رؤى

زهرة المدائن القدس.. تاريخية المكان (3)

القدس هي المركز في كل محطات الصراع بين العرب وإسرائيل؛ وما كانت القدس ذلك المركز الذي لا مركز سواه، كما كانت في حرب النكسة. ولكن بينما كانت أمة العرب تتوقع أن تقوم تلك الحرب بعيدا عن القدس، وما إن قامت الحرب فعلًا؛ كانت القدس أول عاصمة عربية تسقط كاملة بأيدي الإسرائيليين.

لم تكن القدس حتى على مرمى حجر من إسرائيل؛ كانت أقرب من ذلك، كان الواصل بين “أورشاليم الإسرائيلية” و”القدس العربية” شارعًا، أو مبنى، أو بوابة، أو حائطًا، أو شجرة. ولم تذكر القدس إلا حينما سقطت؛ ولم تكن الحرب الشهيرة بحرب الأيام الستة، في القدس إلا حرب اليومين هما يوما الاثنين والثلاثاء، في الخامس والسادس من يونيو 1967).

النكبة
تهجير الفلسطنيين

احتلال القدس

في هذين اليومين، تمكنت إسرائيل من حسم الحرب في المدينة لصالحها، وذلك بالرغم من دفاع الجيش الأردني. وكما يذكر “فيك فانس” و”بيار لوير”، في كتاب “الملك حسين، حربنا مع إسرائيل 1968” فإنه حينما دخل الجنود الإسرائيليون القدس العربية (البلدة القديمة) داخل الأسوار (صباح اليوم الثالث لحرب العام 1967) أي صباح الأربعاء، لم يكن هناك جندي عربي واحد؛ إذ إن الانسحاب العربي من القدس كان قد تم ليلًا.

ومنذ ذلك الحين، حرص الإسرائيليون على تحويل الأسماء العربية إلى أسماء عبرية، منها بوابات القدس، ومنها أهم الأحياء العربية، ومنها تثبيت الاسم العبري للمدينة، أي “يروشالايم”.

وأيًا يكن الأمر، فإن الاسم الذي يريده الإسرائيليون لمدينة القدس كمدينة عربية من المدن المعروفة منذ أقدم عهود التاريخ، لا يعبر سوى عن المقابل العبري لاسمها العربي القدس.

بيد أن هذا لا يعني أن القدس لم تحمل أسماء أخرى على امتداد تاريخها الطويل؛ بل على العكس، فقد أُطلق عليها أسماء كثيرة. ولعل هذه الأسماء، تعبر في حقيقتها عن الأحداث التاريخية التي مرت بها هذه المدينة.

سيطرة الإسرائليين على القدس عام 1967
سيطرة الإسرائليين على القدس عام 1967

أسماء المدينة

من جهة الأسماء.. فإن من أقدم الإشارات إلى مدينة القدس، نجدها في رسائل تل العمارنة (1450 ق.م) حيث وردت في الرسائل المتبادلة بين “عبده – خيبا” (Abdu – Heba) حاكم المدينة، وبين الملك الفرعوني أمنحتب الرابع وابنه أخناتون (1370 – 1349 ق.م) كما يُعتقد.. ومن هذه الرسائل، نستنتج أن منطقة القدس كانت منطقة حصينة تحرسها قوات مصرية؛ وهناك اعتقاد ساري بأن فرعون مصر أمنحتب الرابع حاول جعلها مكانًا مقدسًا للإله “آتون”.

وقد ظهر اسم “أورشليم” في الكتابات المسمارية، على هذا النحو “أورو – سا – ليم”؛ وهو ما يوافق اسمها على الآثار الآشورية، منذ القرن الثامن عشر قبل الميلاد (أورو – سا – لي – لمو).

وإذا رجعنا إلى نصوص “العهد القديم” كما يؤكد عبد الوهاب المسيري في “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 1999” نجد أن أقدم الأسماء العبرية التي أطلقت على المدينة، هي “يوروشاليم” وهي كلمة كنعانية يبوسية (من مقطع “يارا” بمعنى “يؤسس” أو من “أور” بمعنى موضع أو مدينة؛ ومقطع “شولمانو” أو “شالم” أو “شلم” وهو “الإله السامي” للسلام). ثم اختصرت “يورو شاليم” إلى “ساليم” أو “شاليم” ثم تطور الاسم فصار ينطق “يوروشالايم” (وردت هذه الكلمة “يوروشالايم” في التوراة أكثر من 680 مرة).

وفي الكتابات المصرية القديمة المعروفة بـ”نصوص اللعنة” التي يرجع تاريخها إلى القرنين التاسع عشر والثامن عشر  قبل الميلاد، وردت الكلمة باسم “روشاليموم”. ويتكرر الاسم بشكل “اوروسليمو” في الكتابات الآشورية التي تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد.

