل وإلى الغد، فالإنسان من وجهة نظره ليس ما نحن عليه، ولكن ما يتوجب أن نكون عليه. إن الحبابي يريد أن ينطلق الشخص إلى آفاق رحبة وواسعة بكل ما لديه من طموحات وتطلعات بعيدا عن فوارق الجنس والعرق والدين. ومن ثم يوضع الإنسان فوق كل اعتبار ويتم التطلع إلى استرداد كرامته وحريته.
خلاصة القول:
أن إعادة قراءة مشروع الحبابي والتحاور معه في ضوء ما يشهده العالم المعاصر من أزمات شبيهة بتلك التي عايشها الرجل وهو يبني عماد صرحه الفلسفي، كفيلة بتحرير العقول من ثقل الحاضر، والدفع بها إلى التفكير في إنتاج غدية الأنا على غرار غدية الحبابي التي تعد إبداعا فلسفيا. كما أن مشروع الحبابي يمثل الاستعداد للتلاؤم مع القادم من مشكلات المستقبل وتأكيد الأمل الكبير في قيام غد أفضل رغم كل الأزمات والمشكلات. إن مشروع الحبابي الفلسفي يمثل نقطة انطلاق نحو غد أفضل ومستقبل مشرق؛ لأن هذا المشروع تضمن بداخله مشاعر ووجدانات وعقل وتحرر، ومزج كل ذلك بالشعر والرواية والقصة والفن بوجه عام. من هنا مثّل هذا المشروع يعد أملا كبيرا في تخطي كل عقبات الواقع والعبور إلى المستقبل برؤية فيها تفكير وعقلانية تميزها عن غيرها من المشاريع ارتباطها بالواقع ومشكلاته، دون الانغلاق في هذا الواقع.