أما في كتابات القرن الرابع اليونانية، فقد أطلق عليها اسم “هيروسوليما”. ومن الواضح أن الاسم اللاتيني “جورسالم” جاء من الاسم الكنعاني للمدينة (يورشاليم).

ويذكر ياقوت الحموي المدينة، في معجمه، باسم “أورشلين”، و”أوريسلم” و”أورسلم”. ويشار إليها، أيضًا، بأنها “يبوس” نسبة إلى سكانها من اليبوسيين؛ وهم من بطون العرب الأوائل، الذين نزحوا من الجزيرة العربية (نحو عام 2500 ق.م)، وأقاموا في التلال المشرفة على المدينة القديمة. وقد ورد اسم “يبوس” في الكتابات المصرية القديمة (الهيروغليفية) باسم “يابثي” و”بابتي” وهو –فيما يبدو– تحريف للاسم الكنعاني.

وقد بنى اليبوسيون قلعة حصينة على الرابية الجنوبية الشرقية من يبوس، سميت بحصن يبوس، الذي يعد أقدم بناء في مدينة القدس، أُقيمت حوله الأسوار وبرج عال في أحد أطرافه المسيطرة على المنطقة المحيطة بيبوس للدفاع عنها وحمايتها من غارات العبرانيين. وقد عُرِف حصن يبوس، فيما بعد بحصن صهيون؛ ويعرف الجبل الذي أقيم عليه الحصن بـ”الأكمة” أو هضبة أوفل وأحيانًا بجبل صهيون.

وظل حصن يبوس بيد اليبوسيين، بعد مجيء الموسويين زهاء ثلاثة قرون، وذلك لعجز الأخيرين عن اقتحامه، حتى تولى ملكهم “داود”؛ فجمع الموسويين كلهم وذهب معهم إلى يبوس قائلًا لهم: “من يحتل حصن اليبوسيين يكون رأسًا وقائدًا”. فاقتحمه يوآب بعد مقاومة يبوسية ضارية، فصار رأسًا.

وعندما استولى “داود” على المدينة (حوالي سنة 1000 ق.م)، لم يجد اسمًا خاصًا يطلقه عليها، فسماها “مدينة داود” ولكنها بعد ذلك عادت إلى اسمها القديم.

وفي العهد الروماني، دمر الإمبراطور إيليوس هادريانوس المدينة (عام 135)، وغير اسمها إلى “إيليا كابيتولينا” (“إيليا” هو اسم الإمبراطور، و”كابيتولينا” نسبة إلى “الكابيتول”، أى: معبد جوبيتر كبير آلهة اليونان”). ولكن، عندما اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية، أعاد إلى المدينة اسم “أورشليم” وقامت والدته هيلانة ببناء الكنائس فيها.

في هذا السياق، يتبدى بوضوح أن عديدًا من الأسماء كانت قد أطلقت على مدينة القدس، من أهمها: يبوس، وإيليا. رغم ذلك، فإن المدينة لم تحتفظ إلى الآن سوى باسمها العربي “القدس” والمقابل العبري له: “أورشليم”.

الاسم الإسلامي

وإذا كانت التوراة تطلق على المدينة – إلى جانب لفظ “يروشالايم”  لفظ “شاليم” ومدينة الإله ومدينة السلام و”أريئيل” أي أسد الإله فإن الاسم العربي، يحمل مضمونًا دلاليًا ذا أبعاد أكثر عمقًا.

فـ”القدس” هو الاسم الذي أطلقه المسلمون على المدينة التي تضم بين جنباتها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين (المسجد الأقصى). وهو – في حقيقته – اسمًا روحيًا يقترن بلفظ الجلالة.

فـ”القدس” في اللغة: تنزيه الله تعالى، وهو المقدس القدوس، ويقال قدوس على وزن فعول من القدس، وهو الطهارة.. والقدوس من صفات الله تعالى، فهو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص. وفي التنزيل: “وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ” [البقرة: 30]؛ نقدس لك: أي نطهر أنفسنا لك، وكذلك نفعل بمن أطاعك، أي نطهره.. وبيت المقدس أي البيت المطهر، وهو المكان الذي يتطهر فيه الإنسان من الذنوب.. وروح القدس أي جبريل عليه السلام.

هكذا، اختار العرب المسلمون للمدينة اسمًا يتصل بلفظ الجلالة؛ ولعلها المدينة الوحيدة التي تقترن بلفظ الصفة الإلهية. وهذا لم يأت من فراغ، وإنما يحمل دلالة روحانية وعقيدية واضحة… يتبع.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock